https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

السادس من يناير 2021 يوم اقتحم السوقة والغوغاء من أنصار ترامب مقر الكونغرس الأمريكي، سيبقى نقطة سوداء في تاريخ الديمقراطية الأمريكية، تشير إلى أن التساهل مع اليمين القومي المتطرف، تحت أي مبررات، يقود إلى كوارث لا نجاة منها. النموذج الأمريكي أصبح محلا للمساءلة والشكوك، منذ فشلت الإدارة في اختبارات عالمية رئيسية مثل، حماية البيئة ومكافحة الفقر والحد من التفاوت، ورفع معدلات النمو وإتاحة الأمل للشباب، والمحافظة على صحة الأمريكيين وأرواحهم خلال جائحة كورونا.

السادس من يناير 2021 سجل أيضا تحولا سياسيا خطيرا، وهو أن الديمقراطية الغوغائية، التي كان يرعاها ويحرض عليها سياسيون أمريكيون ضد مواطنيهم من أصول غير أوروبية، تحولت إلى سلاح ضد ديمقراطية البيض أنفسهم، بمحاولة منع ممثليهم المنتخبين في الكونغرس من التصديق على نتائج الانتخابات. العنف الغوغائي في 6 يناير لم يكن ضد أفارقة، ولا ضد آسيويين، أو مواطنين من أصول لاتينية، كان ضد أغلبية من سياسيين بيض، تم انتخابهم بمقتضى النموذج الذي وضعه الآباء المؤسسون للديمقراطية الأمريكية، الذين كانوا جميعهم من البيض المنحدرين من أصول أوروبية.

ببساطة لقد تحول النموذج الأمريكي إلى رمز للفشل التام، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا خلال أربع سنوات من حكم دونالد ترامب، الذي صوت له في سعيه للحصول على فترة رئاسة ثانية 70 مليون ناخب أمريكي من البالغين الراشدين العاقلين. أليست هذه مفارقة تاريخية في الدولة التي تزعم قيادة النظام الديمقراطي الليبرالي في العالم؟ اللافت للنظر في عملية اقتحام مقر الكونغرس، التي وقعت لمنع التصديق على نتائج الإنتخابات، هو أن أنصار ترامب رفعوا رايات الفاشية، ورسموا على صدورهم وملابسهم وشم النازية، بينما كان رئيسهم يحرضهم داعيا إياهم إلى «استعادة أمريكا» بالقوة، وتخليصها من جماعات السياسيين الضعفاء (الديمقراطيين) والمستسلمين (الجمهوريين غير المؤيدين لترامب). وقد ذكرت في مقال سابق عن حرب ترامب على الديمقراطية الأمريكية، أن هناك جذورا لأفكار التعصب العرقي، وثقافة تفوق الرجل الأبيض، والعنف ضد غير البيض، وأن عملية تداول السلطة لن تكون سلسة، وأن جمهور هذه الثقافة يمثل القاعدة السياسية التي جاءت بترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات عام 2016، وكانت تتوق إلى استمراره لمدة أربع سنوات أخرى، أو ربما أكثر من ذلك، حتى لو تطلب الأمر الانقلاب على الديمقراطية.

    النظام السياسي الأمريكي فشل في إغلاق بوابة تسلل منها شخص لا يؤمن بالديمقراطية إلى كرسي رئاسة الدولة

وخلال الفترة منذ نهاية انتخابات الإعادة في ولاية جورجيا على مقعدي مجلس الشيوخ وفوز مرشحي الحزب الديمقراطي، أحدهما من أصول افريقية، والثاني يهودي، وما تلا ذلك من أحداث في واشنطن، بدأت في الولايات المتحدة موجة مراجعة للثقافة السياسية، وإعادة تقييم ما يحدث، من زوايا تتجاوز مجرد رصد الأحداث وتحليلها، إلى آفاق تلامس نوافذ وأبواب مستقبل الولايات المتحدة، وهو ما اتضح بصورة جلية في إسهامات مؤرخين ومفكرين من أمثال تيموثي سنايدر أستاذ التاريخ في جامعة ييل، وجيفري ساكس أستاذ الاقتصاد والتنمية في جامعة كولومبيا، وجوزيف ناي أستاذ نظم الحكم في جامعة هارفارد.

فساد النظام السياسي

يؤكد عالم فلسفة التاريخ تيموثي سنايدر في مقال نشرته «نيويورك تايمز» (9 يناير 2021) أن ترامب لم يؤمن قط بالديمقراطية، ولم يقبل نسختها الأمريكية. لكن هذا التأكيد يثير إشكالية خطيرة تكمن في جوهر النظام السياسي الأمريكي، ألا وهي كيف أن شخصا لا يؤمن أساسا بالديمقراطية، تمكن من أن يصبح رئيس أقوى دولة في العالم، تزعم قيادتها للأنظمة الديمقراطية، وتجعل من شعار الدفاع عن الديمقراطية أهم محركات سياستها الخارجية؟ إن الوصول إلى رئاسة الولايات المتحدة، عملية سياسية معقدة، وواسعة النطاق، تضمنت في حال ترامب تزكية الحزب الجمهوري بقواعده وقياداته، وحصوله على دعم مالي وتبرعات ضخمة من أفراد ومؤسسات ترى لها مصلحة في فوزه، واستفادته من حملات إعلامية قوية ذات أصداء تتردد في كل مكان لضمان حصوله على أغلبية أصوات الناخبين في الولايات المختلفة، طبقا لقواعد النظام الانتخابي الأمريكي. الإشكالية إذن تتجاوز ترامب إلى النظام السياسي الأمريكي برمته، الذي فشل في إغلاق بوابة تسلل منها شخص لا يؤمن بالديمقراطية إلى كرسي رئاسة الدولة، التي تتربع على قمة النظم الديمقراطية في العالم. سنايدر في مقالته شديدة الأهمية، أسس حجج إدانته لفترة حكم ترامب، على فرضية رئيسية مفادها أن ترامب اعتمد على فن الكذب ثم الكذب ثم الكذب في سياسته بشكل عام. وكان فلاسفة عظماء مثل أفلاطون وأرسطو قد حذروا من خطورة الحكام المستبدين بشكل عام، لأنهم سرعان ما يصبحون محاطين بشخصيات تتركز مهاراتها في ممارسة النفاق، وموافقة الحاكم المستبد في كل ما يقول ويفعل. وكان أرسطو قد أثار أيضا خطورة سيطرة مجموعة قليلة من الأثرياء والديماغوجيين على أي نظام ديمقراطي بسهولة، نظرا لقدرتهم على التحكم في ثقافة وسلوك الشعب. وقال سنايدر إن ترامب ليس وحده هو المسؤول عن محاولة إفساد وتلويث الديمقراطية الأمريكية، وإنما يشترك معه في المسؤولية عدد كبير من الجمهوريين من أعضاء الكونغرس، الذين وقفوا معه طوال فترة حكمه، وحالوا دون مساءلته، ثم أولئك الذين أعلنوا تأييد ما اقترفه من جرائم في التحريض على اقتحام مقر الكونغرس بالقوة. غير أن سنايدر لم يعف الرأي العام والجماعة السياسية من المسؤولية، لكنه قال إن العمل من أجل تعليم المواطنين كيفية مقاومة جاذبية الكذب الذي يعتقدون فيه، أو يجدون فيه مصلحتهم، هي مهمة شاقة جدا. وهو هنا يلقى بشكل غير مباشر جانبا مهما من المسؤولية على الحزب الديمقراطي ومؤسسات الإعلام والنخب الأمريكية.

جاذبية النموذج الأمريكي

تناول جوزيف ناي (الابن) العميد السابق لكلية نظم الحكم (جون كينيدي) في جامعة هارفارد وأستاذ السياسة في الجامعة، أحداث اقتحام مقر الكونغرس بواسطة عصابة ترامب وبتحريض منه في مقال مهم نشرته مجلة «ناشيونال إنتريست» في 9 يناير الحالي ناقش فيه كيف تأثرت مصادر القوة الناعمة والغاشمة للولايات المتحدة، خلال حكم ترامب، وقال إن السنوات الأربع من حكمه، ثم محاولته الانقلاب على الكونغرس بعد سقوطه السياسي، لم تقدم أي فائدة للقوة الأمريكية. ومن المعروف أن ترامب دخل في حروب اقتصادية مع العالم، مستخدما سياسة العقوبات المالية، والمساعدات لتوسيع نفوذ السياسة الأمريكية، لكن هذه السياسة أدت غالبا إلى عكس الأهداف المرجوة منها أو المعلنة لها. وأشار ناي إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية في الفترة التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية، كانت تميل دائما إلى التدخل لأسباب مختلفة، وأسفر ذلك عن دخول واشنطن في 7 حروب ونزاعات مسلحة، لم تكن ترتكز مباشرة على تهديد لتوازن القوى في العالم.

وعن المستقبل قال جوزيف ناي إن نفوذ الولايات المتحدة عالميا سيتوقف على جاذبية مصادر القوة الناعمة، التي تشمل الثقافة والقيم السياسية والسياسات في المجالات المختلفة مثل، الدفاع عن الحريات، وحقوق الإنسان، واحترام قرارات مؤسسات النظام الدولي المتعدد الأطراف. ومن الواضح استنادا إلى ردود الفعل العالمية على ما يحدث في الولايات المتحدة أن جاذبية الثقافة والقيم السياسية والسياسات الأمريكية لدول العالم المختلفة، تراجعت بشدة، بل إن ما حدث يثير الشكوك حول قدرة الولايات المتحدة على قيادة الديمقراطيات الغربية، حيث تعرضت لانتقادات شديدة من جانب قيادات دول مثل، ألمانيا وفرنسا، وحتى في بريطانيا التي تعتبر أقرب حلفاء أمريكا في العالم تاريخيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا. ونظرا لطبيعة التحديات الداخلية التي ستواجهها الإدارة الجديدة في البيت الأبيض، فإنه ليس من المتوقع أن تكون حظوظ جوزيف بايدن كبيرة في استعادة النفوذ العالمي لبلاده.

تحدي التغيير

وكتب جيفري ساكس أستاذ الاقتصاد والتنمية في جامعة كولومبيا يوم 8 يناير مقالا مهما يعرض فيه دلالات وأصول ما حدث في 6 يناير في النشرة الاسبوعية لمجموعة (بروجكت سنديكيت). وذكر أن جذور ظاهرة الغوغائية والعنف السياسي ممتدة في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية، وأن طبقة السياسيين استخدمت هذه الظاهرة لمصالحها الخاصة في الصعود الانتخابي، وخلال الدورات السياسية، لتحويل نقمة قطاعات من الناخبين إلى طاقة من الغضب ضد الأقليات التي تشارك في بناء الولايات المتحدة. وقال إن هذه الظاهرة ترتبط أيضا بثقافة مشروعية حيازة الأسلحة الشخصية. ومن المعروف أن الجماعات المتعصبة قوميا والمؤمنين بتفوق الرجل الأبيض، وجمهور الرابطة الأمريكية لحائزي الأسلحة الشخصية، يمثلون منذ حملة ترامب الانتخابية الأولى العمود الفقري لقوته السياسية جنبا إلى جنب مع المزارعين، وكبار الأثرياء المعنيين بتخفيض الضرائب، والحصول على الامتيازات على حساب المجتمع ككل. لذلك فإن ساكس لا يعتبر ما حدث من اعتداءات همجية على الأقليات وعلى مقر الكونغرس جديدا في جوهره، لكنه يقول إن وجه الاختلاف هذه المرة يتمثل في وقوف المعتدين للمرة الأولى ضد جزء من النخبة الحاكمة ذات الأصول الأوروبية.

وحذر جيفري ساكس من خطورة السنوات المقبلة التي قد يتحول فيها النظام السياسي الأمريكي إلى أقلية بيضاء، تتحكم في أغلبية من المواطنين المنتمين إلى ثقافة وانتماءات وأصول عرقية افريقية وآسيوية ولاتينية. وقال إن التغيرات الديموغرافية تشير إلى حتمية تراجع نفوذ ثقافة تفوق الرجل الأبيض، لأن نسبة البيض بين الناخبين ستنخفض على مرّ السنين إلى أقل من نصف عدد سكان الولايات المتحدة في منتصف القرن الحالي، مقارنة بأكثر من أربعة أخماس عدد السكان في عام 1970. وقدم ساكس أحد العوامل المطمئنة على المستقبل بالقول إن إدراك الأجيال الجديدة لأهمية التنوع العرقي تفوق بكثير الأجيال السابقة. لكن الملاحظ وجود إجماع بين المفكرين في الولايات المتحدة والعالم على التحذير من خطورة الأوضاع في المستقبل، إذا استمرت على المنوال الذي تسير عليه حتى الآن. جوزيف ناي استنتج بوضوح أن «الديمقراطية الأمريكية ليست بخير». القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة − 3 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube