الكتاب : بي بي سي والمصالح البريطانية في إيران» الكاتب- أنابيل سربيرني «كل هذا من صنع الإنجليز!» قول مأثور قديم يبقى له وقع خاص في أذهان الإيرانيين، حتى عندما يُقال على سبيل الفكاهة. يعود تاريخ هذا القول إلى القرن التاسع عشر، وهو يشير إلى الاعتقاد بأن بريطانيا العظمى – التي يعرفها الإيرانيون بـ«أرض الإنجليز» – هي «اليد الخفية» التي تصنع السياسات الدولية. وهناك عبارة في رواية «عمي نابليون» – أشهر روايات الأدب الفارسي المعاصر – تقول: «حتى الشمس لا تشرق إلا بأمر أرض الإنجليز». ومنذ أن بدأ نجم الإمبراطورية البريطانية في الأفول مع تراجع قدراتها العسكرية على ممارسة أي ضغوط تُذكر، بات السؤال الذي يتردد دائما: كيف يمكن لـ«سيدة العالم» أن تمارس دورها في التأثير على الأحداث فيما وراء حدودها؟ والإجابة على ذلك السؤال يتمثل بالنسبة للكثير من الإيرانيين – لا سيما شاه إيران السابق – في ثلاثة أحرف هي «بي بي سي». وفي هذا السياق، لا تشير الثلاثة أحرف إلى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) كما يعرفها ويستمع إليها البريطانيون في بلادهم. فالقسم الذي يثير الكثير من الشكوك وسط الكثير من الإيرانيين هو الإذاعة العالمية باللغة الإنجليزية «بي بي سي وورلد سيرفيس» (BBC World Service)، وهو أحد الأقسام المميزة في هذا الكيان الإعلامي العام. وحتى وقت قريب، كانت الحكومة هي التي تمول «بي بي سي وورلد سيرفيس» التي كانت تخضع لرقابة مزدوجة من قبل وزارة الخارجية ووزارة الخزانة. وحيث إن وزارة الخزانة كانت تشرف أيضا على الأجهزة السرية، كان الافتراض الغالب –الذي لم يكن دقيقا على الدوام – أن الاستخبارات البريطانية لها يد في كيفية عمل شبكة «بي بي سي». في كتاب «بي بي سي والمصالح البريطانية في إيران»، وهو كتاب رائع ودقيق، نرى انابيل سربيرني ومعصومة طرفة وهما تحاولان أن تقليا الضوء على الدور الذي لعبته خدمة إذاعة «بي بي سي» باللغة الفارسية (أحد أقسام بي بي سي وورلد سيرفيس) في أهم الأحداث في تاريخ إيران المعاصر. وتقسم سربيرني وطرفة الكتاب الذي بين أيدينا إلى خمس مراحل تاريخية: تبدأ المرحلة الأولى بقرار إنشاء قسم «بي بي سي» باللغة الفارسية بعد بداية الحرب العالمية الثانية مباشرة. في ذلك الوقت، كان حاكم إيران الشاه محمد رضا بهلوي يحاول إبقاء بلاده بعيدا عن الحرب، متبنيا موقفا محايدا. غير أنه كان واضحا أن الشاه يتعاطف مع دول المحور، لا سيما ألمانيا. وعليه، وكما يوضح الكتاب، فقد كانت مهمة قسم «بي بي سي» باللغة الفارسية الأساسية هي تشويه سمعة الشاه، وتشجيع المعارضة للاحتجاج ضد حكمه الاستبدادي، وفي الوقت ذاته، تجهيز الإيرانيين لغزو بلادهم من قبل البريطانيين وحلفائهم السوفيات. ثم يجري الانتقال إلى المرحلة التاريخية الثانية خلال الحديث عن قصة قسم «بي بي سي» باللغة الفارسية، وفي هذه المرحلة يتناول الكتاب أزمة تأميم النفط، حيث تقول سربيرني وطرفة أن الحكومة البريطانية استخدمت «بي بي سي» باللغة الفارسية كأداة للدعاية ضد دكتور محمد مصدق، الذي عينه الشاه في منصب رئيس الوزراء لتنفيذ خطة تأميم النفط الإيراني. وأعطت وزارة الخارجية تعليمات لـ«بي بي سي» بتصوير مصدق على أنه سياسي غوغائي ومتعصب يقود إيران نحو كارثة محققة. وتتناول المرحلة التاريخية الثالثة في الكتاب الفترة ما بين عامي 1954 و1978 عندما أصبح قسم «بي بي سي» باللغة الفارسية طي النسيان. في تلك الفترة وبفضل العلاقات القوية بين لندن وطهران، لم يكن مطلوبا من قسم «بي بي سي» الفارسي ممارسة أي نوع من الضغوط على القادة الإيرانيين. وتغطي المرحلة التاريخية الرابعة الفترة بين سبتمبر (أيلول) 1978 واستيلاء آية الله الخميني في فبراير (شباط) 1979. في بداية أيام الثورة الإيرانية، حاول قسم «بي بي سي» الفارسي أن يلتزم الحذر من خلال تبنيه لتقليد «بي بي سي» العريق الذي يعطي فرصة للجميع لإبداء رأيه، باسم الموضوعية الصحافية. (يصف المخرج السينمائي الفرنسي الشهير، جان – لوك غودار، هذا النوع من الممارسة الصحافية بصيغة يجري خلالها إعطاء خمس دقائق لكل من هتلر واليهود للحديث عن الهولوكوست) لكن القسم الفارسي تحول سريعا لتبني موقف متعاطف مع الحركات المناهضة لحكم الشاه. تقول المؤلفتان: «لم يحظ قسم (بي بي سي) الفارسي مطلقا بمثل الشهرة التي حظي بها خلال العام الذي سبق الثورة. إلا أنه لم يكن بمثل هذا التحيز أبدا خلال بثه للأخبار والتقارير كما كان خلال تلك السنوات، حتى أن البعض كان يرى أن القسم قد تجاوز الخطوط الحمراء». وتعرض المؤلفتان تقرير – كتبه وقرأه باقر معين – يبدو متحيزا بشكل واضح للخميني، كمثال عن «تجاوز الخطوط الحمراء». وقد أخبر معين مؤلفتي الكتاب أنه كان متعاطفا مع «الثورة». غير أنه ليس من العدل التلميح إلى أن معين كان يعمل ضد سياسات «بي بي سي» أو الحكومة البريطانية، ولهذا ثبت فيما بعد أن هذا التقرير لم يكن هو السبب وراء ترقية معين حتى صار رئيسا لقسم «بي بي سي» الفارسي. في ذلك الوقت، حاول وزير الخارجية السابق جورج براون أن يتلاعب بالقضية حينما زعم أن أقسام «بي بي سي» باللغات الأجنبية، بما فيها القسم الفارسي، تعكس رأي العاملين بها، وليس رأي الحكومة البريطانية. وكتب براون ساعتها أن تلك الأقسام «يعمل بها اللاجئون والمهاجرون، الذين تركوا بلادهم والذين يعادون النظام الحاكم ولهذا السبب هم لاجئون في المقام الأول».غير أنه لم يكن أي من العاملين في قسم «بي بي سي» الفارسي في ذلك الوقت من اللاجئين أو المهاجرين. وقد صرح أحد العاملين في القسم الفارسي آنذاك، لطف علي خونجي، أنه و80 في المائة من العاملين بقسم «بي بي سي» فارسي كانوا متعاطفين مع الثورة. كما أخبر أندرو وايتلي، كبير مراسلي «بي بي سي» في طهران في ذلك الوقت، أنه كان متعاطفا مع الثوار لأن «الحق كان في جانبهم». ويدعي وايتلي أن تقارير «بي بي سي» ساهمت في التعجيل بانتصار الثورة، أو بمعنى آخر، بانتصار الجانب الذي كان يدعمه. وتنقل مؤلفتا الكتاب عن كريس راندل، رئيس قسم الأبحاث في «بي بي سي» اعترافه بأنه جرى توفير مزيد من الوقت لأنشطة المعارضة الإيرانية خلال الثورة، كما تشير المؤلفتان إلى أن محاولة أنصار الشاه عرض وجهة نظرهم عن الأحداث باءت بالفشل، كما لم يتم إجراء أي مقابلة مع أنصار الشاه، سواء داخل أو خارج إيران. حتى عندما زار وزير مالية الشاه لندن، أجرى تلفيزيون ITV الخاص، وليس «بي بي سي» مقابلة معه. وقد حاول سيد حسين نصر، أستاذ جامعي شيعي كان يرأس مكتب الإمبراطورة فرح شاه في ذلك الوقت، أن يقنع «بي بي سي» بإعطاء أنصار الشاه الفرصة ليوصلوا صوتهم للعالم، لكن تلك المحاولة باءت بالفشل أيضا. وبعد أن يثبت الكتاب وجهة النظر بأن «بي بي سي» كانت متحيزة للمعسكر المناوئ للشاه، تصر المؤلفتان على أن ذلك «لا يبدو أنه كان محاولة من جانب الحكومة البريطانية كانت لديها النية لزعزعة حكم شاه إيران». وتشيران إلى أن قسم «بي بي سي» الفارسي أخذ جانب المعارضة لدوافع نبيلة بحتة. يقول ديفيد بيرمان، من «وورلد سيرفيس» الذي يُعتبر قسم «بي بي سي» الفارسي جزءا منها أن «غالبية العاملين لم يكونوا على علم بمن هو آية الله، ولم يتصور أحد منا أنه (الخميني) سيصبح زعيما لإيران في يوم الأيام من الأيام. لقد أردنا أن تصبح إيران دولة ديمقراطية». تغيرت سياسة بريطانيا تجاه الشاه عندما أصبح واضحا أنه لم يعد قادرا على الاحتفاظ بالسلطة. وكان نيكولاس بارينغتون، رجل وزارة الخارجية الذي كان مسؤولا عن الإشراف على أقسام «بي بي سي» التي تبث بلغات أجنبية في ذلك الوقت، نصح بعدم اتباع سياسة «المواءمة قصيرة الأمد» مثل إرضاء الشاه. وكان المنطق وراء إنشاء أقسام «بي بي سي» الناطقة باللغات الأجنبية هو كما يقول بارينغتون «العمل على المدى المتوسط والبعيد من أجل التأثير في أولئك الذين من الممكن أن يشكلوا في يوم من الأيام حكومة بديلة للسلطة القائمة». ثم تتناول المرحلة التاريخية الخامسة إيران تحتكم حكم الملالي. بعد عام 1979، ضعف تأثير «بي بي سي» في الخلفية السياسية مرة أخرى. وبعد الثورة، تبنى قسم «بي بي سي» الفارسي الحياد التام تجاه نظام الخميني، وفي المقابل جرى السماح له بالاحتفاظ بمكتب دائم في طهران. وقد ظلت العلاقة مع النظام الجديد يسودها الود على مدى ثماني سنوات، هي فترة رئاسة هاشمي رفسنجاني، الذي استطاع فصيله السياسي البقاء في السلطة عندما خلفه في كرسي الرئاسة محمد خاتمي. كان قسم «بي بي سي» الفارسي متحمسا للرئيس خاتمي، لا سيما عندما أطلق الرجل وعودا كثيرة بضرورة عمل إصلاحات وتوفير مزيد من الحريات. وعليه، لم يكن غريبا أنه خلال فترة رئاسة خاتمي، تبنى قسم «بي بي سي» الفارسي سياسة وزارة الخارجية البريطانية التي كانت تقوم على دعم الرئيس «الإصلاحي». في ذلك الوقت زار وزير الخارجية جاك سترو طهران خمس مرات، أكثر من أي عاصمة أخرى في العالم، وأشاد علنا بالرئيس خاتمي كصديق للديمقراطيات الغربية. ومع وصول الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى كرسي الرئاسة، تغيرت الأمور مرة أخرى. فبعد إلحاقه الهزيمة بفصيل رفسنجاني، بدأ نجاد في تفكيك شبكة الاتصالات التي بناها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو. وبطبيعة الحال، وحتى يعكس كراهية الحكومة البريطانية لأحمدي نجاد، تبنى قسم «بي بي سي» الفارسي لهجة حادة تجاه الجمهورية الإسلامية. وردت لندن على تأييد مناصري «الثورة الخضراء» بأن قامت بإنشاء تلفزيون «بي بي سي» الفارسي بميزانية سنوية تبلغ 22 مليون دولار أميركي. وقد صار الكثير من الأعضاء البارزين في فصيل رفسنجاني معلقين دائمين وأعضاء في الهيئة الاستشارية لـ«بي بي سي» باللغة الفارسية، من بينهم كبير فريق العلاقات الخارجية في عهد خاتمي، علي أصغر رمضان بور، ومساعد رفسنجاني للشؤون البرلمانية، عطا الله مهاجراني. وقد أحيا انتخاب حسن روحاني رئيسا لإيران الآمال في إحياء النفوذ البريطاني في طهران. فقد استؤنفت العلاقات الدبلوماسية، التي جرى تجميدها في عهد أحمدي نجاد، كما قام وفد برلماني بريطاني بزيارة طهران. وتظهر المؤلفتان تعاطفا تجاه الرئيس روحاني وهو ما يبدو في تأكيدهما على أنه فاز بمنصب الرئاسة بعد تحقيق «انتصار مدهش من أول جولة». لكن الحقيقة تبقى أن جميع رؤساء إيران الستة السابقين فازوا جميعا بالانتخابات في الجولة الأولى. وقد كان فوز روحاني في حقيقة الأمر هو الأضعف بين كل الرؤساء السابقين، فقد حصل على نسبة 50.7 في المائة خلال الانتخابات، التي شهدت الإقبال الأضعف منذ الثورة الإسلامية. ويعني تبني سياسة حسن النية تجاه روحاني التغاضي عن سجله، بما في ذلك الارتفاع الدرامي في عدد حالات الإعدام والاعتقالات السياسية وغلق الكثير من وسائل الإعلام وتوزيع المناصب بين أعضاء فصيل رفسنجاني. تقول مؤلفتا الكتاب «ومن المأمول أن يخلق الرئيس روحاني بيئة مواتية للإعلام في إيران» ويسمح لـ«بي بي سي» بأن تعمل كما تعمل «أي وسيلة إعلامية أخرى مفيدة».