من يزور المملكة هذه الأيام من الحلفاء، يشعر بذهول من نوع خاص إزاء الغياب الذي يأخذ شكل الإهمال غير المسبوق لقضايا اعتاد صنّاع القرّار في العائلة المالكة على وضعها في رأس قائمة أولوياتهم على مدى عقد من الزمن، في الحد الأدنى. فقد توارى الاهتمام بملفات لبنان، والعراق، وفلسطين، فيما فرض مشهد الربيع العربي نفسه كعامل حاسم في تغيير وجهة السياسة الخارجية السعودية لناحية الانسحاب الى الداخل، في إعادة تموضع عاجلة دفعاً لأخطار مباشرة.
حلفاء السعودية في لبنان وفلسطين والعراق يعودون خائبين إلى ديارهم بعد أن يمضوا أياماً بانتظار «استفاقة» أحد صنّاع القرار، الذين يمضون أغلب أوقاتهم إما في تلقّي العلاج عن أمراض مستعصية، أو في النوم لساعات طويلة بفعل المهدّئات، وعلى حد قول أحد الزائرين الفلسطينيين «الجماعة مشغولين بحالهم». إذاً، ليس من قبيل التعسّف أن يجري تجاهل كل الملفات السالفة الذكر والانشغال حد الهلوسة في توفير التحصينات الممكنة إزاء ما أسماه الأمير تركي الفيصل (شرور الربيع العربي).
ولا يزال الحديث، حتى الآن، عن الصورة المباشرة لشكل الدولة السعودية لحظة شيخوختها، ولكن في وسعنا أن نرصد ملامح أخرى غير مباشرة لهذه الشيخوخة، وتتطلب طرقاً هادئاً ولكن جريئاً، خصوصاً إذا ما أريد الإجابة، بعمق نسبي، عن سؤال مصير الكيان.
وتبدأ عملية الرصد من الحقيقة التالية: أن سر وحدة الدولة/السلطة السعودية يكمن في إدامة وتعزيز الانقسامات الداخلية الاثنية، الدينية/المذهبية، المناطقية. ومخطئ من يعتقد أن لبنان وحده دولة الأقليات في العالم العربي، فالسعودية، لمن تشغله معادلة (الأغلبية ـ الأقلية)، هي أكبر دولة أقليات عربية. ولمن يرغب في دراسة المملكة السعودية عليه أن يضع في الاعتبار بنى رئيسية ثلاث: المنطقة/الإقليم، المذهب، القبيلة. ولا يمكن بحال، مهما بلغت قدرة التلفيق المنهجي، الوصول الى نتائج دقيقة لا تأخذ في الحسبان إحدى هذه البنى أو جميعها.
ما فعله المؤسس ـ الملك عبد العزيز في العام 1932، أنه أقام سلطة في هيئة دولة، وبقي الحال كذلك حتى اليوم، بمعنى أن الدولة لم تتحوّل إلى وطن/أمة، وأمكن القول إنها دولة تسلّطية، حيث يسيطر فيها المركز على الأطراف بطريقة ما يعرف في العلوم السياسية (الاحتلال الداخلي ـ internal colonization)، فيما كانت عملية الانتقال إلى الدولة الوطنية تستلزم دعوة المناطق الملحقة للمشاركة في المركز/السلطة، في إطار عملية اندماج وطني واسع النطاق، تفضي إلى تشكيل أمة، وهويّة وطنية، وإجماع وطني..الخ
بدا في ما بعد أن الأمر لا يتعلق برغبة مؤجّلة أو تمرحل متعثّر، فقد كان مشروع عبد العزيز في الأساس هو إقامة دولة سلطانية وكفى، ولم يكن في وارد الانتقال بها الى دولة وطنية، لما تتطلبه من تغييرات بنيوية عميقة في الكيان، لا تقتصر فحسب على وقف مفاعيل مدعيات لاهوتية وتاريخية ما قبل الدولة (ملك الآباء والأجداد)، و(دولة السلف الصالح وتطبيق الشريعة).
ولا يمكن في ظل مصادرة بهذا الحجم، التفكير في هوية وطنية محتملة لهذا التمثّل، فقد باءت كل «الوطنيات» الجادة والمرتجلة بالفشل، لأن من غير الممكن الفصل بين الوطن والبنية الوطنية. ومن العبث أن نمزج خليطاً من مكوّنات فرعية (مذهبية، وإثنية، ومناطقية) لتخرج في هيئة هوية وطنية جامعة.
محاولات تحفيز الشعور الوطني، عبر التهويل من مغبّة تهمة الولاء للخارج، أو حتى عبر تشجيع النفاق السياسي لغرض التمويه على الفشل، ما تلبث أن تموت، لأنها تجري في أرض يباب، وتتطلب عملية إعادة تأهيلها، بنى ايديولوجية وسياسية واقتصادية أخرى جديدة، تؤسس لمشروع الدولة الوطنية.
مهما يكن، فإن الدولة السعوديـة، وبفعل ضمـور الوعي الوطني الناجم عن غياب الدولة الوطنية، واجهت ظاهرتين خطـيرتين: في حال ضعف الدولة تندلع الهويات الفرعية وتعبّر عن نفسها، من بين وسائل إيضاحية أخرى، في الكتابة عن مناطق وقبائل وشخصيات خاصة، أو صدور صحف وقنوات فضائية تعكس ثقافة وهوية جماعة أو منطقة محددة، وفي حال قوة الدولة، تعزف المكوّنات السكانية الأخرى عن التفاعل مع الخطاب الفرعي للدولة.
حقيقة الأمر، أن المملكة تمرّ الآن بمرحلة جديدة، تتعلق، في الأساس، بعوامل توحيدها، أي في عناصر التقسيم المجتمعي. والسؤال الكبير: ماذا لو فقدت الانقسامات الكفيلة لديمومة ووحدة السلطة الدولة السعودية مفاعيلها السياسية والأيديولوجية؟
في سياق المناكفة الثقافية تبدو الإجابة على النحو الآتي: أظهرت العولمة جيلاً عابراً للدول، والأيديولوجيات، إذ صار يتفاعل مع قضايا ويتموضع في إطارات فوق قطرية، وقومية لم تكن واردة في أجندة حتى من اعتقد أن العولمة ستكون نجاة له من أزماته الداخلية أو قناة عبور إلى المناطق التي يراد اختراقها عبر وسائل جديدة. هل فكّر أدعياء الغيب الأميركي بأن حركة الغاضبين في العالم انطلاقاً من واشنطن ستنقّض على مركز العصب المالي العالمي من خلال شعار (احتلوا وول ستريت)؟!
في السعودية، لم يعد الخطاب الفتنوي محرّضاَ فعّالاً لمصلحة السلطة بشقّيها السياسي والديني، فقد شاخت الفتنة مع شيخوخة صانعيها. بدا واضحاً منذ الحرب السعودية على الحوثيين في اليمن في كانون الأول 2010، أن من تنكّب عن الخطاب الوطني الى الخطاب الطائفي اضطراراً بهدف تعبئة الرأي العام المحلي، واجه فتوراً غير مسبوق، ليس بسبب تزامن الحرب مع كارثة سيول جدة والتي مثّلت إخفاقاً إضافياً للدولة، وفشل نظام المحاسبة المزعوم فيها، ولكن أيضاً لأن ثمة قطيعة بين الدولة وغالبية السكّان وهم الشباب. وايضاً، لأن المواطن لا يثق بما يصدر عن الدولة أو من يمثّلها من وعود، فقد تصالح مع نفسه حين نأى عن الخضوع لنوبة جنون غرائزي يقودها مشايخ أتقنوا فن الإثارة الطائفية طمعاً في تحقيق اصطفاف وراء جيش يحارب من أجل قضيّة غير مقدّسة أو على الأقل مجهولة الأهداف.
تتكرر محاولات توليد خطاب طائفي رغم كل مؤشرات أفوله الحتمي حين بدأ ربيع العرب يقترب من المناطق المرشّحة دائماً لحركة احتجاجية، وخصوصاً المنطقة الشرقية من المملكة، التي يقطنها غالبية الشيعة. بكل مستويات الفطنة، ثمة يقين بأن «التهويل الطائفي» أول ما سيحضر في مواجهة الاحتجاجات، وتبعاً له سيكون التدخّل الإيراني، فهكذا يدير النظام السعودي لعبة السلطة مع خصومه. وللمراقب اليوم أن يدرك أن الخطاب الطائفي المشفوع بمخاصمة إيرانية يشي بتصدّع الرواية السعودية حين تكون القراءة مباشرة، ولكن حين نعتمد عمل المرايا المهشّمة في التحليل غير المباشر للأشياء سنقف على أبعاد أخرى، فقد لا يكون السوق التي تعرض فيها البضاعة هو بالضرورة مكان قبض الثمن. ولذلك، فإن قصة المؤامرة الإيرانية لاغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، القصة الواهنة سبكاً وحبكاً، هي محاولة لتشتيت الرأي العام في الداخل الأميركي وفي الداخل السعودي وفي نطاق عمل الربيع العربي، وكذلك هي استدراج لتسويات في ملفات عالقة من بينها الملف السوري (هل من تفسير لتسارع وتيرة الضغوط السياسية على دمشق بعد ساعات من إعلان المؤامرة الإيرانية؟).
تحرّك الخطاب الطائفي فور الإعلان الأميركي عن مؤامرة اغتيال السفير السعودي في واشنطن، ولكن لم يتحرّك المستهدفون بهذا الخطاب. مشكلة من تلبّسهم الهوس الطائفي تكمن في كونهم عجزوا عن وعي الحقائق الجديدة، وعلى رأسها أنه حتى المحرّضات العاطفية والفكرية ليست هي كما قبل عقد أو عقدين من الآن. أولئك الذين شكّكوا في الرواية الأميركية لم يحملوا جنسية إيران، ولم يتبنوا أجندتها، بل هم مقرّبون من صنّاع القرار في العواصم الأميركية والأوروبية، ولكنهم شعروا بأن ثمة توهيناً لعقول الآدميين عبر فبركة رواية تفتقر الى تقنية سردية مكتملة العناصر. دائرة الموج الطائفي لم تتسع كما ينبغي، حتى في الداخل السعودي، وهذا ما تسبب في تجميد الخطوات الكبرى التي تليها. وإذا كان الهدف من العملية اختبار ردود فعل الشارع محلياً وإقليمياً فإن النتيجة مخيبة، لأن المضخّات الطائفية التي كانت تعمل من خلال شبكة المساجد، وخطب الجمعة، والمراكز الدعوية، ووسائل إعلام الدولة فشلت في خلق رأي عام أو مناخ يسهم في تطوير قرارات استراتيجية.
في المحصلة، ان مصادر التعبئة الطائفية تنــضب تدريجاً، وتفــقد قدرتها على تعضيد الدولة السعــودية، ولربما هو ما دفع الأمـير نايف، وزير الداخلية، الى التذكير بصورة دائمة بأن (الدولة السعودية سلفيّة)، وكأن الارتداد من الدولة الوطنية الى الإقليم الخاص (=مركز العقيدة والجماعة بالمعنى العقدي والإثني) يصبح ملاذاً أخيراً وخياراً ارتدادياً حين يتطلّب شدّ عصب السلطة من خلال توثيق عرى الجماعة الحاضنة للفئة الحاكمة.
صراع الجيل الثالث
نتكلم هنا، على وجه الخصوص، عن حقائق باتت قابلة للإخصاب، ولربما القدر العبثي بالنسبة للبعض هو ما يجعل ربيع العرب متزامناً مع خريف الدولة السعودية. لن نقارب هنا خلدونياً المسار الحتمي الذي تسلكه الدول وصولاً إلى انهيارها، فحتى «العصبية»، وفق الرؤية الخلدونية، تهرم بتعاقب الأجيال وصراعها واختلاطها. لا شك بأن الجيل الثالث في العائلة المالكة لن يتقدّم ويتصارع في آن معاً. فإما أن يحافظ على وحدة الكيان واستمراره، أو أن ينغمس أفراده في الصراع عليه. وثمة فرق بين المحاصصة وحفظ الكيان، المعادلة التي حكمت العلاقة بين أفراد الجيل الثاني. عدد المتصارعين مع ترهّل العصبية الناظمة للصراع والحافظة للمنجز من شأنها تقويض التوازن بين الصراع المنضبط لإرضاء الحاجات الفورية والإجماع على إبقاء الصراع تحت سقف الكيان.
ما يقلق بالنسبة للعائلة المالكة هو ليس أولئك المنشغلين بتفسير الصراع ولكن من يعمل على تغيير الواقع، وأن الجيل الثالث بتفاقم خلافاته يزيد في وتيرة النشاط الخلاّق لجيل الشباب، غير المحكوم بوطأة الرمز السياسي والأيديولوجي، ولا بقيود الوسط الاجتماعي، فهو يتحرك بوحي من وعي كوني جديد غير متصالح في الغالب مع الأفكار المسبقة.
الجيل الثالث الذي سيرث السلطة عما قريب، ليس في وسعه أن يوقف حركة التاريخ، كما ليس في وسعه أن يحيل من أفراده رموزاً لدولة وطنية، فكل ما يفشيه ينبئ عن استقالة تاريخية للدولة، وأن بقاء الكيان لا يعدو أن يكون مجرد ساحة استثنائية لتصفية الحسابات، فمن يقترب من أفراد الجيل الثالث يشعر بقرب لحظة مجابهة واسعة النطاق، تنذر بتشظي الكيان.
إنها نظرة متشائمة، نعم هي كذلك، ببساطة لأن الشيخوخة لا تتجدد، ولأجلها بنيت المقابر.
السفير