https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

لم يكن أحد يتوقع أن يؤدي رفض الرئيس الأوكراني المخلوع فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاق الشراكة التجارية بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي -بفعل الضغوط الروسية إلى مواجهة عالمية- عالية الأفق بين روسيا وبين الولايات المتحدة الأمريكية؛ التي حاولت باستمرار استغلال الثورات الأوكرانية لمحاصرة روسيا وعرقلة مشروعها الأوراسي الروسي لصالح المشروع الأوراسي الأطلسي، وقد تطور الصراع بين الطرفين بشكل مطرد، وتراجعت محاولات التقارب السابقة لصالح التصعيد العسكري من خلال تكثيف المناورات، وبعث سباق التسلح من جديد، وشهد هذا الصراع تغير عقيدة الجيش الروسي، وتلاشي فكرة أوراسيا الأوروبية، واقتناع الأمريكان بعدم جدوى التقارب مع روسيا، وأدى استمرار هذه الأزمة إلى التأثير في المجتمع العالمي، ومختلف القرارات الدولية. وسنحاول في هذه المقالة التركيز على دور الجغرافيا السياسية لأوكرانيا في هذا الصراع العالمي المشتعل. قبل الشروع في الحديث عن جيوبوليتيكا أوكرانيا، فإن من المهم الإشارة إلى حقيقة هامة هي: أن أهم ما يميز الدول العظمى قراءتها لما يحيط بها إقليميا وعالميا قراءة تراعي الجغرافيا السياسية أو الجيوبوليتيكا، ما يساعدها على وضع تخطيط استراتيجي طويل المدى، وعميق من حيث التفاصيل؛ خاصة أن الأمر يتعلق بالمصالح القومية الاستراتيجية لها، وهو الأمر الذي يغيب عن الدول الضعيفة، التي لم يتبلور عندها مفهوم التخطيط الاستراتيجي على ضوء الجيوبوليتيكا؛ لأسباب كثيرة، لعل أبرزها- على ضوء المدرسة الواقعية- غياب مفهوم الدولة ببعده الشامل والناضج، والاستمرار في التبعية الشاملة للقوى الكبرى. وبفضل التخطيط الاستراتيجي المبني على قراءة صحيحة للجغرافيا السياسية من مراكز صناعة القرار في الدول الكبرى، التي تعتبر دول المركز في أدبيات السياسة المعاصرة، فإن دول الأطراف-الدول الصغرى- تعاني من أزمات كبيرة سببها صراع الكبار على الجيوبوليتيكا، بينما تعتقد نخب وشعوب هذه المناطق الضعيفة أن الأمر يتعلق فعلا بأزمة معينة، ذات أفق محددة. ولهذا فإن معرفة الجغرافيا السياسة لأي منطقة صراع، يسهل علينا الإمساك بالخطوط المحركة للحروب الباردة أو العسكرية بين المتصارعين الكبار، ويتيسر على ضوء ذلك قراءة الأبعاد والتأثيرات والسيناريوهات المحتملة لأي أزمة. فأوكرانيا بلد مهم جدا من ناحية الجغرافيا السياسية لكل من روسيا، والاتحاد الأوروبي وأمريكا. بعقب انهيار الاتحاد السوفياتي ظلت -روسيا باعتبارها الوارث الأهم للإرث السوفياتي- تعمل على الحفاظ على تأثيرها في الفضاء السوفياتي السابق، معتبرة إياه منطقة نفوذ تضمن لها مصالحها الاستراتيجية؛ وأظهرت استعدادها لتجاهل مباديء القانون الدولي إذا اقتضى الأمر حماية فضائها الاستراتيجي، فتدخلت في 1991 في مولدافيا وفي ترانسنيستريا، ثم في جورجيا “سوخومي وتسخينفالي”، وساندت يوغسلافيا في 1995 ثم 1999، ثم عادت ودخلت حربا مع جورجيا في 2008 ، وصولا إلى ضم القرم ربيع 2014، وإشتعال الحرب شرق أوكرانيا، تقع أوكرانيا في منطقة استراتيجية جذابة وحساسة، فهي تصنف ضمن الدول العازلة، أي التي تعزل بين قارتين، ضمن حزمة من الدول التي تقع بين أوروبا وروسيا، وهي على قسمين، الدول الحدودية الضيقة والتي تفصل بين أوروبا وروسيا، وهي فنلندا، بيلاروسيا، أوكرانيا، ودول البلطيق، كما يمكن أن نضيف إليها دول القوقاز، بدء من جورجيا، أما القسم الثاني الذي شكل حدودا متقدمة بين روسيا وأوروبا فيشمل الدول ذات التوجه السوفييتي سابقا” الاشتراكي” أو ما تعرف في أدبيات التاريخ السياسي بدول أوروبا الشرقية. تبلغ مساحة أوكرانيا الكلية 603.700 كم2 أي “233.100 ميل مربع” وبشريط ساحلي يبلغ طوله 2782 كم “1729 ميل” مما يضعها في المرتبة 44 عالمياً من حيث المساحة بعد جمهورية أفريقيا الوسطى، وقبل مدغشقر. كما أنها أكبر دولة تقع بأكملها في أوروبا وثاني أكبر بلد في أوروبا بعد الجزء الأوروبي من روسيا وفرنسا المتروبوليتانية” يتكون المشهد الجغرافي الأوكراني في معظمه من سهول خصبة -أو السهوب- والهضاب، تعبرها أنهار مثل دنيبر، سيفيرسكي دونيتس، دنيستر وبوغ الجنوبي حيث تتدفق جنوبا إلى البحر الأسود وبحر آزوف. تشكل دلتا الدانوب إلى الجنوب الغربي الحدود مع رومانيا، جبال البلاد الوحيدة هي جبال الكاربات في الغرب، أعلاها هو هورا هوفرلا عند 2,061 متر “6,762 قدم”، وتلك التي في شبه جزيرة القرم، في أقصى الجنوب على طول الساحل، ويمنح لها ساحلها الجنوبي والشرقي والذي يفوق في طوله 2700 كم موقعا استراتيجيا جذابا لروسيا وأوروبا على حد سواء. كما تتمتع أوكرانيا بكثافة سكانية كبيرة، تصل إلى حوالي 45 مليون نسمة، ما يجعل منها قوة بشرية هائلة، خاصة أن نسبة الشباب فيها عالية مقارنة بباقي دول أوروبا العجوز، لكن هذه الكثافة غير منسجمة، فقد أثرت فيها المساحة المترامية شرقا وغربا؛ خاصة أن أوكرانيا لم تكن دولة ثابتة على هذه المساحة، فقد تشكلت من عدة مناطق سنة 1922، فمدينة لفيف منحت لأوكرانيا من النمسا، أما أوكرانيا الغربية، فضمت للاتحاد السوفياتي سنة واحدة قبل الحرب العالمية الثانية، بينما ضم القرم لأوكرانيا سنة 1956 ما جعلها قابلة لنشوء أزمات اجتماعية وثقافية، تتجاذبها ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وهو ما يفسر انقسام الأوكران بين معسكر شرقي موالي لروسيا ويسعى إلى تعزيز علاقته بها، وآخر غربي موالي لأوروبا ويريد توثيق علاقاته بها، وقد ساهم الاستقطاب الإعلامي الحاد بين المعسكرين في استمرار الأزمة وتصاعدها. الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا بالنسبة إلى روسيا إن أوكرانيا بمساحتها الضخمة، وتضاريسها المميزة، والتي تشكل السهول منها أكثر من تسعين بالمئة 90 % -إذا استثنينا جبال الكاربات في الغرب، وهي السلسلة الجبلية التي تشق حدود سبعة دول من بينها أوكرانيا- وإطلالها على المياه الدافئة، ونعني بحر آزوف والبحر الأسود، جعلت النظرة الروسية إليها ثابتة، حيث تعتبرها الحديقة الخلفية لها، فنسبة الطاقة التي تسوقها روسيا لأوروبا عبر أوكرانيا تبلغ 80% ، كما أن تراجع مخزونات الطاقة في الشرق الأوسط وحاجة الاقتصاد الغربي إلى المزيد من إمدادات الطاقة مستقبلا، جعل روسيا تعمل بأقصى جهد للحفاظ على أوكرانيا كمعبر لأنابيب الطاقة، خاصة أن روسيا تريد وضع يدها على نفط بحر قزوين وتوريده نحو أوروبا، وقطع الطريق على المشروع الأوروبي التركي المسمى بـ “تاناب” الذي يعتبر مشروع القرن، والذي يهدف إلى تخلص أوروبا من صداع الممر الأوكراني، من خلال الاستفادة من نفط بحر قزوين، وجعل المشروع روسيا تركيا، بما يعني في النهاية استمرار حاجة أوروبا إلى روسيا. وتعتبر أوكرانيا البوابة الأخطر في تاريخ روسيا، حيث تملك روسيا جغرافيا ثلاث بوابات على العالم الخارجي، آسيا الوسطى، القوقاز، والباب الثالث والخطير هو الباب الأوكراني، وقد تعلم الروس من خلال الحروب التي شُنت ضدهم في 400 سنة الأخيرة، أن كل الغزاة مروا من سهول أوكرانيا، فالتتر مروا من أوكرانيا في طريقهم للسيطرة على روسيا، وجيوش الامبراطورية السويدية مرت من سهل بولتافا العظيم، حيث جرت حرب الشمال العظمى في بداية القرن 18، ونابليون مرّ من أوكرانيا، وهتلر مر من سهول خاركوف شرق أوكرانيا، فكل حملات الغزو التي واجهتها روسيا-تاريخيا- كانت تمر عبر الجغرافيا الأوكرانية. كما تعتبر روسيا أوكرانيا بلدا استراتيجيا لروسيا من الناحية العسكرية باعتباره بلدا عازلا بينها وبين دول حلف الناتو، واحتلالها لشرق أوكرانيا هو تمهيد لخوض أي حرب برية ضد الناتو على الأرض الأوكرانية، التي تعتبر في النهاية خط الدفاع الأول بالنسبة لروسيا، والأرض التي ستسهم في الحفاظ على سلامة العمق الروسي، أما من الناحية البحرية، فهي موطن أسطول البحر الأسود الروسي، المرابض في مدينة سيفاستوبول التي يسميها الروس مدينة “المجد الروسي”؛ لهذا ضمت جزيرة القرم. ولم يقف ضم القرم بالقوة عند هذا الهدف، بل إن لروسيا ثلاثة أهداف أخرى من ضم القرم الأوكراني، هي، أولاً: جعل القرم وسيلة لتحجيم أي دور جورجي ضدها، وتسهيل مهمة تحقيق أي انتصار عسكري في أي حرب مستقبلية ضد جورجيا، والثاني هو العودة إلى البحر الأبيض المتوسط، الثالث: منع انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو؛ بالتالي فالقرم في الخريطة الخارجية لروسيا هو الضامن لاستقرار جنوب روسيا، وهو المؤثر على سياساتها الخارجية خاصة على الدول المطلة على البحر الأسود كتركيا ورومانيا وبلغاريا وجورجيا. ولم يكن الخطر القادم من العالم الخارجي عبر أوكرانيا هو السبب الوحيد الذي جعل روسيا تصر على التمسك بأوكرانيا، بل إن الروس يدركون أن موقعهم الذي يتميز بغياب ممرات مائية -روسيا من دول اليابسة التي لا تملك منافذ بحرية-، ومن يملك المرابض المائية يمكنه التحكم في حركة التجارة العالمية، وبما أن جنوب أوكرانيا يطل على المياه الدافئة -ساحل البحر الأسود-، والتي تتصل في نهايتها بمضيق البوسفور، فإن الروس جعلوا من السيطرة على أوكرانيا أولوية مقدمة في سياستهم الخارجية، فأوكرانيا هي التي تضمن لهم إمكانية تصدير السلع التجارية الروسية، وتحقيق الأمن الاقتصادي. ويمكننا الاستدلال بمادتين هامتين من وصايا بطرس الأكبر، الذي يعد أول من أدخل معالم التحضر إلى روسيا، وتعد وصاياه الأربعة عشر أحد أهم أسباب بقاء روسيا، التي تحرص على تطبيقها قدر الاستطاعة إلى اليوم، يقول بطرس في المادة الثامنة:” على الروس أن ينتشروا شمالًا على سواحل بحر البلطيق وجنوبًا على سواحل البحر الأسود يومًا فيومًا” فهو يؤكد هنا على أهمية السيطرة على الحدود الملاصقة لروسيا، ويضيف في المادة التاسعة: “ينبغي الاقتراب بقدر الإمكان من إستانبول والهند، ولأن من يحكم إستانبول يستطيع أن يحكم العالم بأسره، فلذلك ينبغي إعلان الحرب باستمرار على الدولة العثمانية تارة وعلى بلاد فارس تارة أخرى، ومن الضروري السيطرة على البحر الأسود شيئًا فشيئًا، لإنشاء دار للصناعات البحرية عليه…” ففي هذه المادة يؤكد بطرس الأكبر، أهمية السيطرة على البحر الأسود، الذي يقع جنوب أوكرانيا، ويفصل بينها وبين تركيا، التي يرى أن السيطرة عليها تتيح السيطرة على العالم، ويقصد بذلك التحكم في التجارة الدولية، باعتبار تركيا تقع بين آسيا وأوروباـ وتسيطر على مضائق مائية هامة واستراتيجية، وكل هذا يمكن أن يتحقق بالسيطرة على أوكرانيا أولا. إذن الموقع الجغرافي لأوكرانيا جعلها تقع ضحية حسابات دول مجاورة وليست هذه هي المرة الأولى، فالتاريخ الأوكراني يشير بوضوح إلى أن أوكرانيا بقيت ممزقة منذ القرن 14، بعد أن تقاسمتها الممالك البولندية والليتوانية، والسويدية، أما في تاريخها المعاصر، فإن أوكرانيا وقعت أيضا ضمن دائرة تجاذبات خطيرة بعد استقلالها سنة 1991، لعل أبرز مؤشراتها اتفاق بودابست سنة 1994، الذي وقعت عليه روسيا وبريطانيا وأمريكا، وتضمن تفكيك الترسانة النووية الأوكرانية، مقابل ضمان سيادتها ووحدة آراضها، وقد كان له فيما بعد أثر سلبي بالغ عليها، بعد أن جردها من سلاح الردع،. الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أما الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه يرى في أوكرانيا الأرض التي من خلالها يمكن نقل النموذج الغربي إلى روسيا ومن ورائها القوقاز وآسيا الوسطى، من أجل التمهيد الفعلي للسيطرة على الخيرات العظيمة التي تحويها آراضي ما يعرف في الغرب بأوراسيا الأطلسية حيث تتوفر مناطق آسيا الوسطى لوحدها على أكثر من 34 % بالمئة من احتياطي الطاقة العالمية. إن نظر الولايات المتحدة الأمريكية لا يتوقف عند حدود أوكرانيا أو القوقاز، ولكنه يرى أن أوكرانيا هي مفتاح السيطرة على طريق الحرير، الذي يعتبر مؤشر السيطرة الحقيقية على العالم، أي أن السيطرة على الأراضي الواقعة ما بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية مرورا بالقوقاز وآسيا الوسطى وصولا إلى الهند والصين، إنما يمر عبر السيطرة على أوكرانيا، ومنافذها البحرية. كما يدرك الأمريكيون أن الوقوف في وجه المشروع الأوراسي الروسي، يتحقق بضم أوكرانيا إلى الفضاء الغربي؛ لأن روسيا دون أوكرانيا عرجاء، ومشروعها ميت كما يقول المنظر الروسي ألكسندر دوغين، والذي دعا صراحة إلى احتلال أوكرانيا باعتبارها الجزء الأهم في مشروع أوراسيا الروسي؛ لأن فقدان أوكرانيا يعني أن الخاصرة الرخوة لروسيا ستُفقدها السيطرة على أغلب المقدرات الموجودة في أوراسيا، فالمناطق من أوكرانيا إلى كازاخستان تعتبر السلة الغذائية للعالم، خاصة أنها تسيطر على إنتاج القمح، كما تحوي أوكرانيا لوحدها على 40 % بالمئة من التربة السوداء على مستوى العالم، وتحوي دول آسيا الوسطى وأوكرانيا والقوقاز على 10 ملايين كم من الأنهار، مع مخزون هائل من الغاز والنفط. وبقضم روسيا للقرم، وجعل شرقها مضطربا انتهت الولايات المتحدة الأمريكية إلى قناعة شبه نهائية وهي أن روسيا لا يمكن أن تكون شريكا موثوقا لأمريكا، وأن روسيا تظل منافسا هاما لأمريكا، وهذا ما يفسر الدعم الأمريكي المستمر لأوكرانيا. الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا بالنسبة للاتحاد الأوروبي حتى نفهم الحالة الأوكرانية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي يمكننا الاستدلال الحالة القبرصية، فالجزء الخاضع لليونان عضو في الاتحاد الأوروبي، وفي المقابل يظل الجزء الثاني من قبرص والخاضع لتركيا خارج الاتحاد الأوروبي؛ وسب ذلك راجع إلى الاختلاف الثقافي والحضاري بين الجزأين. ونفس الأمر يتكرر في أوكرانيا، فغربها ينتمي ثقافيا وحضاريا إلى أوروبا، فهو يتمي إل الكنيسية الكاثوليكية، ومتمسك باللغة الأوكرانية، ومجتمع زراعي، وله علاقات أقوى بدول أوروبا الشرقية التي صارت عضوا في الاتحاد الأوروبي، بينما ينتمي الجزء الشرقي إلى روسيا ثقافيا وحضاريا، فهو يتكلم اللغة الروسية -13 محافظة أوكرانية-، وينتمي للكنيسة الأرثوذكسية، ويحافظ على ولاء خاص لروسيا، وهذا الاختلاف الحضاري والثقافي أحدث فجوة كبيرة بين مكونات الشعب الاوكراني، وجعل أوكرانيا تعاني من عدم الاستقرار. أما عن أهمية أوكرانيا من الناحية الجيو سياسي بالنسبة إلى أوروبا فهي بمثابة الجدار العازل بينها وبين روسيا، باعتبار المساحة الكبرى التي تتمتع بها، وباعتبار الكثافة البشرية الكبيرة، وامتلكها أكبر جيش في القارة الأوروبية، إذن ترى أروبا في ضم أوكرانيا إلى فضائها فرصة كبيرة ووسيلة ناجعة للتصدي لروسيا في أوكرانيا. كما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تغيير الحياة في أوكرانيا من خلال ضمها أوكرانيا في المستقبل إليه؛ من أجل تحقيق نقلة كبرى على المستوى الفكري والاجتماعي، وتحقيق حكم ديمقراطي، وتنمية اقتصادية شاملة، وفي حال تحقق ذلك يعتقد قادة الاتحاد الأوروبي أن النموذج الأوكراني سينتقل حتما إلى روسيا وإلى القوقاز، وهو ما رأته روسيا تهديدا لها، فهي لا تريد أن يكون لها جار مزدهر وديمقراطي؛ حتى لا تشهد ثورة تطالب بنفس مستوى المعيشة في أوكرانيا. إذن أوكرانيا بالنسبة لأوروبا قد تلعب دور الرابط بين الشرق والغرب، ودورا هاما في تحقيق الاتحاد الأوروبي الكبير، والذي يضم كل أوروبا الشرقية ودول البلقان؛ ولهذا ركز الاتحاد الأوروبي على تحرير نظام التأشيرات مع أوكرانيا مقابل حزمة إصلاحات هامة، ووقع اتفاقيات شراكة تجارية مع أوكرانيا بهدف تحرير السياسات التجارية بينه وبين أوكرانيا ورفع التعاون الاقتصادي، وقد كانت أوروبا تأمل في تحقيق مشروع أنابيب “تاناب” الذي ينقل إمدادات الطاقة من منطقة بحر قزوين إليها عبر تركيا، حتى تتحرر من مشكلة المساومات الروسية على الطاقة التي تنقها عبر أوكرانيا، غير أن تحالف روسيا مع تركيا، وتنامي الصدام بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وتعثر مشروع “نابوكو” أثر في الخطة الأوروبية في مجملها، وفي أوكرانيا بشكل خاص. لكن الضم الروسي للقرم وانفجار الاوضاع شرق أوكرانيا خلط أوراق الاتحاد الأوروبي، دفع الاتحاد الأوروبي إلى تغيير موقفه من روسيا بشكل جذري، وتبنى حزمة من العقوبات الاقتصادية والمالية، وإلغاء كافة اتفاقيات التعاون العسكري، وتكثيف المناورات العسكرية، حيث تشهد دول البلطيق تواجدا كثيفا لقوات الناتو، كما استقبلت ألمانيا قوات أمريكية نووية، وتم تسريع عملية نشر الدرع الصاروخي في دول البحر الأسود، وتبني خيار إبعاد روسيا من البلقان، حتى لا يتكرر السيناريو الأوكراني. الاستنتاج بناء على القراءة السابقة فإن المتوقع مستقبلا بقاء أوكرانيا ساحة حرب باردة قوية بين روسيا والغرب، خاصة أن كلا الطرفين أدركا أنهما يشكلان خطرا وجوديا على بعضهما البعض، ما تجلى في تغيير عقيدة الجيش الروسي، وتصريح أوباما سبتمبر 2015 عندما أعلن روسيا كأهم عدو يهدد الوجود الأمريكي، واستمرار الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في تبني خيار التصعيد ضد روسيا. وسنحاول تفصيل نتائج الدراسة في النقاط التالية: بالنسبة إلى أوكرانيا أدركت أوكرانيا أن روسيا لن تتركها تحسم خياراتها الحضارية بسهولة، وأن الهدف النهائي لموسكو هو إعادة أوكرانيا إلى الفضاء الروسي، وظهر ذلك في تبني سياسة الإغراءات ثم التهديدات لثنيها عن ذلك. إلا أن مشكلة أوكرانيا تكمن في حجم الفساد الهائل داخل الدولة؛ بسبب هيمنة الطبقة الأوليغارشية على قطاع الاقتصاد والمال، ما جعلها تجد صعوبة كبيرة في التخلص من الفساد، مع وجود أدلة على تورط بعض النخب الجديدة في الحكم في قضايا فساد، وعرقلة مسار الإصلاح، ومع ذلك تحاول أوكرانيا السير بالتدريج في عملية الحسم الحضاري، ويظهر هذا في إزالة كل مخلفات الحقبة الشيوعية والسوفياتية، فقد أزالت آلاف التماثيل التي كانت قد شيدت للزعيم الروسي لينين. كما تبنت أوكرانيا خيار تدريس اللغة الانجليزية، وجعلها اللغة الثانية في معاملاتها، حتى أنها رفعت الحجم الساعي لها في المدارس، وأكثر من هذا وحتى ترتبط أكثر بدول أوروبا الشرقية المنتمية للاتحاد الأوروبي مثل النمسا فقد وضعت خيار دراسة اللغة النمساوية والألمانية كلغة ثالثة للمتعلمين، وبالإضافة إلى ذلك فقد رفعت عدد المنح الممنوحة للطلبة الذين يريدون الدراسة في أوروبا وكندا وأمريكا. أما من الناحية العسكرية، فقد ورثت أوكرانيا جيشا ضخما عن الاتحاد السوفياتي، غير أن الفساد قد أثر في بنيته، الأمر الذي دفع أوكرانيا إلى تبني سياسة إصلاحات واسعة، فقد قامت بعمليات تعبئة كبيرة مرات عدة، ورفعت معدل العمل والمناوبة في المصانع العسكرية، وهو ما جعلها تحقق في سنتين قفزة هائلة في المعدات العسكرية، لتحقق فائضا في مختلف الأسلحة، وتنجح في تطوير العديد منها وفي مختلف القطاعات، كما ضاعفت عدد القوات المسلحة إلى الضعف، بالنسبة لروسيا لا تزال روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي تعتبر أوكرانيا الحديقة الخلفية لها، ففي 2009 وبعد لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الأمريكي جورج بوش، قال له بوتين في خضم الحديث الذي دار بينهما “إن أوكرانيا ولاية مقاطعة روسية” في تصريح هام -وقتها- لم يفهمه الغرب، وسبب إصرار روسيا على التمسك بأوكرانيا يرجع إلى حسابات جيوسياسية وأمنية، فهي تضمن لأسطول البحر الأسود تواجدا وإطلالة على المياه الدافئة، وتأثيرا في دول البحر الأسود، وتأثيرا في السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي. كما تعتقد أن فقدان أوكرانيا يعني وصول التهديد الغربي إلى العمق الروسي في موسكو وسان بطرسبرغ؛ لهذا تطلعت دوما إلى رفع قواتها العسكرية والبحرية في القرم، وبعد ضمه بالقوة تعمل روسيا على تحويل القرم إلى قاعدة عسكرية كبرى، ومجهزة بالأسلحة النووية، معتبرة القرم عامل مساعد على تحقيق التوازن مع حلف الأطلسي، وضمانة لأمنها القومي والإقليمي. وأما عن تدخلها في شرق أوكرانيا، فيرجع إلى مادة في القوانين التي تنظم عملية ضم دول جديدة إلى حلف الناتو، حيث تنص على عدم ضم أي دولة لها صراع مع دولة أخرى؛ بالتالي ترى روسيا أن الصراع في الشرق الاوكراني ، بمثابة فيتو دائم لأي رغبة أوكرانية في الانضمام إلى حلف الناتو، والذي صرحت أوكرانيا عدة مرات أنه خيارها الحاسم للتخلص من التهديد الروسي. بالنسبة للاتحاد الأوروبي أوروبا قوية اقتصاديا، لكنها لا تملك ثقلا عسكريا وسياسيا في مواجهة روسيا؛ لذلك حسمت خيارها هذه المرة، فهي حسب التمديدات المتتالية لقرار العقوبات ضد روسيا تعلن عزمها الذهاب بعيدا في مواجهة روسيا؛ لأنه الخيار الوحيد النسبة لها، خاصة مع تأكدها من تدل روسيا في الانتخابات الأوروبية ومحاولة التأثير فيها، وتمويل الأحزاب اليمينية، وممارسة سياسة دعائية عدائية ضدها، ودعم كل النخب اليمينية، والسعي إلى إحداث شرخ بين دولها وإضعاف موقفها. أما مشروع التوسع شرقا، فقد غيرت أوروبا استراتيجيتها، لتركز أكثر على مساعدة أوكرانيا على حسم خيارها الحضاري لصالح الخيار الأوروبي؛ لذلك تركز على منح أوكرانيا المزيد من الأموال، وتفعيل نظام السفر من دون تأشيرة لتحقيق اندماج بين الشعب الأوكراني وبقية شعوب أوروبا، وتمهيد عودته إلى أصله الحضاري. كما تعمل أوروبا على مساعدة أوكرانيا في الإصلاحات الدستورية والسياسية، خاصة في تحقيق النزاهة على مستوى القضاء، والتخفيف من وطأة الفساد؛ لأجل تحقيق حياة مستقرة تمهد للرفاهية المستقبلية. بالنسبة للولايات المتحدة تدرك الولايات المتحدة أن عدة دول تعتقد أن مصلحتها السيطرة على أوكرانيا، ولكنها تعتقد بشكل قاطع أن أكثر الدول التي لها مصلحة في أوكرانيا هي روسيا، التي تعارض تغيير أوكرانيا لفضائها السياسي “التاريخي”، ومع كثرة الزيارات التي قام بها كبار الساسة الأمريكيين إلى أوكرانيا، وتبلور موقف واضح من أن أوكرانيا ترغب في تغيير بوصلتها نحو الغرب، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن كييف لم تحسم بعد عملية التغيير الجيوسياسي؛ وهذا ما يجعلها تتريث؛ بسبب شكوكها في قدرة الأوكران على الاستمرار والنجاح في هذا التحدي التاريخي والمصيري. ومع معرفة الإدارات الأمريكية أهمية أوكرانيا في تقييد النفوذ الروسي، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت المخاطرة وتصعيد النزاع، ولم تظهر أي نية لتحمل مخاطر جدية؛ وهذا ما يفسر تبنيها سياسة حذرة، ورفضها تزويد أوكرانيا بأسلحة فتاكة، حيث ظلت المساعدات العسكرية الأمريكية المقدمة غير قادرة على حسم الصراع العسكري في الشرق، كما اكتفت بتكثيف مناوراتها مع الجانب الأوكراني، وتكثيف عمليات التدريب المشتركة بين الجيشين غرب أوكرانيا. كما تدرك الولايات المتحدة أن أي محاولة لتغذية الصراع في شرق أوكرانيا قد يؤدي بالفعل إلى حدوث اضطرابات في كل أوروبا، وقد يصل الأمر إلى حرب عالمية إذا انفلتت الأمور من الأطراف المتنازعة. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تعلم جيدا أن أوكرانيا قد باتت من القضايا المؤثرة في السياسة الدولية والقرار العالمي؛ بسبب التراكمات المطردة لأحداثها؛ وهذا ما يفسر تبني الولايات المتحدة خيار العقوبات الاقتصادية، وربطها ليس فقط بتخلي روسيا عن زعزعة شرق أوكرانيا، بل تم ربطها بملف جزيرة القرم المعقد، ما يعني تبني خيار التصعيد الاقتصادي على المدى الطويل؛ للتأثير على روسيا داخليا، وعزلها دوليا، واستنزافها ماليا. وقد أثبتت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها أمريكا على الغرب فعاليتها، في جعل روسيا تئن تحت وطأة التضخم، وانهيار العملة، وهروب رؤوس الأموال وإفلاس آلاف الشركات التجارية والصناعية، وتململ الداخل. وفي الأخير تجب الإشارة إلى أن الصراع في أوكرانيا لم ينجح إلى الآن في بلورة أي بوادر للحل، فحتى اتفاقية مينسك 2 لم تجد طريقها نحو التجسيد الميداني، ما يعني أن التحديات المستقبلية التي ستنتج عن هذه الأزمة تظل غامضة وغير واضحة على الخريطة الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، وليس واضحا إلى الآن تأثيراتها النهائية على المجتمع الدولي. ومن المهم الإشارة إلى أنه في كانون الأول/ديسمبر 1991، عندما أجرت أوكرانيا استفتاء حول استقلالها، ذكر الرئيس السابق لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ميخائيل غورباتشوف أنه لا يستطيع أن يتصور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية دون أوكرانيا؛ وأدت نتائج الاستفتاء لصالح الاستقلال في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفييتي. ويمكن تطوير السيناريو نفسه-مع شكل مختلف- اليوم، وإذا تمكنت أوكرانيا من التخلص من التأثير الروسي، فإن ذلك يعني بداية فقدان روسيا تأثيرها الجيوسياسي على الفضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.بالتعاون مع مركز الدراسات الاسترانيجية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × واحد =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube