https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

تأليف : حسين سلمون ،ارنو توش
هو دراسة متعددة الأبعاد في مظاهر الهشاشة، وكوابح الديمقراطية في الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قبيل تفشي جائحة كورونا، ويتضمن تسعة فصول (وخاتمة) تسلط الضوء على قضايا الدولة وبنائها ومؤسساتها، واقتصاد المنطقة، وتأثيرات العولمة، والنظام الأبوي والجندر، والطائفية وسياسات الهوية، والإسلام السياسي، بالإضافة إلى المعضلة البيئية وتداعيات كوفيد-19 على المنطقة. وكل هذه الموضوعات محكومة بخيط ناظم يُجْمِل تأثيرها وتفاعلها وارتباطها بقضية الديمقراطية، وفي ذلك وجاهة بحثية معتبرة، ما دامت المسألة الديمقراطية تتمركز حولها التطلعات الشعبية، والسياسات الرسمية الداخلية والخارجية، والرهانات الاقتصادية، والحسابات الدولية والإقليمية، خاصة بعد الربيع العربي وما أعقبه من أحداث وتطورات.

وبالنظر لاهتمامات المُؤَلِّفَيْن وما راكماه من أعمال بحثية وأكاديمية، فإن الكتاب يتميز بحضور نزعتين أو “لمستين”: الأولى تتوسَّل بمنهج تحليلي يقوم على تفكيك أزمة الديمقراطية، في الدول العربية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى مشكلات بحثية، وظواهر سياسية واجتماعية وثقافية، ومن ثم تقديم قراءات نقدية للسياسات المرتبطة بها، وهو ما نلمسه في الدراسات المنجزة من قِبَل حسين سولومون المتعلقة بقضايا الدولة والهوية والسيادة والجندر والطائفية والبيئة وتداعيات كوفيد-19. والنزعة الثانية، وإن لم تبتعد عن الإطار التحليلي العام إلا أن إضافتها النوعية تتمثَّل في استثمار أدوات الإحصاء والرياضيات والمسح البياني واعتماد مؤشرات تسمح برصد دقيق لبعض تمظهرات أزمة الديمقراطية في المنطقة. وقد تصدَّى أرنو توش لهذه المهمة من خلال دراسة عوامل عجز اقتصاديات المنطقة، واستقصاء تأثيرات وتفاعلات العولمة الاقتصادية والثقافية، وكذا الدراسة المتعلقة بالإسلام السياسي. وبناء على ذلك، تنقسم هذه الدراسة إلى جزأين: يستعرض أولهما بشكل مفصل أفكار الكتاب وبنيته التحليلية، ويُعد الجزء الثاني بمنزلة قراءة نقدية لأطروحاته، ولا يعني ذلك نقضها بشكل كلي بالقدر الذي يعني مناقشتها وتقديم ملاحظات تقييمية بشأنها.
1. أهمية الدراسة وأبعاد المقاربة

استطاع الكتاب أن يلامس عددًا من الإشكاليات والتحديات التي تواجهها الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ونعتقد أن ثمة أهمية بالغة في جعل هذا المجال محورًا للبحث والتحليل ودراسات ميدانية واستطلاعات للرأي تهم مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأمنية. إن خصوصية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لطالما شكَّلت لدى الباحثين حقلًا أكاديميًّا ومعرفيًّا جاذبًا ومغريًا، ومردُّ ذلك لمميزات المنطقة وتاريخها المحمَّل بالتحولات والتطورات التي أثَّرت في ميزان السياسة والاقتصاد والاستراتيجية العالمية، سواء بتوجيه حسابات القوى الدولية أو الإقليمية، أو بتحولها إلى حقل ومجال تمر عبره وتصاغ من خلاله هندسة العلاقات الدولية، وتختبر فيه تدفقات الاقتصاد والتجارة العالميين، وتتقاطع فيه مشاريع فكرية متنوعة ومناهج تفكير متباينة.

وكما هو الشأن بالنسبة لكل دول العالم، وكل التكتلات والمجالات الإقليمية، أحدثت جائحة كورونا هزة غير مسبوقة في الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصة أن هذه الدول ظلت باستمرار تعاني من اختلالات هيكلية، وأزمات مزمنة في أنظمة حمايتها الاجتماعية، وبنياتها الصحية، وأنظمتها الاقتصادية، وهياكل الاستجابة الطارئة، وهي القطاعات التي استهدفتها الجائحة بشكل مباشر، وطالتها ارتدادات عنيفة ستستمر في التأثير في مجمل البناء العام لهذه الدول. هذا الأمر يفترض قراءة متأنية وتشخيصًا دقيقًا واستشرافًا للوضع العام في المنطقة.

ونعتقد أن أهمية هذا الكتاب وإضافته النوعية تكمن في تبنِّيه مقاربة متعددة الأبعاد والمستويات في تشخيص مظاهر الضعف والعوائق التي تواجه الديمقراطية في المنطقة؛ إذ نجده محافظًا على أصالة موضوعاتية في سياق تحليل قضايا الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد وارتباطه بالتنمية والتمدن والفقر والشغل والشباب والبيئة، ناهيك عن المطارحات الفكرية المرتبطة بالدولة وهويتها وبنائها ومؤسساتها، وقضايا الجندر والعولمة والطائفية والدين والإسلام السياسي.

إن هذا الاهتمام بالمنطقة ليس جديدًا في الدراسات الأكاديمية. لقد تحوَّل إلى انشغال بحثي ثابت، بل وإلى حقل معرفي متميز باستقلالية معتبرة؛ إذ لا تخلو جامعة أو مؤسسة بحثية أو مركز دراسات أو حتى دوائر رسمية، مثل وزارات الخارجية، من أقسام خاصة بالأبحاث والدراسات والتقارير حول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وينعكس هذا التركيز على تنوع وتعدد وتباين موضوعات تفكيك وتحليل قضايا المنطقة وأزماتها. وهذا الكتاب بخاصيته البيْن تخصصية وإن لم يبتعد كثيرًا عن اتجاهات التحليل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية “المعتادة” التي تؤثر في المنطقة، إلا أن أحد أبرز عناصر قوته هو تلك النزعة التجريبية والإحصائية ومنهجه الكمي المؤسَّس على مؤشرات ومسوحات وبيانات وخرائط توضيحية لواقع التنمية والدَّمَقْرَطة والعولمة بشكل عام في المنطقة. وتوظف الدراسة في هذا الإطار أزيد من مئة وثيقة ما بين جداول وخرائط وصور وبيانات. وهذا التوليف الذي يدمج مناهج الإحصاء والرياضيات في دراسة المظاهر الاجتماعية والسياسية والثقافية، هو أحد التوجهات الثابتة لدى أرنو توش، الذي يعتبر أحد مؤسسي البحث الكمي حول نظرية المنظومات العالمية المعروفة أيضًا باسم تحليل المنظومات العالمية، وهو كذلك أحد المساهمين الرئيسيين إلى جانب رونالد إنجلهارت (Ronald Inglehart) في مشروع مسح القيم العالمية الهادف لاستكشاف التحوُّل الزمني لقيم الأفراد ومعتقداتهم وتأثيرها الاجتماعي والسياسي، وقد وظَّفه توش بشكل كبير في الدراسة المتعلقة بتأثير العولمة الثقافية على منظومة القيم، وفي تحليل تمظهرات عجز اقتصاديات المنطقة، وكذا في الدراسة التي ركزت على الإسلام السياسي. وقبل ذلك، كان لهذا التوجه حضور بارز وواضح في كتاب صدر سنة 2020 بعنوان: “الإسلامية، الأزمة والدمقرطة: آثار مسح القيم العالمية على العالم الإسلامي”، وفي عام 2019، صدر أيضًا كتاب: “الإسلامية، الربيع العربي ومستقبل الديمقراطية: منظور النظام العالمي والقيم العالمية”، أضف إلى ذلك كتابًا صدر سنة 2014 حول “الجبر السياسي لتغير القيم العالمية: نماذج عامة حول العالم الإسلامي”.
2. أزمات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الارتباط الموضوعي بالمسألة الديمقراطية

يُقدِّم الفصل الأول من الكتاب، وهو عرض تمهيدي، بعض التفصيلات والتوصيفات بخصوص منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وينطلق الكتاب في تحليل بعض مظاهر الأزمة الاقتصادية، وتأثير تفشي وباء كوفيد-19 في الاقتصاد العالمي وكذلك اقتصاد الدول العربية في المنطقة، غير أن هذا المدخل لا يلبث أن يتحوَّل إلى تأصيل وعرض تاريخي لجذور الأزمة السياسية في هذه الدول، والتي ترجع استنادًا لتحليل الكتاب إلى الصراع حول السلطة الذي أعقب مقتل الإمام علي، وأفرز بروز أصولية إسلامية وانقسام طائفي سُنِّي/شيعي. ووفق منطق الصراع التاريخي الذي يلمِّح إليه الكتاب منذ أسطره الأولى، فإن التوتر السياسي يظل السمة الأساسية والخاصية المميزة لبنية السلطة في دول المنطقة. ويشير الكتاب بشكل مقتضب لدور العوامل الخارجية في تحفيز وتكريس أزمات الدول العربية في المنطقة، ويحيل في ذلك إلى الحروب والحملات العسكرية بدءًا من الحروب الصليبية وحروب المغول والاستعمار وغيرها. وبهدف استكمال هندسة الكتاب، فإن هذا المدخل التمهيدي يُؤطِّر ويوجِّه القضايا والإشكالات المراد التصدي لها، بخيط ناظم مرتكز على البنية المؤسساتية لدول المنطقة، وعلى العلاقات والتفاعلات التي تتم داخلها وعبرها، وعلى القيم التي تضبطها. علاوة على ذلك، يعرِّف مدخل الكتاب ويصف المسارات السياسية والاقتصادية في دول المنطقة من خلال مسلسل العولمة، وهو يتوسَّل في سبيل تحقيق ذلك بمنهجية ترتكز على خرائط ومسوحات وتقييمات ومؤشرات عالمية يرى الكاتبان أنها نموذج تحليلي ضروري لفهم آثار العولمة على التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.

يفكِّك سولومون في الفصل الثاني من الكتاب أحد أهم عناصر الأزمة في الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، جاعلًا من الدولة محور تحليله وتشخيصه. فهو يجادل بأن صفة الفشل وخاصية فقدان الدولة لسيادتها في هذا المجال الجغرافي تخضع لثلاثة موجِّهات رئيسية: أولها الطبيعة “المصطنعة” للدولة الناجمة عن خطط التجزيء والتقسيم والاحتلال الأجنبي الذي تعرضت له دول المنطقة. استنادًا لهذا التحليل، يعرِّض سولومون الهوية الوطنية المشتركة لهذه الدول، وكذا ولاء مواطنيها، للتشكيك، ويفترض وجود بنية مُتَأَصِّلَة للسلطوية في دول المنطقة وقدرة الديكتاتوريات على الصمود والاستمرار، وعودتها الشرسة بعد مرحلة الربيع العربي، مسجلة تراجعات وانتكاسات في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويعتبر سولومون، ضمن نفس السياق، أن الرِّيعَ المبني على استمالة النخب والمجتمع المدني يتحكَّم في البنية الاقتصادية لهذه الدول العربية، ناهيك عن الثروات الطاقية التي مكَّنت -دول الخليج على وجه الخصوص- من الصمود أمام موجات التحديث السياسي والانتقال الديمقراطي.

ويتمثَّل الموجِّه الثاني في العلاقة بين الدِّين والسياسة، ووجود مساحات وتقاطعات مهمة بينهما لدى أغلب دول المنطقة. وتتمظهر هذه الخاصية في حرص الأنظمة الحاكمة على احتكار الشرعية الدينية وتنظيم الحقل الديني وفق رؤية رسمية أحادية. أما الموجِّه الثالث فيتجلى في السياقات الإقليمية والدولية المتحكمة، ودور القوى الخارجية في تعقيد وتكريس أزمات المنطقة السياسية والاقتصادية والأمنية. وتتعرض الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتجاذب وتنافس من قِبَل قوى دولية كبرى (الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، والصين…) تتبنَّى سياسات تعتمد على رعاية الأنظمة السلطوية، وتعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية وخلق تحالفات واصطفافات على حساب ضرورات ومتطلبات الأمن الإقليمي.

وفي ضوء هذه العوامل، يطرح سولومون سؤال مركزية الدولة ودورها، معتبرًا أن النموذج الوستفالي الذي استُجلب للمنطقة فرض على دولها ثلاثة تحديات كبرى: أولها: البروز القوي والصعود اللافت لتنظيمات مسلحة سيطرت وتحكَّمت في مساحات جغرافية واسعة في اليمن وسوريا والعراق ولبنان ومصر وليبيا، وهو أمر وضع قدرة هذه الدول على ضبط حدودها والتحكُّم فيها على المحك، باعتبار ذلك شرطًا ومقوِّمًا أساسيًّا لتحقيق السيادة وفق النموذج الوستفالي. وقد حازت هذه التنظيمات قدرات عسكرية مهمة، وبعضها أقام أنظمة أمنية وهياكل قضائية وسياسية واقتصادية. أما ولاؤها السياسي والأيديولوجي فهو مرتبط بمنظومة فوق-وطنية من المصالح المعقدة والمتشابكة.

ويتمثَّل التحدي الثاني في العامل الديمغرافي؛ إذ تتشكَّل البنية الديمغرافية للدول العربية بالمنطقة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة. ولا تسمح بنيات الفساد المستشري في هياكل الدولة، والحوكمة السيئة، بتحقيق اندماجها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويظل اللجوء للفضاءات البديلة المنفلتة من الحدود والمراقبة والضبط والتحكُّم خيارًا رئيسيًّا لهذه الفئة. ويشكِّل هذا الأمر عاملًا محفزًا ومساعدًا لاندلاع موجات جديدة من الاحتجاج كما حدث في الجزائر ولبنان والعراق والسودان.

أما التحدي الثالث، فهو العلاقة بين القواعد التي كرَّسها اقتصاد الريع وضرورات التحديث والتطوير التي فرضتها التقنيات الحديثة والطاقات البديلة. فعلى الرغم من خطط التنويع الاقتصادي، فإن الدول المصدِّرة للنفط -في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- تبدو مكبلة بمنظومة من القصور الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد. ففي المملكة العربية السعودية -على سبيل المثال- تصطدم رؤية 2030، التي تهدف إلى خفض الدعم العمومي وتقليل الاعتماد على الهيدروكربورات وتطوير القطاع الخاص، برفض من قِبَل التيارات المحافظة في الدولة.

ويسلِّط الفصل الثالث، الذي أعدَّه أرنو توش، الضوء على الأداء التنموي للدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من 1960 إلى 2019، معتمدًا في ذلك على تحليل عدد من المؤشرات، مثل: الديمقراطية، والنمو الاقتصادي، والمساواة، والتنمية البشرية، والبحث العلمي، والبيئة، والتماسك الاجتماعي، وغيرها. وكان هدفه من هذا الاستعراض الكمي الوصول لخلاصات توليفية حول التنمية الشاملة في المنطقة قبيل تفشي فيروس كوفيد-19. غير أن هذا التركيز على دول المنطقة لم يمنع الكاتب من وضع تحولاتها ضمن السياق الدولي الشامل الذي يتسم بحالة من التراجع التنموي والركود الاقتصادي. فكل الدول الموجهة والمؤثرة في الاقتصاد العالمي باتت تتجه نحو ركود اقتصادي غير مسبوق. لقد كان الرهان قويًّا على الشراكة الأورومتوسطية ومنطقة اليورو كي توفر دعامة مستقبلية لجزء كبير من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يمتد من المغرب إلى لبنان، وجعل الديمقراطية والتجارة الحرة مرتكزات هذه الشراكة، غير أن الاتحاد الأوروبي -وحتى قبل أزمة كورونا- عانى من أزمات داخلية وخارجية عاصفة من قبيل خروج بريطانيا وتراجع الأدوار الخارجية للاتحاد وعجز سياساته المالية… كما وجد نفسه حبيس القواعد النيوليبرالية التي حددت مساره بعد الأزمة المالية لسنة 2008، والتي أسهمت في تراجع سياساته الاجتماعية، وأدت إلى النكسة الصحية التي عرفتها بعض دوله، مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، وهو نفس الوضع الذي وجدت الدول العربية بالمنطقة نفسها أمامه بفعل أعطاب الاقتصاد السياسي النيوليبرالي.

وبناء على مجموعة من البيانات والمسوحات والخرائط، يُقدِّم الكاتب خلاصات حول التنمية في العالم العربي، وتتقاطع استنتاجاته مع ما ورد في تقرير التنمية البشرية العربية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2016، خاصة على مستوى المؤشرات المرتبطة بالشباب والتعليم والصحة والهوية والشغل والمساواة والأمن والهجرة. وفي هذا السياق، يخلص توش إلى أن الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتميز أكثر من غيرها من دول العالم بارتفاع معدلات البطالة، وعدم المساواة والتمييز ضد المرأة، والإنفاق المنخفض على الضمان الاجتماعي، ومعدلات نمو بطيئة، وعدم القدرة على تحرير الأنشطة الاقتصادية، وتراجع مناخ التسامح الديني. وتؤشر هذه المعطيات على فشل واضح في النموذج التنموي العربي الذي يتسم بالتهميش السياسي والحرمان الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي. وقد تعاظمت حدة هذه الأعطاب بفعل وباء كوفيد-19؛ إذ من المتوقع أن تصبح غالبية السكان في العالم العربي أكثر فقرًا وفقًا للمعايير والمؤشرات التي أوردها الكاتب في هذا الفصل.

ويتمحور الفصل الرابع من الكتاب حول تأثير العولمة على القيم الإنسانية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهي إشكالية يُعبِّر عنها توش باستفهام عريض مفاده: ماذا يحدث عندما تصبح العولمة الاقتصادية أسرع من العولمة الثقافية؟ ويستعين توش للإجابة عن هذا السؤال/الإشكالية بمقاربة تقنية إحصائية تعمد إلى قياس مستويات اندماج الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العولمة استنادًا لمؤشر “كوف” للعولمة (ZURICH KOF-INDEX)، بالإضافة إلى توظيف مؤشرات مقارنة للوقوف على وضعية قيم التنمية الشاملة المستقاة من مسح القيم العالمية (World Values Survey). تُمكِّن هاتان الآليتان الإحصائيتان من إيجاد تقاطعات بين ظاهرة العولمة والقيم الإنسانية، وهو توجه جديد في الدراسات البحثية المعنية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ حيث ظلَّت هذه النزعة مهمَلة إلى حدٍّ كبير في أدبيات تفكيك وتحليل العولمة وعلاقتها -على سبيل المثال- بالقيم التحررية، مثل المساواة وحرية التعبير والاختيار والاستقلالية، ناهيك عن التفاعلات بينها -أي العولمة- وبين الدين والتقاليد والإثنية وغيرها.

يعالج مؤشر “كوف” ظاهرة العولمة من أربع زوايا: مالية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية. ويميز بين الخصائص القانونية للعولمة، وخصائصها الواقعية، وهو بذلك يوفر معطيات حول خمسة وعشرين مؤشرًا(1)، ويخلص توش بتحليل واستقراء تطورها إلى أن ظاهرة العولمة عرفت صعودًا وبروزًا في الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ سبعينات القرن الماضي، غير أن وتيرتها تراجعت خلال العقدين الأخيرين. كما تخلفت الجوانب الثقافية للعولمة عن الجوانب الاقتصادية والمالية. وتحتل دول المنطقة المراتب الأخيرة عالميًّا في مستوى العولمة الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بحرية الصحافة والمساواة بين الجنسين والحريات المدنية وحرية الوصول للمعلومة.

وبشكل عام، تخلُص نتائج المسح الإحصائي الذي قام به الكاتب في هذا الفصل إلى أن النظام الأبوي يمارس تأثيرًا سلبيًّا في تطور العولمة الاجتماعية التي تعبِّر عن قدرة وقابلية الأفكار والقيم على التنقل والانتشار عبر الإعلام والإنترنت والسفر والهجرة وغيرها من أشكال التواصل، كما تؤثر في عنصر الثقة في هذه المجتمعات على الرغم مما يبدو من مظاهر العصرنة والتحديث. وهذه المفارقة لا تتوافق -بحسب رأي الكاتب- ورغبة صنَّاع القرار في المنطقة في الاستفادة من مزايا العولمة الاقتصادية.

ويبحث سولومون من خلال الفصل الخامس النظام الأبوي في الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مستهلًّا دراسته بسؤال حول أسباب ومبررات الممارسات الميسوجينية (Misogyny)، أو كراهية النساء، في الدول العربية بالمنطقة. ويتبنَّى سولومون تعريف ماكس فيبر (Max Weber) للنظام الأبوي باعتباره نظامًا تقتضي ثقافته وقوانينه جعل السلطة وممارستها في يد الرجال الذين يوظفون مواقعهم ومناصبهم لإقامة قواعد المجتمع. استنادًا لهذا التعريف، يشخِّص الكاتب الوضعية الراهنة للمرأة في المنطقة ومختلف مظاهر التمييز التي تبرز فيها “السطوة الذكورية” في التعاطي مع حقوق المرأة وقضاياها من قبيل حضورها الضعيف في سوق الشغل وفي التعليم، وانخراطها المحدود في القوة العاملة، وفي مناصب الحكم والتسيير والقرار والمشاركة السياسية. وتسهب الدراسة في توصيف حالة “الاضطهاد الجنسي” الذي تتعرض له المرأة في المنطقة عبر مختلف الأشكال والمظاهر، والذي يُوظَّف أداةً للإقصاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي في سوريا ومصر والسودان ولبنان واليمن والمغرب والجزائر. ويلجأ كاتب هذا الفصل إلى مقاربة تفسيرية ترتكز على تفكيك علاقة الإسلام بقضايا الجندر، ويجد تأصيلًا فكريًّا قائمًا على التمييز بين مدرستين: الأولى: تدعم التأويل الثقافي الذي يعتبر النظام الأبوي صفة ملازمة ومُتَأَصِّلَة في الهوية الإسلامية التي تشكِّل عائقًا أمام التقدم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمرأة. ويجادل أصحاب هذا الرأي في أن استمرار التمييز المنهجي ضد المرأة له جذور وأصول في الشروط والظروف الهيكلية الموجودة في المنطقة التي ترفض ريادة وقيادة المرأة. وترفض المدرسة الثانية هذا المنظور الثقافي من منطلق أن النظام الأبوي كان موجودًا قبل ظهور الإسلام، وأن الأديان الأخرى ليست أقل “أبوية” منه، وأن تفسير استمرار التمييز ضد المرأة في المنطقة العربية يجب أن يُستقصى عنه في النظام السياسي والسوسيو اقتصادي الذي تُمارَس فيه “الأبوية”.

ويؤكد صاحب الدراسة أن الدول العربية في المنطقة دشَّنت مرحلة ما بعد “الأبوية”، ويثبت ذلك من خلال الرفض الذي باتت تواجهه “أسطورة الحماية” الذكورية أو الأبوية للمرأة، بل وانتقال الفعل النسوي إلى حركة جندرية مساهِمة بشكل مباشر وميداني في مطالب الإصلاح الديمقراطي والنضال السياسي بشكل عام. ففي السودان والجزائر وتركيا وتونس والمغرب وغيرها، استفادت الحركة النسائية الليبرالية من التحولات التكتونية التي أحدثتها العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية من أجل تقليل تأثير قيم النظام الأبوي في مجتمعات المنطقة.

وضمن نفس الامتداد الفكري والموضوعي للفصل الخامس، يعالج الكاتب نفسه قضية الطائفية في المنطقة موضوع الكتاب، من منطلق ارتباطها الوثيق بسياسات الهوية. وتنتعش هذه الأخيرة في المنطقة كونها ترتكز على مفاهيم وقيم مركزية في التعريف السياسي والثقافي والأيديولوجي لهذا المجال الجغرافي ولسكانه؛ حيث تحيل إلى الانتماء الإثني، والعقيدة الدينية، والخصوصية الثقافية، والاختلاف المذهبي. وتنتج هذه التمايزات الهوياتية اختلافات واضحة في الرؤى والتصورات والتطلعات والاصطفافات لدى مختلف الجماعات والإثنيات. وأمام هشاشة بناء الدولة يبرز ما يسمى بـ”أصحاب المشاريع الطائفية”، وهي فئة توظِّف هذه الاختلافات المذهبية والإثنية والدينية لخدمة أجندات سياسية. وتلجأ الأنظمة السياسية في المنطقة لسياسات الهوية للحفاظ على امتياز احتكارها للسلطة، وإنشاء شبكات منفعية مشتركة مع أصحاب المشاريع الطائفية، وممارسة الإقصاء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ضد مخالفيها ومعارضيها. ويشير الكاتب على سبيل المثال إلى بعض العائلات السياسية في منطقة الخليج التي تبني شرعيتها على العامل القبلي، وتعززها بالتحالف مع النخب الاقتصادية والدينية.

وتتجاوز تأثيرات وتمظهرات سياسات الهوية النطاق الوطني لتتحول إلى تجاذبات ذات امتدادات إقليمية ودولية، وإلى جزء من معادلات النفوذ والنزاع. وفي الحالة الكردية، تُبْرِز الدراسة تحولات وتطورات القضية في سياق توظيفها جيوسياسيًّا وجيوستراتيجيًّا من قِبَل قوى دولية وإقليمية، دون أن يفضي ذلك إلى تحقيق المطلب الرئيسي للأكراد بإقامة دولة مستقلة بخصوصياتها الإثنية والعرقية. وفي سوريا ذات التنوع الإثني والمذهبي (سُنَّة، شيعة، أكراد، تركمان، دروز، مسيحيون، أيزيديون) لا يمكن فصل الحرب الأهلية الدائرة رحاها منذ 2011 عن التناقضات الداخلية التي حفزها النظام ذي المرجعية العلوية والمدعوم من روسيا وإيران وحزب الله.

أما الفصل السابع من الكتاب، الذي أعدَّه توش وسولومون، فهو دراسة حول الإسلام السياسي في الدول العربية بالمنطقة تجمع بين القراءة الأكاديمية والتحليل الإحصائي، ويرتكز بشكل أساسي على استطلاعات الرأي الصادرة عن “البارومتر العربي 5”. وتُقدِّم الدراسة في مستهلها نظرة عامة حول ظاهرة الإسلام السياسي والأصول الفكرية والأيديولوجية لتطورها، وكذا المفاهيم والقيم المُؤَسِّسَة لها. وفي هذا الإطار، يعتبر المُؤَلِّفان أن الإسلام السياسي ظل يمثِّل قوة رئيسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال القرن العشرين، وهو تيار فكري يقوم على جملة من المسلَّمات المستمدة من الدين والرامية لتأسيس نظام حكم قائم على عدم قابلية الفصل بين الدين والدولة، ورفض الديمقراطية، وحصر دور الحكومة في تطبيق الإرادة الإلهية، وهو ما لا تختلف بشأنه كل التنظيمات والجماعات الإسلامية، سُنِّيَّة كانت أو شيعية، جهادية أو سياسية أو حركية، غير أن صعود حركات الإسلام الذي جاء بديلًا لفشل المشاريع القومية والعلمانية في العالم العربي بات يعرف انحسارًا وتراجعًا خلال العقدين الأخيرين.

ويشير الكاتبان إلى أربعة عوامل أسهمت في “انهيار كارثي” -بحسب تعبيرهما- للثقة في الإسلام السياسي. أولها: كون الخيارات السياسية لبعض من هذه الحركات والأحزاب لم تتوافق وطبيعة الانتظارات والتطلعات الديمقراطية للمواطنين. ويشار في هذا السياق لنظام عمر البشير في السودان الذي حظي بدعم حزب المؤتمر الشعبي، ونظام عبد العزيز بوتفليقة الذي دعمته حركة مجتمع السلم. ثانيها: اختلالات التدبير والتسيير وتهم الفساد التي لحقت أحزابًا وتنظيمات ذات مرجعية إسلامية تولَّت زمام الحكم في عدد من البلدان. ثالثها: عدم قدرة هذه التنظيمات على تقديم حلول للمعضلات والتحديات الاقتصادية التي تواجهها المنطقة، والاكتفاء بالاحتماء بخطاب ديني تبريري. رابعها: الخلافات والانشقاقات بين الأجيال المؤسِّسة والأجيال الجديدة داخل هذه التنظيمات (حركة الإخوان المسلمين في مصر والأردن).

وتعتمد الدراسة في سبيل إثبات فرضياتها حول الإسلام السياسي في الدول العربية بالمنطقة على منهج تجريبي إحصائي يستقرئ نتائج وبيانات استطلاع “البارومتر العربي 5″، بالإضافة إلى مؤشرين تعتمدهما الدراسة: الأول حول الإسلام السياسي(2)، والثاني حول “مواجهة الإسلامية”(3). وبناء على هذه “التوليفة” الإحصائية التجريبية، يُقدِّم البحث خلاصات أساسية منضبطة للمنطلق الفكري الذي تأسس عليه، وهو نقض العلاقة بين الدين والدولة وبين الدين والسياسة؛ إذ يعتبر أن الرأي العام العربي، الذي يبحث عن روحانياته الدينية المفروض انتماؤها لمجال خاص، تزعجه قواعد ومسلكيات الإسلام السياسي المنتصرة لتدخل زعماء الدين ورجاله في الانتخابات، والداعمة لنفوذهم في مراكز القرار وفي المهام اليومية للتدبير والتسيير. ولم تنجح حركات الإسلام السياسي في تجاربها -بحسب المُؤَلِّفين- لأن ثقافتها السياسية ومنهجها الفكري حبيس قوالب جامدة لا تؤمن بفصل السلط وحقوق المرأة والمرجعية الدستورية وقواعد القانون والعدالة الاجتماعية.

ويمثِّل التحدي البيئي الذي تواجهه الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا محور الفصل الثامن من الكتاب. ويجزم سولومون بأن دول المنطقة تواجه معضلات بيئية حقيقية، مثل التصحر وقلة التساقطات المطرية وتردي جودة المياه وارتفاع درجة الحرارة وغيرها من المظاهر التي تزداد تعقيدًا بسبب التحضر السريع، والتركيبة الديمغرافية والسكانية الشابة، وتدني مستوى التعليم، والتي قد تُحوِّل الكثير من المجالات إلى مناطق غير قابلة للسكن والعيش بحلول عام 2050. وإلى جانب الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، تستدعي المشاكل البيئية توترات سياسية داخلية، وحسابات جيوسياسية إقليمية؛ إذ تكشف عن عجز الدولة عن تقديم حلول لقضايا الأمن الغذائي، وتوفير الطاقة، وتدبير قضايا الإيكولوجيا… وتحفز الصراعات الإقليمية والحدودية حول منابع المياه ومصادرها ومجاري الأنهار والبحيرات. ويبرز في هذا الإطار النزاع المصري-الإثيوبي حول سد النهضة، والخلاف العراقي-الإيراني-التركي حول نهر سيروان ونهري دجلة والفرات، والخلاف السوري-الأردني حول نهر اليرموك… وتقتضي مواجهة التحديات البيئية -بحسب الكاتب- جعل هذه القضايا في قلب السياسات العمومية، ومحورًا للحكامة الحضرية، وضرورة اعتماد استراتيجيات خضراء مرتكزة على الطاقات المتجددة وتشجيع الابتكار والبحث العلمي في هذا المجال، وتحفيز التعاون الإقليمي المؤسَّس على توزيع المنافع السوسيواقتصادية للمجالات المائية المشتركة.

ويتطرق الفصل التاسع والأخير للتأثيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لفيروس كوفيد-19 على الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويرصد تفاعلها مع التحديات التي فرضتها الجائحة. فقد عمدت دول المنطقة إلى تطبيق إجراءات الحجر الصحي، وفرض حالة الطوارئ الصحية، وإقرار خطط وبرامج لمواجهة التداعيات الاقتصادية للجائحة التي أثَّرت في أهم القطاعات الصناعية والتجارية ذات البعد الاستراتيجي، مثل الطاقة والسياحة والخدمات والنقل الجوي وغيرها. وعلى الرغم من ذلك، فإن هشاشة البنيات التحتية الصحية وضعف نظام الحكامة، جعل مواجهة الوباء أكثر صعوبة على هذه الدول، بل إن ارتدادات الجائحة ازدادت حدَّة بالنسبة للدول التي تعيش أزمات سياسية داخلية أو حروبًا أهلية، مثل سوريا واليمن ولبنان والعراق. ويذهب سولومون إلى القول بأن الجائحة ستكون لها تداعيات طويلة الأمد على الأنظمة في المنطقة، وتؤدي إلى إعادة تشكيل وبناء الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والصحية، كشرط ضروري كي تستطيع هذه الأنظمة الاستمرار في نظام معولم لا يعترف بالحدود والسيادة والحواجز.
3. الصورة النمطية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إن توظيف واستثمار المنهج الإحصائي والمقاربات التجريبية والرياضية في العلوم الاجتماعية بشكل عام، يتوخى تحقيق الدقة والمصداقية والموضوعية والبحث عن الحقيقة إلا أن الملاحظة الأساسية التي تثير الانتباه بخصوص لجوء أرنو توش لهذا الخيار الأساسي في الكتاب، لم يخدم إلا هدفًا رئيسيًّا وهو تكريس الصور النمطية الجاهزة حول الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تحوَّلت إلى تمثُّلات متوارثة بين أغلب الباحثين والمهتمين بالمنطقة من الغرب على وجه الخصوص، حيث يتم التعامل معها باعتبارها جزءًا غير متمايز ومتآلف يسكنه بشكل أساس الإرهابيون والمتعصبون والمتطرفون والذكوريون. ويبرز هذا المستوى من التنميط في تناول قضايا وإشكالات المنطقة في قضيتين رئيسيتين: أولها: الربط بين الدين والتطرف، وثانيها: إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة.

1.3. جدلية العلاقة بين الهوية الدينية والتطرف

أول ما يطالعنا به الكتاب في صفحاته الأولى، وهو تمهيد وتأصيل للأزمة السياسية والديمقراطية في المنطقة، يعود بنا للعهد الإسلامي الأول متهمًا إياه بتأسيس الأصولية الإسلامية التي ما زالت تتحكَّم وتوجِّه قضايا المرأة والديمقراطية والانتخابات في العالم الإسلامي(4). وقد تناسى الكاتبان أن مصطلح “الأصولية”، وحمولته الأيديولوجية والسياسية وتوظيفاته، تمثِّل أطروحة غربية جرى اللجوء إليها للتعبير تارة عن تيارات الصحوة الإسلامية، وتارة عن التنظيمات الإسلامية المشاركة في الحكم وفي المشهد السياسي في بلدانها، وتارة أخرى عن التيارات الجهادية والحركات المسلحة. وهذا الخلط المفاهيمي والإشكال التصوري يبدو أنه لا ينم عن “عجز” بشأن فهم تحولات وتطورات الاجتهاد الحركي والتنظيمي المُؤَسَّس على مرجعية الدين وتمفصلاته الفكرية الكبرى، ولكنه “جموح” مُتَعَمَّد لصهر كل الحركات السياسية والمسلحة سُنِّيَّة كانت أو شيعية في بوتقة واحدة يجمعها الرفض المطلق للديمقراطية(5). كما أن إصرار الكاتبيْن على اعتبار التطرف الإسلامي أحد المحركات الرئيسية لأزمات المنطقة، قد أسقطهما في تطرف من نوع آخر بالإحالة لأفكار كل من الراوندي ومحمد الوراق وعمر الخيام وابن الرازي باعتبارها اتجاهات للعقلانية والنقدية والإنسانية في الفكر الإسلامي(6).

ونفترض أنه لو كانت لدى الكاتبين رغبة موضوعية في نقد التطرف الديني، باعتباره أحد أسباب أزمة الدولة والسياسة والديمقراطية في الدول العربية بالمنطقة، لحدث ذلك من خلال منهج استقراء واستنباط أكثر شمولية للأدبيات والمراجعات التي حدثت من داخل منظومة الفهم والتفكير العربية والإسلامية، والتي اتسمت بجرأة وشجاعة معتبرتَيْن في تناول قضية التطرف بشكل عام، نذكر على سبيل المثال لا الحصر رؤية محمد عابد الجابري التي تعتبر التطرف اليميني شأنه شأن التطرف اليساري ظاهرة ملازمة للتاريخ والبشر جميعًا، وأن التطرف عندما يصبح مهيمنًا على المجتمع ككل، فيجب البحث عن السبب في الاقتصاد والديمقراطية وفي حقوق الإنسان وليس في الدين(7). لكن تناول الكتاب لهذه القضية وارتباطاتها بإشكالات السياسة والديمقراطية والحريات والمساواة والتعددية الإثنية والثقافية في الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كرَّس نزعة شيطنة العالم العربي والإسلامي برمته لدى شريحة واسعة من الكتَّاب والباحثين والأكاديميين المهتمين بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

2.3. العلاقة بين الدين والسياسة

تشكِّل العلاقة بين الدين والسياسة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا معطى موضوعيًّا يعبِّر عن جانب مهم وواسع من ديناميات الفعل السياسي وتحولاته. وقد أظهر الربيع العربي الحاجة الملحَّة لفهم جيد وعميق لهذه العلاقة وارتباطاتها بالممارسة الديمقراطية، خاصة أن هذه الحقبة وما بعدها كان للحركات والتنظيمات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية دور محوري في صياغة ملامحها، كما أن سياقات ما بعد الربيع العربي ووصول الإسلاميين للسلطة كانت ولا تزال تشكِّل انشغالًا رئيسيًّا سواء بالنسبة للقوى الإقليمية والدولية أو للقوى الداخلية الأخرى.

ومن خلال تتبع معالجة الكتاب لهذه العلاقة بين الدين والسياسة نلاحظ أنها حدثت عبر زاويتين: الأولى في سياق التحديات التي تواجه الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ إذ إن مراجعة العلاقة بين الدين والسياسة -بحسب الكتاب- لا بد وأن تشكِّل مدخلًا رئيسيًّا لإنقاذ الدولة وإنعاشها وتجاوز عقبات تطورها وتقدمها، غير أن مُؤَلِّفَي الكتاب لا يعالجان هذه القضية إلا ضمن مجال ضيق وهامش محدود جدًّا، ولم يجدا من مظاهر مُفَسِّرة لأزمة العلاقة بين الحكم والإيمان سوى أزمة الشرعية السياسية التي تواجه نظام ولاية الفقيه في إيران، وبروز تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة وغيرهما من الجماعات المسلحة، والتعاطف والقبول الشعبييْن “غير المعلنين” في العالم العربي والإسلامي مع “الهجمات الانتحارية” ومع “الانتصارات” التي حققها تنظيم الدولة في العراق وسوريا(8).

وأول ما يلفت الانتباه، في إطار الزاوية الثانية عند تناول قضية الإسلام السياسي في دول المنطقة، هي المؤشرات والمتغيرات التي يعتمدها الكتاب لتحليل الظاهرة، وهي خمسة متغيرات مرتبطة أساسًا بالإسلام السياسي جرى إدماجها مع 17 بارامترًا مرتبطًا بالإسلامية، وتتوخى كلها استقصاء الرأي العام العربي حول قضايا الحجاب والصلاة، والفوائد البنكية، والعقوبات في الإسلام، والعلاقة مع غير المسلمين، والعلاقات الاقتصادية مع تركيا وإيران وقطر، والعلاقة مع الغرب والتسامح الديني، وغيرها. إن فحص هذه المؤشرات التي وظَّفها الكتاب لفهم ظاهرة الإسلام السياسي، لا يبدو أنها ما زالت تشكِّل انشغالًا رئيسيًّا واهتمامًا فكريًّا في الوقت الراهن للحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، بل إن بعضها -مثل قضية الحجاب والفوائد البنكية والعلاقات الاجتماعية مع غير المسلمين في بلاد الإسلام…- تنتمي إلى دائرة سجالية واختزالية لم يكن هدفها يومًا ما فهم الظاهرة وتحليلها، ولكنها عمدت إلى التشويش على التجربة ونقضها ورفضها. وهذا المستوى من الرصد للظاهرة ينحاز إلى أطروحات “فشل الإسلام السياسي”، و”ما بعد الإسلام السياسي”، و”أسلمة الراديكالية”، أكثر من كونه اقترابًا منهجيًّا وتجريبيًّا لتفكيك الظاهرة كما توحي بذلك المقاربة الإحصائية والمسحية التي لجأ إليه الكاتبان.

ونلاحظ أن الكتاب تجاهل المجهودات الفكرية المهمة التي بذلتها الحركات الإسلامية في تكييف التفسيرات التقليدية للشريعة الإسلامية مع السياسة والتشريع والاقتصاد، كما أكد العديد من المجتهدين الإسلاميين توافق الفقه الإسلامي مع مبادئ الديمقراطية حسبما يفهمها الغرب، وطرحت جماعات إسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، مبادرات اقتصادية مستلهمة من تجارب البرازيل وإندونيسيا وجنوب إفريقيا(9). وشملت هذه المجهودات الفصل بين الدعوي والسياسي والتأصيل للمشاركة السياسية، وحسمت أغلب حركات الإسلام السياسي العلاقة مع الديمقراطية والانتخابات والتعددية والتحالفات، والعلاقة مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية، بل إن بعضها (حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة النهضة في تونس) مارس معارضة قوية ضد السلطوية ونظام الحزب الواحد، وبعضها الآخر (حزب العدالة والتنمية المغربي) أضحى رقمًا مهمًّا في معادلة التوازن السياسي الداخلي بعد العام 2011.

إن الخلاصات التي قدَّمها الكتاب حول الإسلام السياسي ليست جديدة على الباحثين والمهتمين، وبذور هذه الرؤية الاختزالية للإسلام السياسي وربطها تحديدًا بأيديولوجيات العنف موجودة في كتابات ومؤلَّفات سابقة للمُؤَلِّفَيْن، وتلتقي كلها عند الجمع وعدم التمييز بين الحركات والأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، التي انخرطت مبكرًا في العملية الديمقراطية بناء على مراجعات عميقة للعلاقة بين فكرها السياسي ونشاطها الدعوي، وبين الجماعات المسلحة(10). كما تتجاهل أدبيات مُؤَلِّفَي الكتاب الاجتهادات التي مهَّدت للمشاركة السياسية والمساهمة في الحكم، والانتقال إلى مرحلة من التأصيل المتحرر من الأطروحات التقليدية (إسلامية الدولة، تطبيق الشريعة، نظام العقوبات، دولة المدينة…)(11) إلى مرحلة من التدبير والتسيير المرتكز على مفاهيم تنتمي للقاموس السياسي المعاصر (التعددية، الحريات، حقوق الإنسان، التنمية، العدالة الاجتماعية…) والمتوسل بآليات التنظيم الحديثة (الحكامة، الفعالية، الكفاءة…).
4. التدخل الأجنبي والعوامل الخارجية

إذا كان الكتاب أسهب في توصيف وتشخيص مظاهر أزمة الديمقراطية في الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإنه لم يتجاوز في ذلك العوامل الذاتية والمعوقات الداخلية، ولم يتطرق إلا بشكل مختصر ومحدود جدًّا عندما أشار للتقسيم الذي تعرضت له دول المنطقة بموجب اتفاقية سايكس-بيكو(12).

إن استعراض واستقراء تاريخ المنطقة يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنها ظلَّت باستمرار تحت مجهر القوى الخارجية ومختلف الفاعلين الدوليين، وخضعت بشكل مستمر لتحولات السياسة الدولية والتنافس الاستراتيجي العالمي. وتعددت وتنوعت أشكال وصيغ هذا التدخل ما بين الغزو والاحتلال المباشر والاستعمار والاستيطان، والتدخل في الشؤون الاقتصادية والسياسية كما حدث في المستعمرات الفرنسية والإيطالية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا. وتحوَّل هذا الشكل من التدخل خلال حقبة ما بعد الاستعمار إلى تشكيل منظومات وشبكات سياسية واقتصادية ونخب ثقافية وأنظمة سياسية وعسكرية موالية للغرب ومنحازة لمصالحه ومناصرة لمواقفه.

وتمت عملية الاحتواء الشامل هذه بمنهج موغل في البراغماتية والازدواجية، ففي الوقت الذي دعَّم فيه الغرب والولايات المتحدة الأميركية الديمقراطية والتعددية في جنوب أوروبا وشرقها كأحد سبل مواجهة الشيوعية خلال الحرب الباردة، دافع الغرب نفسه عن الديكتاتوريات ونظام الحزب الواحد والأنظمة العسكرية، ودعَّم الانقلابات في الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتفاقمت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتحول ميزان القوة لصالح الغرب حدة التدخل الخارجي والأجنبي في المنطقة (حروب الخليج، غزو العراق 2003…)، ولم يقتصر الأمر على التدخل العسكري المباشر، بل تعداه إلى تدخل سياسي رَامَ توجيه الحياة السياسية والانتقالات الديمقراطية، وتوزيع صكوك النزاهة والشرعية على عمليات التداول السياسي والانتخابي.

لقد أبان الربيع العربي، وما أعقبه من أحداث وتداعيات وارتدادات، أن التدخل والتوجيه والتحكُّم نهج راسخ وخيار استراتيجي لدى الغرب والولايات المتحدة الأميركية؛ ذلك أن إجهاض ثورة يناير/كانون الثاني 2011 في مصر ما كان ليحدث لولا تداخل العوامل الداخلية والخارجية، وتأثير القوى الإقليمية والدولية في اختيارات النخب والقوى السياسية. وفي ليبيا، لم يكن إسقاط النظام ممكنًا دون التدخل الخارجي، وأضحت البلاد ساحة لنفوذ قوى إقليمية ودولية، أما في سوريا فقد تحوَّلت الثورة إلى حرب طاحنة بحكم تدخل أطراف متعددة إقليمية ودولية(13).

إن موضوع الديمقراطية، الذي يمثِّل القضية المركزية لهذا الكتاب، لم يكن يومًا ما منفصلًا عن أدوار وتدخلات وتأثيرات القوى الدولية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وإذا كان الكتاب قد زاوج بين موضوعية معتبرة في تشخيص مداخل الضعف والهشاشة ذات البعد التنموي والاقتصادي، وبين تركيز متحامل على الدين والهوية، فإنه تجاهل إلى حدٍّ كبير الاستهداف الخارجي والإفشال المتعمد لكل الخيارات الذاتية والرهانات المحلية.
خاتمة

شكَّل تفشي جائحة كوفيد-19 عاملًا إضافيًّا محفزًا للتركيز على الدول العربية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتفكير في قضاياها وإشكالاتها متعددة الأبعاد والمستويات. وقد نجح هذا الكتاب في تقريب القارئ من السياق العام ومن الظروف التي سبقت ظهور الجائحة، خاصة أنه جعل من المسألة الديمقراطية المرجع الرئيسي للتحليل وتفكيك أزمات المنطقة ورصد اختلالاتها البنيوية. كما قدَّم في سبيل تحقيق ذلك مؤشرات واضحة وتقييمات بارامترية مهمة. ونعتقد أن هذا التوجه الإحصائي والتجريبي والرياضي مثَّل فرصة نادرة من أجل تقديم قراءات وتشخيصات موضوعية ودقيقة عن واقع المنطقة، وعن مداخل الإصلاح.

بالمقابل، لم يستطع البحث التخلص من التمثُّلات النمطية التي ظلت لصيقة بالدول العربية في المنطقة، وهذا الربط بين المجال الجغرافي وبين تصورات جاهزة حول الثقافة والسياسة والتاريخ والدين والتمايز الإثني والخصوصية الدينية والبناء الاجتماعي ليس وليد اليوم، ولكنه جزء من ثقافة استشراقية قديمة نقلتها التحولات المعاصرة والتفوق التكنولوجي والتقني إلى مركزية أوروبية/أميركية استعلائية محكومة وموجهة بهيمنة وسيطرة وسطوة سياسية واقتصادية واستراتيجية. وقد اضطلعت مراكز الأبحاث والدراسات وبنيات التفكير والتحليل الرسمية منها وغير الرسمية بأدوار محورية في تكريس مستويات متقدمة من التنميط. ونعتبر أن أداة رئيسية جرى توظيفها في هذا الإطار، ولم يجر التفصيل فيها ضمن فصول الكتاب، ويتعلق الأمر بالتدخل الخارجي والأجنبي في كل شؤون المنطقة ودولها داخليًّا وخارجيًّا. إن خاصية فشل الدولة، والاختلالات الهيكلية والبنيوية والمؤسساتية، والتعثر الاقتصادي، والفشل التنموي، هي إحدى نتائج سياسات الإملاء التي تبنَّاها الغرب تجاه دول المنطقة، وتجلٍّ لنهج الجبر السياسي والاقتصادي، ودعم الأنظمة الاستبدادية، وكبح التطلعات والخيارات الذاتية.
عرض :
إدريس قسيم ( الجزيرة)
مراجع

(1) تشمل هذه المؤشرات: الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والدَّيْن الخارجي، والاحتياطي الأجنبي، ومدفوعات الإيرادات، وتجارة السلع الثقافية، وتجارة الخدمات الشخصية، والعلامات التجارية الدولية، ومطاعم ماكدونالدز، ومتاجر إيكيا، والمساواة بين الجنسين، والرأسمال البشري، والحريات المدنية، والخدمات والسلع، وتنوع الشركاء التجاريين، والتحويلات، والسياحة الدولية، والهجرة، وحركة الاتصالات الصوتية، واشتراكات الهاتف، وحرية التنقل، والمطارات الدولية، والعولمة المعلوماتية، وحرية الصحافة، وحرية التليفزيون، والإنترنت.

(2) يشمل هذا المؤشر 5 متغيرات: الدولة أفضل حالًا بوجود القادة الدينيين، ويجب على القادة الدينيين التأثير في قرارات الحكومة، والقادة الدينيون أقل فسادًا من القادة غير الدينيين، وضرورة تدخل القادة الدينيين في الانتخابات، والممارسة الدينية ليست مسألة شخصية.

(3) يشمل هذا المؤشر 5 متغيرات: رفض الاقتصاد الإسلامي، وقبول الغرب، ومواجهة النظام الأبوي، وقبول الديمقراطية الليبرالية ودولة القانون، والتسامح الديني.

(4) Hussein Solomon and Arno Tausch, Arab MENA Countries: Vulnerabilities and Constraints Against Democracy on the Eve of the Global COVID-19 Crisis (Singapore: Springer, 2021), 2.

(5) Ibid, 184.

(6) Ibid, 226.

(7) محمد عابد الجابري، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992)، ص 47-49.

(8) Solomon and Tausch, Arab MENA Countries, 23.

(9) طارق عثمان، “مأساة الإسلام السياسي: قرن من التجارب مع الحداثة”، thecairoreview.com، 2015، (تاريخ الدخول: 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2021): https://bit.ly/3oGZ5G0.

(10) Arno Tausch, Hussein Solomon, Islamism, Crisis and Democratization: Implications of the World Values Survey for the Muslim World (New York: Springer, 2019), 11-12.

(11) Leonid Grinin et al., Islamism, Arab Spring, and the Future of Democracy: World System and World Values Perspectives (New York: Springer, 2019), 71-257.

Hussein Solomon, Terrorism and Counter-Terrorism in Africa: Fighting Insurgency from Al Shabaab, Ansar Dine and Boko Haram (New York: Palgrave Macmillan, 2015), 22.

(12) Solomon and Tausch, Arab MENA Countries, 12-13.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر + أربعة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube