تأليف :كريم مصلوح
يعرض المؤلِّف سياسة الدفاع الأوروبي في أبعادها المختلفة، ويُناقش المقاربات التي جرى اللجوء إليها لفهمها وتفسيرها من خلال إبراز أهمّ عناصرها، وبيان هشاشة الحدود المنهجية والمعرفية التي تفصل بينها. كما يناقش المؤلف علاقة أوروبا بحلف شمال الأطلسي، ويقف على حدود الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي من خلال استمرار تلك العلاقة، ويسلط الضوء على دور دينامية مسلسل الدفاع الأوروبي البطيئة والمترددة في تأجيل حسم الهوية الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي.
يُظهر الكتاب أن قدرة الاتحاد الأوروبي على تشكيل فهم جديد للسياسة الدولية تبقى محدودة، فهو يصوغ فهمه لها من خلال بنيات غير متجانسة مكوّنة له، ومن ثقافة العمل البيروقراطي المتعدد الأطراف في حلف شمال الأطلسي، ومن خلال بنيات دولية قائمة ومتغيرة.
بيئة سياسة الدفاع الأوروبي
تبلوَر الدفاع الأوروبي من الناحية السياسية من مركّب ثلاثي العلاقة: علاقة فرنسية – أوروبية، وعلاقة فرنسية – أطلسية، وعلاقة أوروبية – أطلسية، من ثمّ فإنّ سياسة الدفاع الأوروبي تشكلت في إطار البيئتين الأوروبية والأطلسية. ومن الناحية الثقافية، تقتسم أوروبا والولايات المتحدة الأميركية الكثير من المشتركات، لكن لا تخلو من كثير من التباينات في التفاصيل. ولعلّ تعريف أوروبا شخصيّتها قد يعرف تباينًا، مقارنةً بتعريف الولايات المتحدة شخصيّتها.
لا يُمكن فهم مسار الدفاع الأوروبي من دون فهم علاقة المركب الثلاثي المذكور، كما أنّ التحولات التي يشهدها الاتحاد الأوروبي لا يُمكن فصلها عن التحوّلات التي تشهدها البيئة الأوروبية والروابط الأوروبية – الأميركية، وهي تشمل الجوانب الأمنية والعسكرية مثلما تشمل المفاهيم الثقافية لتعريف شخصية كلّ واحد منهما ودوره.
وإذا ألقينا نظرة على الماضي، فسنجد أن فرنسا قد استخدمت دبلوماسية ذكية إزاء البلدان الأوروبية، كما استخدمت علاقاتها الجيوسياسية والمادّية والثقافية لتجاوز هزيمتها الاستراتيجية في الحرب العالمية الثانية، فقامت أولًا بحيازة السلاح النووي، وثانيًا بالمساهمة القوية في الاتحاد الأوروبي، وثالثًا بضم كلّ من المملكة المتحدة وألمانيا إلى زواج ثلاثي مميّز، ما زالت مساراته متوتّرة. وهذه سياسة ذكية كما يبدو، تشهد على دور السياسيين الفرنسيين بالرغم من العوائق التي تعترض مكانة فرنسا في عالم اليوم. وليعكسوا هذه المرونة التي تجمع بين تصلّب نزعة السيادة وطموح القيادة الأوروبي، وخلافاتهم مع النزعة الأنكلوسكسونية، أداروا علاقة طويلة ومعقدة بحلف الناتو، بين عضوية محدودة وأخرى كاملة قرّروا اتّباعها بعد العودة إلى القيادة العسكرية المندمجة للحلف (2009). وشكلت طبيعة التوازن الأطلسي عبر حلف الناتو إحدى السمات الرئيسة للبنية السياسية التي أثّرت في تمثّل القوى الأوروبية الرئيسة حول أوروبا الدفاع والتعاون في ما بينها. وهي البنية التي تساهم في تسليط الضوء على التوتر القائم في طبيعة مسار سياسة دفاعية للاتحاد الأوروبي.
كان إقرار مؤسسات الاتحاد الأوروبي بناء قوّة دفاع أوروبية طموحًا أشدّ منه التزامًا بخيارات محدَّدة مسبقًا. فلا يُمكن هذا الجانب أن يمضي من دون أن يتقدّم الاتحاد الأوروبي على الصُعد جميعها، ومنها الحدّ من نزعة السيادة الوطنية. والمسألة الأخرى أنه لا يُمكن أوروبا الدفاع أن تمضي من دون أن يؤثر ذلك في طبيعة علاقاتها ودورها في حلف شمال الأطلسي. ولأنّ كلا الخيارَين الأول والثاني ليسا مُقدَّرَين في الآجال المتوسطة، فإنّ أوروبا الدفاع ستظل مُقيَّدة ومتردّدة؛ إذ إنّ استمرار الاتحاد الأوروبي بمستويات دنيا من الوحدة يؤجّل الحسم فيها، كما أنّ حفاظها على العلاقة التقليدية بحلف الناتو يرجّح كفّة استمرار أوروبا تابعةً استراتيجيًّا للولايات المتحدة.
وقد اتّضح كيف يتعايش خطاب السيادة والقومية الفرنسية جنبًا إلى جنب مع نزعة الدفاع الأوروبي، ونزعة الحفاظ على القرار الاستراتيجي الفرنسي، ولو داخل الناتو، الذي تولّت فيه فرنسا العضوية الكاملة مع بقائها خارج اللجنة النووية. في هذه النقاط المتداخلة تتعايش تناقضات أغلب الدول الأوروبية. وهي تعكس أيضًا تناقضات أوروبا والولايات المتحدة، وعبرهما تناقضات العلاقة عبر الأطلسية.
مقاربة اجتماعية وجيوسياسية لنموذج الدفاع الأوروبي
أضحى فكر تدبير الأزمات مهيمنًا على حقل الاستراتيجية الأوروبية، وتزايدت الأسئلة عن مهمّات القادة العسكريّين، إن بقيَ لهم أي دور حربي يقومون به، أو دور سيكون حكرًا على إدارة سلسلة من الأزمات طبقًا لـ”أخلاق” أوروبية حداثية. ونتيجةً لعناصر مُركبة يُمكن اختزالها في المقولة الشهيرة بضَبطِ النَّفس، تشكّلت ثقافة سياسية تقوم على التعامل مع الأزمات بوصفها أحداثًا وحوادث جارية، وليس حروبًا تقليدية. غير أنّ تنوع الأزمات على المحاور الأوروبية، وآخرها كانت الأزمة الأوكرانية، أظهر أن هناك خشية حقيقية من ظهور أزمات يمكن أن تتحول إلى حروب بين دول. إنّ الأزمات الاستراتيجية هي كلّ الصراعات ذات البعد العسكري التي لم تتحوّل إلى حروب مباشرة بين الدول، الكبرى والأساسية على الأقلّ.
يثير هذا التحوّل تعقيدًا نظريًّا حقيقيًّا عند الباحثين، فهل يقطع التحوّل في النظام الدولي المعاصر مع شكل التحوّل في النظم الدولية السابقة، وهو الذي عُرِف معظمه بتسويات عسكرية كبرى (وستفاليا 1648، فيينا 1815، يالطا 1945)، أم إنَّ تسويات عسكرية كتلك تبقى مركزية في تفسير أي شكل من التحوّل، ومن ثم استمرارية المسار نفسه؟ فلولا حرب العراق مثلًا عام 1991، لما جرى التأكيد بوضوح أنّ نظامًا جديدًا قد تشكل تقوده الولايات المتحدة وحدها، فلعلّ حربًا، ولو من حجم تلك التي شهدها العراق عام 1991 كانت تبدو ضروريّة عند القوة العظمى الوحيدة آنذاك لتأكيد التحول الجديد. أمام ذلك، قد يبدو الأمر أشدّ إفادة بالتنبيه إلى حدود تغيّر طبيعة الحرب بوصفها ظاهرةً مندمجة في التحولات التاريخية، فقد أشرنا ولو بشكل سريع في ما سبق، إلى أنّ الاستراتيجية قديمًا واجهت مشكلات بعضها شبيه بتلك التي تواجهها اليوم. مع ذلك، يمكن القول إنّ إدارة الأزمات وجه مميز من تقلّبات الحرب. وقد نظر مؤلّفون إلى الحرب بوصفها ظاهرةً ذات طبيعة مُتقلّبة. قياسًا على ذلك، فلا يُعقل التفكير في الحرب كما فكر فيها من سبقنا في الحروب الأوروبية الحديثة. إن تصوّر التحوّل في النظام الدولي على أساسٍ عسكري يعني شيئًا مخالفًا عن تصوّر تحوّله بشكلٍ تدريجي، وربّما سلمي، كما أنّ تحوّلًا نحو زيادة قدرات الدفاع لا يعني بالضرورة نوعًا من الحرب التقليدية سيعرفها العالم المعاصر. إنّ المعنى الأخير يجعل الاتحاد الأوروبي يبدي تدبيرًا تفاوضيًّا سوسيولوجيًّا للأزمات، ويقر ضمنيًّا وللمرة الأولى منذ عام 1648، بكون تحوّل النظام الدولي المعاصر ليس مسرحه أوروبا. يجعل هذا المعطى من إدارة الأزمات معيارًا ذا صدقية وبعيدًا عن التنبّؤات التشاؤمية الأميركية بالخصوص.
إن تدفق المعايير والقواعد والالتزامات الأمنية والاستراتيجية في العلاقة بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والبلدان الأوروبية. وواقع هذا التدفّق أصبح موضوع بحث يهدف إلى استقصاء مسارات تأثير الناتو وسياسة الاتحاد الأوروبي والقوات المسلحة للبلدان الأوروبية في الأمن والدفاع المشترك. يقود الوقوف عند هذه المسألة إلى تقديم بعض المفاهيم لتحليل البنية الناشئة عن هذه العلاقة، والهدف المعرفي من ذلك هو تقديم نظرة نقدية إلى الصورة الذهنية عن علاقة الناتو بالدفاع الأوروبي بالاستعانة ببعض هذه المفاهيم.
إن التدفّقات الأمنية لا تعكس سوى جانبٍ من هذه العلاقة، ولأجل استمرارها – أي هذه العلاقة – في ظل أعباء متزايدة، تنبّه القادة والسياسيون إلى ضرورة توسيعها لحماية نواة الجماعة الأمنية الأطلسية، خصوصًا بضبط التوازن العام لهذه الشراكة عبر استخدام عناصر، كإحياء برامج سالفة لإعادة الالتزام العسكري الأميركي في أوروبا، أو لتفعيل جيوسياسية جديدة ركيزتاها التجارة والاقتصاد السياسي، أو إعادة إحياء الالتزام الأميركي في أوروبا كلّما تطلّب الأمر ذلك