]
تأليف:إيرينا ميخايلوفنا سميليانسكايا، وميخائيل برونيسلافيتش فيليجيف، ويليينا بوريسوفنا سميليانسكايا
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
لقد كانت الاندفاعة الروسية نحو منطقة الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة حافزًا لتقصي دوافعها وأهدافها والسعي لفهم خلفياتها؛ ذلك أنّ فهم الدور الروسي الراهن يتطلب العودة إلى تاريخ السياسة الروسية التي كان توجهها نحو الجنوب، بغية الوصول إلى المياه الدافئة، هاجسًا أبديًا. وهو الأمر الذي حرك صناع القرار في الإمبراطورية، منذ عهد بطرس الأكبر، مرورًا بكاترينا الثانية وورثتها، وخلال الحقبة السوفياتية، وصولًا إلى القيادة الحالية. فعلى الرغم من أن الأحداث التي يتناولها الكتاب تعود إلى 250 عامًا مضت، فإنها تكتسي أهمية كبيرة؛ فهي تكشف عن جوانب جديدة في تاريخ المنطقة ونظم الحكم فيها وتحالفاتها وصراعاتها.
العلاقات والصراعات بين الدول الكبرى
يسلّط الكتاب الضوء أيضًا على العلاقات والصراعات بين الدول الكبرى، لأجل الاستحواذ على مناطق نفوذ، في مناطق السلطنة العثمانية ووراثة “الرجل المريض”. ويكشف عن جوانب ظلّت غائبة ردحًا طويلًا من الزمن في ما يعني الوجود الروسي السياسي والعسكري في المنطقة، وعن علاقات أنشئت مع قوى فاعلة في سورية وفلسطين ومصر، وفي شمال أفريقيا إلى حد ما، حيث اضطلع العسكريون الروس بدور فاعل فيها، إلى جانب دورهم الدبلوماسي.
إذًا، ما الذي يثير الحديث عن الاهتمام الخاص بحوض المتوسط في التاريخ الروسي؟ وما الذي يجعل دراسة مشروع عسكري يعود إلى القرن الثامن عشر أمرًا مفيدًا؟
يستخدم في الكتاب مواد حملة روسيا الأولى في شرق البحر المتوسط، لأجل الإجابة عن الأسئلة الآتية: 1) ما أسباب اهتمام روسيا بتأكيد حضورها في هذه المنطقة؟ 2) من هم الذين وجدت فيهم روسيا سندًا وحليفًا؟ 3) كيف شرحت أسباب التدخّل الروسي في شؤون منطقة بعيدة إلى هذا الحد من حدود الإمبراطورية، أمام الرأي العام الروسي والأوروبي؟ وكان من المهم، بالنسبة إلينا أيضًا، الإشارة إلى إمكانات الدراسات المقارنة لأعمال روسيا العسكرية في حوض المتوسط، التي لم تلق الاهتمام الكافي في الدراسات التاريخية حتى الآن.
لم تكن الإمبراطورة الروسية كاترينا الثانية (1762-1796) أول حاكم روسي يعمل على إقامة منطقة نفوذ، حينما خططت لدخول أسطولها البحر المتوسط. ففي مطلع القرن الثامن عشر، خطط بطرس الأول لدخول البلقان بدعم من سكانه الأرثوذكس من اليونانيين والسلافيين، بيد أن حملته باءت بالفشل في عام 1711؛ وبذا، تكون كاترينا قد عملت على إحياء فكرة سلفها العظيم على العرش الروسي. ولم يكن النجاح التكتيكي الذي حققته في حرب عام 1768 مع الإمبراطورية العثمانية وحده المهم بالنسبة إليها، بل إنها كانت تنظر إلى الحضور العسكري في حوض البحر المتوسط، بوصفه جزءًا لا يتجزأ من السياسة الكبرى التي يمكن أن تنهجها دولةٌ عظمى كالإمبراطورية الروسية. فقد كانت تلك المنطقة عصرذاك “مركزًا للعالم”، تتقاطع فيه أهم المصالح التجارية والسياسية. ولذا، فإن غياب روسيا عن هذا المركز كان سيحكم عليها بالبقاء إمبراطوريةً طرفية.
تمكنت روسيا من الإخلال بموازين القوى القائمة في منطقة البحر المتوسط، بفضل النجاحات التي حققتها ضد الأسطول التركي في عام 1770، والإعلان عن تطلعها إلى الحصول على حصتها من “الكعكة المتوسطية”، وترسيخ أقدامها فترة طويلة هناك، وإشهار وضعها الجديد بوصفها قوةً عظمى بحرية.
لكن ما الدعامة التي عولت كاترينا عليها في تلك المنطقة؟ لقد وجد حلّ هذه المسألة قبل الحرب بفترة طويلة؛ ذلك أنّ بطرسبورغ راهنت على سكان البلقان الأرثوذكس، ولا سيما اليونانيين الذين أكد ممثّلوهم لإخوة الدين الروس مرارًا استعدادهم للانتفاض على الحكم التركي، بدعم من السلاح الروسي. بيد أن التعاون العسكري الفعلي لم يتحقق مع فصائل اليونانيين في بيلوبونيز، التي وصلت إليها أول عمارتين بحريتين روسيتين. فقد لام اليونانيون الروس؛ لأنهم لم يقدّموا لهم الدعم الكافي بالسلاح والرجال، بينما اعتبر الرّوس أن اليونانيين خيبوا الآمال المعلقة عليهم.
إقامة كيان دولتيّ جديد “إمارة الأرخبيل”
في غضون ذلك، باشر الروس العمل على إقامة كيان دولتيّ جديد في ما سمّي “إمارة الأرخبيل” (جرى تناول هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل الخامس من هذا الكتاب)، بعد أن سيطروا على جزر الأرخبيل، إثر هزيمة الأسطول التركي في شيسما، وأصبحوا واثقين من قواهم الذاتية بمعزل عن دعم ينالونه من اليونانيين.
لا يمكن تقويم أهمية تجربة إقامة كيان دولتيّ يونانيّ في العصر الحديث، إلا في سياق المشروعات المماثلة لبناء الدولة في عصر التنوير، وانطلاقًا من فهم ثقافة العصر السياسية. فقد كانت الأنظمة الروسية المعتمدة في بناء الدولة هي النموذج الأفضل بالنسبة إلى اليونانيين في نظر الروس، بينما اعتبرها الأوروبيون الغربيون أنظمةً مستبدةً ومتخلفةً جدًا؛ فضلًا عن أن اليونانيين أنفسهم لم يكونوا مستعدّين لكسر أسس الإدارة الذاتية البطريركية المتشكّلة في ظلّ العثمانيين، واعتقدوا فحسب ضرورة استبدال “السيّد” المختلف دينه بسيّد آخر، أرثوذكسي “أخ في الدين”. وفي الحصيلة، باءت تجربة التعاون الأولى في هذا المجال بالفشل.
الثقافات السياسية والتوقعات من العلاقات التحالفية
بدا التباين في الثقافات السياسية والتوقعات من العلاقات التحالفية، أكثر وضوحًا في علاقات الروس مع الحكام العرب المختلفين في الدين، خلال سبعينيات القرن الثامن عشر. فقد ظهر الاهتمام بمصر وسوريا، أو بالأحرى باستخدام الأمزجة المعادية للعثمانيين لدى حاكميْ هذين البلدين، حينما صار الأسطول الروسي في حوض البحر المتوسط (يتعرف القارئ إلى هذه العلاقات في الفصل الثامن من الكتاب). فقد برز في بطرسبورغ الاهتمام بإمكان التحالف مع الحاكميْن العربييْن المتمرديْن، حينما وصلت الأنباء الأولى عن نجاحات حاكم مصر علي بك بإعلانه استقلال مصر عن الإمبراطورية العثمانية. وفي عام 1770، كانت مسألة التعاون مع علي بك موضع نقاش حيوي في المراسلات بين كاترينا وفولتير، وابتداءً من خريف عام 1771 بدأ قائد حملة الأرخبيل الروسية ألكسي أورلوف إقامة اتصالات حذرة مع علي بك. وفي ربيع عام 1772، وصل أول المفاوضين الروس إلى الشواطئ المصرية، وهو الكونت إيفان فوينوفيتش المقرب من أورلوف، برفقة “عمارة بحرية يونانية” غير كبيرة، تمكنت من طرد القوات التركية والاستيلاء على بيروت من دون عناء، بدعم من علي بك وحليفه الشيخ ظاهر العمر. وفي أيلول/ سبتمبر 1772، أُوفد مستشارون عسكريون روس لمساعدة علي بك وظاهر العمر، اللذين كانا يحاصران يافا. على أن الدعم العسكري الذي انتظره الحاكمان العربيان حينذاك لم يصل. ففي عام 1773 فقط، بعد هزيمة علي بك ومقتله، وصلت عمارتان بحريتان روسيتان صغيرتان، واستولتا على بيروت مرةً أخرى، بل تلقتا رسالتين من زعيم الدروز الأمير يوسف الشهابي والشيخ ظاهر العمر يطلبان فيها الانضواء إلى كنف “تابعية” كاترينا الثانية. ومثلما كان الأمر مع يونانيّي الأرخبيل، كانت رعاية إمبراطورة روسيا وقسم الولاء لها في هذه الحال، بل حتى الانضواء إلى التابعية الروسية، ليس سوى شكل من أشكال التعبير عن التعاون مع القيادة الروسية؛ إذ سادت العلاقات الشخصية – التبعية أو الزبائنية – في المنظومة السياسية بالمنطقة، أما مفاهيم “قسم الولاء” و”الرعاية” و”التابعية” التي أكدت هذا التعاون، فلم تكن بالنسبة إلى المشرقيين تنطوي على مغزى سياسي – قانوني، على النحو الذي يحدده القانون الدولي المعاصر، بقدر ما كانت ذات معنى تمثيلي – حمائي، على غرار اختيار التابع لسيّده.
على هذه الشاكلة، دلّ تعاون العسكريين الروس مع العرب، خلال فترة 1772-1774، بجلاء على الفوارق في الثقافات السياسية والاستراتيجيّات العسكرية، وكذلك على المبالغة في توقّعات الشركاء، على غرار ما كان الأمر عليه مع اليونانيين. فخيبة الأمل في اليونانيين – الذين بدوْا بالنسبة إلى الإمبراطورة والدائرة المتنوّرة المحيطة بها، لا يشبهون الإسبارطيين القدامى في شيء – جعلتها تناقش خطط تحرير البلقان والأرخبيل من الأتراك مع الملوك الأوروبيين، أكثر مما ناقشتها مع اليونانيين. ونعتقد أنّ تجربة العلاقات مع الحاكمين العربيين المتمرديْن استخدمت على نطاق ضيق جدًا أيضًا، وقد أدى إهمال هذه التجربة إلى دفع تكلفة باهظة في ما بعد، عند التخطيط للقيام بعمليات جديدة تهدف إلى ترسيخ النفوذ الروسي في المنطقة.
إن المسافة الطويلة التي تفصل شرق البحر المتوسط عن الحدود الروسية، وعدم وضوح أسباب الدخول الروسي إلى هذه المنطقة وأهدافها بالنسبة إلى المواطن العادي، استوجبا دائمًا الشروع بالحرب الكلامية والقيام بنشاطات دعائية، مع الاستعراض الرمزي “لرسالة روسيا التحريرية” ضد “البرابرة”، بالتزامن مع اندلاع الأعمال القتالية. ويتناول الفصلان التاسع والعاشر كيفية خوض هذه الحرب الكلامية في القرن الثامن عشر.
بالفعل، استخدمت الإمبراطورية الروسية كل وسائل الإعلام المتاحة في عصرها، لأجل الإبلاغ عن رسالتها العادلة. وكان من بين هذه الوسائل: الصحافة الروسية والأجنبية، والعظات الكنسية، واحتفالات النصر، والهدايا الثمينة. وكان سلاح الاحتفالات الدعائي موجهًا إبان الحرب إلى جمهور واسع جدًا، ليس في روسيا فحسب، بل في الخارج أيضًا. وكانت مهمةً بصورة خاصة تلك الاحتفالات التي نظمها ألكسي أورلوف (في بيزا)، حيث كان حاضرًا مع هيئة أركانه فترةً طويلة (وفي ليفورنو)، حيث كانت ترسو السّفن العسكرية الروسية، و(في بورت ماغون في جزيرة مينوركا في الأرخبيل نفسه)، حيث كانت ترسو سفن الأسطول الروسي أيضًا. (وحتى في بيروت)، ظلت الحامية الصغيرة تظهر ولاءها للإمبراطورية الروسية، فكانت ترفع العلم الروسي في أيام الآحاد والأعياد على أبراج القلعة طوال سنة ونصف السنة ابتداءً من عام 1774 .لقد واصلت روسيا تقديم الهدايا السخية لرجال الدين الأرثوذكس في البلقان والأرخبيل والأراضي المقدسة، ثم دعمت هذه الهدايا فيما بعد بإنشاء بعثاتها الدبلوماسية والكنسية هناك.
خاتمة
باختصار، نقترح على القارئ عند قراءة هذا الكتاب – الذي يتناول أحداث مئتين وخمسين عامًا مضت – أن يعقد بنفسه المقارنة بين تلك الأحداث وأعمال روسيا الأخرى في شرق البحر المتوسط إبان القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، حتى إبان القرن الحادي والعشرين. وبالفعل، ليس من الصعب تلمّس التشابه، ليس في خطط السياسيين والعسكريين خلال عصور مختلفة، بل رؤية التذمّر بشأن الآمال المتبدّدة والاتهامات في حق الحلفاء الدينيين والفكريين المتقلبين. وعلى الرغم من أن المؤلفين بعيدون عن عقد مقارنة مباشرة، لا تراعي السياق التاريخي بين العمليات الروسية في عصور مختلفة، فإن تحليل جذور سياسة روسيا المتوسطية يتيح الكشف عن عدد من الجوانب المهملة في دراسة النزاعات اللاحقة بالمشرق. ومن المهم إيلاء الأمور الآتية الاهتمام في المقارنة الاستعادية:
– تحديد تأثير الصور النمطية، الثقافية والدينية، في فهم الواقع، وفي سلوك المشاركين في الحملات العسكرية في حضارة “غريبة “، خلال حقبات تاريخية مختلفة؛
– عند تحليل ثقافة أطراف النزاع السياسية، لا بد من تقويم مدى تناسب أشكال عمل القيادة الروسية، في الأراضي المحتلة وأساليبها، مع وقائع المؤسسات السياسية القائمة في الشرق والغرب، وغيرها؛
– أخيرًا، تقويم نجاح عمل السلطات مع الرأي العام في بلادها وفي الخارج، وكذلك صدى كل عملية عسكرية لدى الرأي العام الأوروبي والروسي، وتكوين ذاكرة المعاصرين والأجيال المقبلة التاريخية.
يتطلب طرح هذه المهمات من دون شك التوجه إلى المنهجية التاريخية والسياسية، وإلى الدراسات الثقافية المقارنة (التفاعل الثقافي)، وإلى علم اللغات والأنثروبولوجيا الثقافية. فلا بد لهذه المقاربة من أن تتيح العثور على سمات الاستمرارية التاريخية الخفية، ولتقويم “معيار الحروب الإنساني” على نحو أدق، واكتناه أهمية النجاحات المحققة والأخطاء المرتكبة. يُعتبر هذا الكتاب المنقول إلى العربية فرصةً للتفاعل مع وجهة النظر الروسية الحربية والسياسية والدينية لمنطقتنا العربية، وحافزًا على الحوار العلمي المثمر