https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png
الكاتب بوريس جونسون:

بعض القراء ربما سيطرحون سؤالا عن دوافع عمدة لندن بوريس جونسون لاختيار الكتابة عن الزعيم البريطاني التاريخي ونستون تشرتشل في وقت ينشغل فيه بقيادة الشؤون البلدية لمدينة لندن ويساهم في اختيار خليفة له من حزب المحافظين في منصب العمدة وأمور أخرى بينها زعامة الحزب.
فقد أصبح كتاب «عامل تشرتشل: كيف استطاع رجل واحد صناعة التاريخ؟» الصادر عن دار «هودر وستافستون البريطانية» لبوريس جونسون، أحد أكثر الكتب مبيعاً في بريطانيا ليس فقط بسبب شعبية كاتبه وشخصيته المحببة، بل لقدرته الخلاقة على الكتابة كونه عمل سابقاً كرئيس تحرير مجلة «سبيكتيتور» وكتب في مجالات عدة.
جواب جونسون نفسه ورد في مقابلة تضمنها الكتاب في أحد ملاحقه حيث قال: «شعرت دائما بوسواس إيجابي نحو تشرتشل. وعندما طلبت مني عائلته تحقيق هذا الكتاب في مناسبة مرور خمسين عاما على وفاته قبلت دون تردد».
ما قد يهم القارئ العربي في هذا الكتاب هو الفصل الـ21 وعنوانه: «تشرتشل صانع الشرق الأوسط المعاصر» ليس فقط لأن الكاتب يورد فيه مواقف وأفكار ومبادرات تشرتشل إزاء القضية الفلسطينية وتقسيم فلسطين وإنشاء دولة العراق واتفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور في أوائل القرن الماضي، بل أيضا لأنه يتضمن مواقف بوريس جونسون نفسه إزاء قضايا الشرق الأوسط، علما أن بوريس قد يصبح يوماً ما زعيما لحزب المحافظين البريطاني ورئيساً للحكومة البريطانية إذ أنه يتصدر شخصيات الحزب في استطلاعات الرأي وساهم مساهمة كبيرة في فوز حزبه في الانتخابات الأخيرة.
الأمر الثاني المثير للنقاش هو أن شخصيتي تشرتشل وجونسون تتشابهان في عدد من الأمور أولهما ثقافتهما الواسعة ونزعاتهما الفكرية المتحررة إلى حد ما، وثانيهما استعدادهما لاتخاذ خيارات فردية ومواقف متقلبة قد تتجاوز مواقف الحزب الذي ينتميان إليه عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. فكما أنتقل تشرتشل من حزب المحافظين إلى حزب الليبراليين، ثم عاد إليه، فان جونسون لا يمتثل لمواقف حزب المحافظين في قضايا عديدة داخلية وخارجية بينها قضية الشرق الأوسط إذا شعر أن حزبه يبالغ في المواربة أو العنصرية ضد شعوب العالم الثالث والإسلام السياسي، ولعل هذا الأمر دفع في الماضي وقد يدفع في المستقبل شريحة من مسلمي بريطانيا للتصويت له، وربما لقيادته حزب المحافظين في مراحل مقبلة.
يقول جونسون في الفصل 21 من الصحيح القول أن تشرتشل لعب دوراً أساسياً في نشوء دولة إسرائيل والعراق وتقسيم الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى عندما كان يحتل منصب وزير المستعمرات وعندما كانت الامبراطورية البريطانية تشرف على مصير 58 دولة (مستعمرة) تضم 458 مليون شخصاً، ولكنه أعتمد في خياراته على آراء مستعربين من أمثال لورانس العرب (الكولونيل تي.اي.لورنس) وغير ترود بيل وأدرك أهمية التناقضات الدينية والطائفية خصوصا بين الشيعة والسنّة منذ تلك الفترة. حاول التوصل إلى مساومات إزاء الوعود التي قدمتها الامبراطورية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى خصوصا للقادة العرب وللشريف حسين باقامة الدولة العربية من فلسطين للعراق، مكافأة لهم على دعمهم بريطانيا ضد المانيا وتركيا في الحرب العالمية الأولى. كما أدرك أطماع فرنسا في نشوء منطقة نفوذ من سوريا إلى شمالي العراق وحتى بغداد، التي تحاول تنفيذها على الأرض حاليا الدولة الإسلامية. وفهم تشرتشل وعد بلفور لليهود بأنه وعد باقامة دولة لليهود والعرب ولكن في الوقت نفسه هو كيان مفتوح للجوء يهود العالم. وهنا يشدد جونسون في الكتاب على أن وعد بلفور لا يعني لتشرتشل، وله شخصيا، دولة يهودية مقتصرة على اليهود وتهجير العرب.
كما تذكر مصادر أخرى أن تشرتشل كان يميل لإعطاء دولة للأكراد آنذاك ولكنه أختلف في هذا الموقف مع مستشاريه غير ترود بيل وبيرسي كوكس اللذين رجحت كفتهما.
حسب بوريس جونسون، فان تشرتشل والحكومة البريطانية وافقا على إعطاء اليهود جزءاً من فلسطين ولكن من دون السماح لهم بالاستيلاء على حقوق الشعب الفلسطيني. فالجميع، حتى روسيا كان يرغب في إعطاء اليهود ملجأ، ولكن ليس على حساب سكان فلسطين. وهنا يذكر جونسون نقطة هامة قد يكون البعض يسمعها للمرة الأولى وهي ان بلفور عندما قدّمَ وعده لليهود كان يعبر عن خشية بريطانيا من تعاطف اليهود مع النظام الألماني ضد النظام الروسي المعادي للسامية آنذاك، وان بلفور رغب في استقطاب اليهود إلى المحور المناوئ لالمانيا خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، خلال الحرب العالمية الأولى، وفي الوقت نفسه سعت بريطانيا إلى عدم تهميش وإغضاب العرب المسلمين المؤيدين للامبراطورية البريطانية والمحاربين إلى جانبها في الهند. ولكن مشروع بلفور أخفق، حسب جونسون، لأن المسلمين في فلسطين وخارجها عارضوه بشدة. وكان على تشرتشل في اجتماع القاهرة عام 1921 (في فندق سميراميس) التوصل إلى حل لهذه العقدة بمساعدة لورانس العرب وغير ترود بيل. وهناك تم التوصل إلى قرار بوضع فيصل بن الحسين ملكاً على العراق بعد أن أخرجه الفرنسيون من سوريا، وعبد الله بن الحسين ملكاً على الأردن، حيث تحكم سلالته حتى الساعة.
قد يفاجأ القارئ بسعة معرفة بوريس جونسون بالعوامل المؤثرة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط وبدور تشرتشل وغيره فيها. ولكن عند مراجعة هذا الواقع، ندرك أن جونسون الذي نراه يوزع النكات والتصريحات الطريفة، كان قائداً لمجلس الطلاب في جامعة أوكسفورد وكان تلميذاً لامعاً، وتفوق على رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون في مناسبات عديدة تنافسا فيها على مناصب قيادية.
وهو يوجه نقداً لتشرتشل في الكتاب في أكثر من مناسبة، ويصفه بالمحب للظهور وصاحب بعض العقد النفسية والراغب بالبروز كالمحارب البطل الذي لا يساوم على مصالح بريطانيا ويودّ الصمود في وجه النازية فيما كان منافسوه في حزب المحافظين يرغبون بعقد اتفاقية مع هتلر. وهنا أيضا تظهر نزعة فردية متحررة في مواقف بوريس، فمع أنه كان يقدّر شجاعة واقدام وصمود تشرتشل فانه لم يتقاعس عن نقده وذكر العوامل الشخصية في قراراته، وتأثير عقده النفسية ومحاولاته تجاوز هيمنة والده عليه في صغره وإنجرافه في احتساء الكحول وتبعيته للمواقف الأمريكية.
وهنا أيضا يظهر التشابه في شخصيتي تشرتشل وجونسون. فلا شيء وقف في وجه تشرتشل عندما أراد تنفيذ سياساته وقراراته وكذلك لا شيء يقف حالياً في وجه بوريس الذي يستطيع قلب الموازين والمواقف إذا شعر بالضرورة لفعل ذلك. وهذا ما يفرقه عن قادة بريطانيا الحاليين في الأحزاب المختلفة، بما في ذلك حزبه، وقدرته على هزيمتهم في أي مواجهة. فالبريطانيون عموما يتفاعلون مع هذا التوجه.
في الأمور الاقتصادية، يتهمه كثيرون بأنه من كبار مشجعي الرأسمالية، على حساب الفقراء، كما اتُهم تشرتشل بذلك. ولكن كتابه يورد أن تشرتشل دافع أكثر من مرة عن حقوق نقابات العمال في بريطانيا، وفي كثير من المناسبات كان تشرتشل يلقي الخطابات المؤيدة لهم في مجلس العموم والتي دفعت إلى صمت وسخط نواب حزبه وخشيتهم منه.
تشرتشل، حسب جونسون، لم ينجح في إقناع العرب بأجندته في فلسطين. وقد لاَمَ الفلسطينيين على عدم انضمامهم إلى باقي العرب في معارضة السلطة التركية والثورة ضدها. والفلسطينيون، منذ بداية القرن الماضي، رفضوا المساومة على وعد بلفور، وجونسون، خلافا لتشرتشل، تفهم موقفهم قائلا أن وعد بلفور طُرح عندما كانت حالة الحرب قائمة. ويقول جونسون في كتابه بصراحة أن تشرتشل ربما كان ساذجاً في بعض طروحاته للقضية العربية الاسرائيلية أو ربما لم يكن صادقاً، وفي بعض الأحيان كان متقلباً في مواقفه، مما أدى إلى اتهامه بانه كان جزءاً من المؤامرة الصهيونية. والبعض يتهمه بالميل للصهيونية، لأن امه يهودية (بينما هي أمريكية وليست يهودية) وآخرون يرون ان مصرفيين دعموه في مواقفه بسبب إنحيازهم لإسرائيل.
أما بوريس جونسون فلا يعتقد أن هذه الأمور أثرت وحدها على تعاطف تشرتشل مع اليهود وقراراته بل أن القائد البريطاني التاريخي كان يحترم اليهود لجهودهم ومناقبيتهم في العمل واعتمادهم على أنفسهم واحترامهم للقيم العائلية. وقد فضّل توظيف يهود والتواصل الاجتماعي معهم، وآمن بضرورة إقامة وطن لهم، ولكنه لم يكن صهيونياً أو معادياً للعرب والإسلام، بل على العكس فقد اتهمه البعض في مناسبات بأنه مستشرق ومستعرب.
ويذكر جونسون في هذا المجال أن ونستون تشرتشل جمع مئة ألف جنيه استرليني، في عام 1940، لإنشاء جامع ريجنت بارك في لندن، الذي يُعتبر الجامع الأساسي لمسلمي بريطانيا حتى الساعة.
ويقول أن تشرتشل تمنى أن يعيش اليهود والعرب والمسلمون في ؤئام إلى جانب بعضهم البعض في فلسطين. ويحاول جونسون أن يشير إلى الايجابيات التي تحققت بسبب سياسات تشرتشل في الشرق الأوسط وبينها الاستقرار في الأردن، وبقاء العراق تحت المظلة البريطانية لأربعين عاماً، بعد مؤتمر القاهرة (عام 1921)، واستمرار تدفق النفط العراقي إلى بريطانيا ومساهمة هذا الأمر في قوة بريطانيا وأنتصارها في الحرب العالمية الثانية.
أما بالنسبة إلى اسرائيل، يقول جونسون، البعض يعتبر «وعد بلفور» أكبر خطأ في السياسة الخارجية البريطانية وأن تشرتشل ساهم في تطبيقه، والبعض الآخر يعتبره بطلاً لأنه حقق دولتي إسرائيل والعراق. ومن الصعب لوم تشرتشل، حسب جونسون، على «الطريقة المعيبة التي تعاملت بها اسرائيل مع الفلسطينيين، وعلى التفكك الحاصل في العراق حاليا، فهذا لم يكن هدفه».
وكما قال جونسون في كتابه سابقا، على القارئ أن يقرر صواب هذا الأمر أو عدمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

10 + 7 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube