https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

تركيا هي جزء من حلف شمال الأطلسي الذي انضمت إليه منذ عام 1952هذه حقيقة لاجدال فيها، لكن هناك حقيقة أخرى لا تقل وضوحاً، وهي أن العلاقةمع ذلك الحلف قد دخلت إلى منعطفات ومزالق كثيرة خلال الأعوام الأخيرة، حتىوصل الأمر حد التشكيك في ما إذا كانت القاعدة التي تقول: «الاعتداء على أيدولة داخل الحلف يعتبر اعتداء على جميع دوله»، تنطبق على تركيا. من الناحية الاستراتيجية التاريخية كان الانضمام للحلف يحقق مصلحة مهمةلجميع الأطراف، لأوروبا التي سوف تستفيد من موقع تركيا كجدار صد ضدالطموحات الشيوعية، وللأتراك أيضاً الذين وفرت لهم هذه العضوية مظلة حمايةرادعة وجعلتهم يصبحون جزءاً من المنظومة الغربية، التي تتناصر وقت الشدة. نظرياً، فإنه لا شيء جذري تغير في ما يتعلق بالعلاقة التركية مع حلف «ناتو»، فما تزال أنقرة جزءاً منه، وما تزال تشارك في اجتماعاته ونشاطاته. هذا ما يبدو على السطح، لكن في الواقع فإن الوضع يبدو أشبه بحالة مزدوجةلحليف وخصم في آن. هنا لا ينفصل السياسي عن الدفاعي بطبيعة الحال، ولايمكننا أن نتصور إن الدول التي تعترض على سياسة حزب العدالة والتنميةالحاكم، والتي تنتقد في كل مناسبة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإمكانهاأن تفصل ذلك عن شؤون التعاون الدفاعي المشترك. كان كل شيء ينذر بتضارب الأجندات، ابتداء من ردود الأفعال حول الاعتداءالاسرائيلي على السفينة «مرمرة»، مروراً بالتضامن تجاه ما تتعرض له تركيامن إرهاب، أو الأزمة السورية ومضاعفاتها، ومحاولة تفهم الهواجس الأمنيةالتركية تجاهها، أو بدعوة أنقرة لوقف تسليح المجموعات الكردية التي تبررلنفسها استخدام العنف والإرهاب بحجة الكفاح الوطني، والتي تجعل من استهدافتركيا أولوية. الحقيقة هي أن تركيا تركت وحيدة أمام كل تلك التحديات، بلتركت وحيدة وبتضامن قليل، مع الاختبار الأهم الذي عاشته خلال الأعوامالأخيرة وهو اختبار الانقلاب العسكري الفاشل، الذي ما يزال الكثير منالأتراك يؤمنون بأنه كان مدبراً من قبل حلفاء مفترضين. وضع تركيا في داخل الحلف كان مثار نقاش، فعلى عكس التفهم الذي كانت تبديهالدول الأطراف لتحركات الدول الأخرى، كالولايات المتحدة أو فرنسا في سبيلالحفاظ على أمنها القومي، كانت التحركات التركية على الدوام محل تشككوانتقاد، يصل في بعض الأحيان لانتقاد القيادة التركية وما تقوم به منإجراءات، حتى على المستوى الداخلي، بل لم يخف بعض المسؤولين الغربيين خيبةأملهم من نجاح الانتخابات التي أتت بالرئيس أردوغان، ومن بعدها الاستفتاءالذي وسّع من صلاحياته بعد تحول نظام الحكم إلى رئاسي. كل هذا لم يكن ليدفع القيادة التركية للانسحاب من الحلف، وإن كان قد عزز منالرغبة في البحث عن خيارات أخرى، لتأمين النفس بعيداً عن المراهنة علىالمنظومة الأطلسية. في هذا الإطار كان السعي للوصول إلى تفاهمات استراتيجيةمع كل من روسيا وإيران، وهي التفاهمات التي أثارت أكثر حفيظة الدولالغربية التي كانت تتعامل مع موسكو وطهران كمنافسين. بالنسبة لتركيا كانذلك ضرورياً من أجل تأمين ظهرها، ومن ثم التنسيق حول التحركات الإقليميةبما يوفر عليها الدخول في عداءات جديدة. ساهم ذلك، إضافة إلى تحركات مشابهةمع العراق، في انحسار موجة العمليات الإرهابية التي عانت منها تركيا، كماساهم في تخفيف الضغط على روسيا وإيران في ما يتعلق بالأزمة السورية، بعدتقديمهما بواسطة تركيا، التي كانت تمثل وجهة نظر مناقضة، كجزء من الحلوالمستقبل. بالتوازي مع هذا الحراك، كانت هناك مساعٍ على مستوى آخر من أجل إنجاحالصفقة التي تحصل بموجبها تركيا على منظومة (إس 400) الصاروخية الروسيةالمتطورة. لم يكن إنجاز هذه الصفقة سهلاً، فقد اعتبر كثيرون أن ليس بإمكانروسيا أن تكشف نفسها أمام طرف هو في النهاية جزء من الحلف، الذي يستهدفها،بالمقابل اعتبر آخرون أن إنجاز هذه الصفقة التي أعلن الحلفاء رفضهم لها سوفيزيد من توتر العلاقة مع تركيا المعتمدة على منظومات التسليح الغربية. لكنكل ذلك بدا للأتراك بلا وزن، وهو ما جعلهم يصرون على إتمام هذه الصفقةالتي صمدت أمام التشكيك بشكل أكد وصول العلاقة بين أنقرة وموسكو إلى عتبةاستراتيجية غير مسبوقة. بالنسبة للعلاقة مع الولايات المتحدة، وهي الدولة الأهم داخل الحلف، فإنتركيا ليس لديها الكثير لتخسره، فرفض تسليم فتح الله غولن المقيم بالولاياتالمتحدة والمتهم بتدبير محاولة الانقلاب ومساهمة واشنطن الفاعلة في تسليحالمجموعات الكردية الانفصالية التي تخوض حرباً ضد الدولة التركية، كل ذلكلم يكن ليمر بدون تأثير على العلاقة بين الطرفين. هل يمكن اعتبار كل ذلك دليلاً على أن تركيا أدارت ظهرها للحلف الغربيمتوجهة نحو المشرق؟ هذه النتيجة التي تسرع البعض للوصول إليها غير واقعية،على الأقل في الوقت الحالي، فيظل من المستبعد أن تخرج تركيا من ذلك الحلف،أو أن تدخل في حالة عداء مفتوح مع الولايات المتحدة، وهو ما ينطبق أيضاًعلى الطرف الغربي، خاصة الولايات المتحدة، ولعل هيذر نويرت المتحدثة باسمالخارجية الأمريكية، كانت تعني ما تقول حين شبهت العلاقة بين بلادها وتركيابحياة زوجين تحدث بينهما مشادات، لكن في كل مرة يأسف كل منهما على ما بدرمنه! على الصعيد الأوروبي، وفي حين تتواصل جهود التفاوض الدبلوماسية سعياًلانضمام أنقرة للاتحاد، تتواصل أيضاً اتفاقات التعاون الدفاعي، حيث تمخضاجتماع وزراء دفاع كل من تركيا وفرنسا وإيطاليا، نهاية العام الماضي فيبروكسل عن نتيجة مهمة، هي إعلان هذه الأطراف عن توصلها إلى اتفاق دفاعيمشترك. هذا الاتفاق لا يقل أهمية عن الاتفاق الروسي، بل لعله يكون أكثرأهمية إذ يمثّل خطوة متقدمة نحو الهدف التركي الأهم، وهو الاستقلال الدفاعيالذي يعني في بعض معانيه إنتاج نظام دفاع صاروخي وطني مستقل. تسعى تركيا حالياً للاستفادة من جميع الأطراف وبشكل متوازٍ بما يخدمأهدافها الاستراتيجية، وهو ما جعلها توقع اتفاقية مع فرنسا للمساعدة فيإنتاج نظام متطور مستقل. ليس في ذلك تناقض مع مبادئ الحلف، حيث أن بإمكانهذا السلاح المنتج بمساعدة أوروبية أن يعمل ضمن منظومة الدفاع الأطلسيةالمشتركة، لكن الجديد هو أن بإمكانه أن يعمل كذلك بشكل مستقل، وهي النقلةالتي تحتاجها تركيا. بمعنى آخر يمكن القول إن الاتفاقية مع روسيا هي اتفاقية تكتيكية لمدىًمؤقت، في حين يبقى الهدف الاستراتيجي هو الوصول إلى الاستقلال الكامل عنالشرق والغرب معاً، وهو خيار صعب، مقارنة بالخيار الآخر المبني على شراءالتكنولوجيا والاعتماد على الأسلحة الجاهزة والمعلبة. ما يزال البعض يقللون من كل هذه الخطوات، معتبرين أن طريق تركيا ما يزالطويلاً نحو الاكتفاء الذاتي التام في مجالات الدفاع والتسليح. في الواقعفإن الطريق الطويل ليس مشكلة بشرط أن يكون صحيحاً، لكن المشكلة الحقيقيةتكمن في الطرق الخاطئة التي تكون في أغلب الأحيان قصيرة، لكنها لا توصل إلىأي مكان.

القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة + 9 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube