https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png
تمتد العلاقات العربية الروسية إلى أكثر من ألف عام، كانت الملة الروسية فيها مجرد مجموعة من القبائل الوثنية التي لا تهتدي إلى حضارة وهي إلى البربرية والبداوة والوحشية أقرب منها إلى شيء آخر، لقد سمع هؤلاء القابعون في أقصى شمال الأرض حيث الثلوج والليالي الطويلة التي لا تكاد ترى في آخرها شمسا أن ثمة حضارة راقية في الجنوب كانت تبزغ، وأن أجناسا من العرب والفرس والترك والروم والأمازيغ وغيرهم كانوا يدخلون في دين الله أفواجا. وقد جرى في النهر ماء، ومرت سنوات طويلة تحوّلت فيها هذه الأمم المُشتَّتة المتحاربة إلى إدراك ذاتها حين جاءها المسلمون من أحد فروع المغول، أحفاد جنكيز خان، فاتحين ومستقرين في الحوض الجنوبي لنهر الفولجا شمال بحر قزوين أو بحر الخزر كما كان يُطلق عليه آنذاك، ووصلت سنابك خيولهم إلى بولندا وأوكرانيا وبلغاريا، وذلك في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي وما تلاه، ومنذ ذلك التاريخ بدأت العلاقات العميقة بإدراك هذا الآخر/المسلم، ومحاولة الإجابة عن سؤال كيف الخلاص منه؟ وما طبيعة الدين والذين يحملونه؟ وعلى إثر هذه الأسئلة والأحداث التالية ظهرت الدولة الروسية الحديثة في عصورها الأولى قرب إمارة موسكو ثم في توسعها في زمنَيْ القياصرة والسوفيت فيما بعد. نوفي هذا التاريخ الطويل الممتد لأكثر من ألف عام، كان لزاما على هذه الأمة في فجر نهضتها أن تُخصِّص أقساما في جامعاتها ومعاهدها لفهم العالم الإسلامي الذي يُحيط بها إحاطة السوار بالمعصم لا سيما في الجنوب والشرق، وقد حاولوا بالفعل محاولات جادة في سبيل ذلك، بيد أنهم أدركوا في نهاية المطاف ألّا سبيل إلا الاستعانة بعلماء العرب لقطع شوط طويل في هذا المسار، ولكي يلتحقوا بالاستشراق الأوروبي في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، ومن هنا برز عدد من هؤلاء العرب كان على رأسهم العلامة الأزهري المصري محمد عيّاد الطنطاوي (1810-1861م) الذي تغيرت حياته مذ تخرّج في الأزهر الشريف وتعرف على الطلبة الأوروبيين في القاهرة. فمَن هو الطنطاوي؟ وكيف نشأ في طنطا عاصمة دلتا مصر؟ وكيف نبغ في الأزهر الشريف وما أسباب هذا النبوغ؟ ثم لماذا أمره الوالي محمد علي باشا بالسفر إلى روسيا؟ وكيف أثّر هذا الفلاح الأزهري المعمم في مسيرة الاستشراق الروسي فيما بعد؟ روسيا وحلم السيطرة على الأراضي الإسلامية نشأت روسيا في بداية عهدها من تجمع عدد من القبائل الوثنية المتناثرة التي كانت تربطها وشائج قبلية، وكانت تلتفّ حول “كييف” العاصمة الأولى لدولتهم، ولم يكن اسم روسيا قد أُطلق عليها بعد، وإنما يدعوها المؤرخون “روسيا الكييفية”، وكانت أعراق هذه القبائل خليطا من السلاف الغربيين والفوطيين والخزر وغيرهم، وحين بدأت الفتوحات الإسلامية تمتد للقوقاز الجنوبي حيث يسكن الخزر، فإن هؤلاء استعانوا بتلك القبائل الروسية لصدِّ هذا التمدد الإسلامي في حدود عام 643م[1]. ويُعَدُّ العام 860م الذكرى التأسيسية للدولة الروسية، فقد أُشير إلى اسم “روسيا” في المصادر التاريخية للمرة الأولى في التاريخ، وصارت كييف -عاصمة أوكرانيا اليوم- عاصمة الأرض الروسية، وبدأت تتجلّى مراحل التطور السياسي من القبلية إلى الإمارة، فظهرت عدة إمارات منها إمارة موسكو التي بدأت تلعب دورا محوريا مهما منذ القرن الحادي عشر، وفي العام 988م تعرفت روسيا على المسيحية الأرثوذكسية، فقد آمن الأمير فلاديمير بها، وأجبر أتباعه على الإيمان بها[2]. وكان المسلمون قد بدؤوا بالتعرف عن قُرب على هذه الأمم والقبائل في رحلة الفقيه والسفير العباسي الشهير ابن فضلان حين بعثه الخليفة العباسي المقتدر بالله سنة 309هـ/921م لملك الصقالبة لإيصال أدوية ودعم مادي وعيني في مواجهة الخزر المدعومين من الروس، ثم بغرض الدعوة للإسلام بين هذه القبائل، فأتم مهمته على أكمل وجه، وأعطى لنا معلومات على قدر كبير من الأهمية حول طبائع وتاريخ ونشأة هذه القبائل، وهي التي لا يزال يعتمد عليها المؤرخون الروس في معرفة تاريخهم المبكر حتى يومنا هذا. وفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي وبداية القرن السادس عشر، تكوّنت الدولة الروسية المركزية ذات القوميات المتعددة، وكان على رأسها الإمبراطور إيفان الرهيب (1462-1505م) والذي تركّزت في يديه سُلطة كبيرة وجيش قوي وأراضٍ شاسعة، وفي خلال فترة حكمه استطاع ضمّ العديد من الإمارات ضمن إمارة موسكو الكبرى، مثل روستوف وتفير وبويار، ثم في عهد أخلافه استطاعوا ضمّ المناطق الإسلامية التي سيطر عليها المغول المسلمون في مناطق قازان ودويلات القرم واسترخان وسيبريا، جراء ارتكاب مذابح مهولة، ومنذ عام 1556م أصبحت أنظار روسيا متطلعة لمناطق إستراتيجية في العالم الإسلامي كوسط آسيا والقوقاز وأوروبا الشرقية، ودخلت في سلسلة من الصراعات مع الدولة العثمانية[3]. واستطاعت روسيا التمدد بعد ذلك، لا سيما بعد هزيمة الدولة العثمانية في حربهما سنة (1768-1774م)، إذ تمكّنت من ضمّ شبه جزيرة القرم ومناطق مهمة من جنوب روسيا وأوكرانيا، وفي الحرب الثانية (1787-1791م) انهزم العثمانيون للمرة الثانية أمام الروس، فاحتلوا مناطق شاسعة من القوقاز الجنوبي حتى جورجيا، ثم في القرن التاسع عشر سيطر الروس على داغستان والشيشان وشمال أذربيجان، وفي عام 1876م كانت الضربة الكبرى باحتلال مناطق آسيا الوسطى الشاسعة[4]. بواكير الاستشراق الروسي وبهذا التمدد الكبير، تحوّلت روسيا إلى إمبراطورية عالمية تضمّ عشرات الملايين من المسلمين ذوي الأعراق المختلفة مثل التتار والترك والمغول والقازاق والشركس وغيرهم ممن أثّروا ثقافيا ولغويا وتراثيا في دولتهم الجديدة، وأصبح لزاما على الروس أن يطوّروا من فهمهم للعالم الإسلامي، ولغته الأولى العربية، وعلومه وثقافته وحضارته، لضمان تحقيق سياستها وإستراتيجيتها التوسعية والتوغُّل في أراضي المسلمين جنوبا وشرقا، فنراها تُشجِّع العلماء الروس على الولوج في هذا الميدان وتُقدِّم الدعم الكامل لهم لتطوير حقوله العلمية والمعرفية. في هذا السياق ظهرت المدرسة الاستشراقية الروسية، فكانت نشأتها الأولى على يد القساوسة الأرثوذكس والرحالة الروس للمشرق بغرض الحج للأماكن المقدسة في فلسطين والتعرف على شعوب الشرق الإسلامية، ومع بداية القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، سُجِّلت عدة تجارب ومحاولات في هذا المضمار، كما حاول الساهرون عليها رفع مستواها التعليمي والعلمي لا سيما في عهد الإمبراطورة “كاترينا الثانية” (1729-1796م) التي هزمت العثمانيين مرتين واستولت على أراضٍ شاسعة منهم، بيد أن هذه المحاولات كانت خجولة، فقرّر حينها الإمبراطور “ألكسندر الأول” (1777-1825م) إصدار مرسوم عام 1804م منظّم للجامعات الروسية، أحدثت بمقتضاه شُعبا خاصة بتدريس اللغات الشرقية[5]. وتسنَّمت جامعة العاصمة الروسية آنذاك “سان بطرسبورغ” الذروة في هذه المحاولة الإصلاحية الجامعية، إذ صارت منذ تلك اللحظة مركزا من أهم المراكز الاستشراقية في العالم بالرغم من أن تدريس اللغة العربية لم ينطلق بها إلا في عام 1818م، إذ أطلقه المستشرق الفرنسي ديماج أحد تلامذة المستشرق الفرنسي الشهير سيلفستر دو ساسي، وقد خلفه أستاذ من أصل بولندي وهو الأديب سينكوفسكي الذي ظل على رأس القسم مدة خمسة وعشرين عاما، وبعد وفاته قرّر الروس البحث عن أستاذ ضليع في علوم العربية والتراث الإسلامي، فاتجهت أنظارهم تجاه مصر موطن الأزهر والعلوم العربية والإسلامية لينتقوا رجلا يستحق هذا المنصب الثقيل. عيّاد الطنطاوي وتأثير الأزهر في قرية نجريد قرب طنطا، وفي عام 1810م، وُلد محمد بن سعد بن سليمان بن عيّاد الطنطاوي الشافعي الذي ينسب نفسه إلى قرية أخرى هي محلة مرحوم، فقد كان والده تاجرا جوّالا، كما كان له عدة بيوت في بعض من القرى بجوار طنطا، تصادف ميلاد محمد في نجريد، وكانت أمُّه من قرية أخرى تُسمَّى الصافية. حين دخل محمد في عُمر الطفولة أرسله والده لحفظ القرآن الكريم في طنطا ذاتها، إذ كانت أشهر مدن مصر والشرق الأوسط كله خدمة للقرآن الكريم، لا سيما في الجامع الأحمدي (السيد البدوي) في هذه المدينة القديمة، حتى قيل فيها وفي القاهرة التي كانت تهتم بعلوم الفقه والحديث وغيرها: “ما قرآن إلا أحمديّ، ولا علم إلا أزهري”، وحين أتم حفظ القرآن الكريم، انتقل إلى حفظ عدد من المتون اللغوية والشرعية آنذاك، مثل ألفية ابن مالك في النحو، والمنهاج في الفقه[6]. ولما بلغ الطنطاوي الثالثة عشرة من عمره رحل مع عمّه إلى القاهرة، ثم لحق به والده الذي آثر السكنى في القاهرة، ثم التحق بدروس الجامع الأزهر الذي عدَّه “سعادة له”، وكان دأبُ العلم في الأزهر آنذاك حفظ الشروح، ودراسة علوم الفقه والمنطق والبلاغة والبديع، وكان عدد من الأشياخ أصحاب تأثير كبير في محمد عيّاد، مثل شيخ الجامع الأزهر الشيخ حسن العطار (1830-1835)، ولم يكن العطار مجرد عالم، بل وشاعر له باع طويل في ميدان الأدب أيضا، وكان من المنفتحين على العلوم والمعارف الأوروبية لا سيما الفرنسية منها، ثم إنه عمل في ميدان الصحافة محررا لأول جريدة مصرية هي “الوقائع المصرية”، وشجع تلامذته على الإقبال على العلوم والمعارف الأوروبية، والتجديد في التدريس، فأدخل تفسير البيضاوي ومقامات الحريري والهمذاني للدراسة في الأزهر، وقد شغف تلامذته بهذا التجديد وعلى رأسهم رفاعة رافع الطهطاوي (ت 1873م)، ومحمد عيّاد الطنطاوي (ت 1861م). كما أثّر في الطنطاوي أيضا شيخ الجامع الأزهر إبراهيم الباجوري (1847-1861م) صاحب الشروح العديدة في العقائد والفقه والنحو والمنطق وغيرها، وكان الباجوري من ممثلي المدرسة التقليدية القديمة، متحفظا للغاية في مسألة التقارب مع الحضارة الأوروبية، فعندما حلَّ نابليون بجنوده إلى مصر، آثر الباجوري ترك القاهرة، بخلاف الشيخ العطار الذي تقرب من علماء الحملة الفرنسية، ورأى ما لديهم من مؤلفات ومصنفات. كما أخذ الطنطاوي عن شيوخ آخرين، مثل محمد الأشموني، وإبراهيم الدسوقي علامة العربية الذي رآه بعض الدارسين والمستشرقين الأوروبيين “أكبر عارفي اللغة العربية بين معاصريه” آنذاك[7]. وفي عام 1830م، تخرج الطنطاوي في الأزهر حائزا على عدد كبير من إجازات أشياخه، وكان النحو والعروض والأدب العربي وعلوم اللغة قد استهوته أكثر من علوم الفقه والأصول وغيرها، لذا شرع في تدريس الشعر والأدب، بل والمقامات والمعلقات، وظلَّ عشر سنوات كاملة يمتهن التدريس، رغم تعرضه لمحنة وباء عام 1836م كاد أن يقضي عليه فيها. وفي تلك السنوات تجلّى أثرُ الطنطاوي في عدد كبير من التلاميذ الذين صار لهم باع طويل بعد ذلك، مثل تلميذه الشيخ يوسف الأسير السوري (1815-1889م) الذي عاد إلى بلاده عالما كبيرا، واستُدعي للعمل في القضاء الشرعي في إسطنبول وبيروت، وأشرف الأسير على تعليم عدد من المستشرقين، وكذلك تلميذه الآخر محمد قطة العدوي الأديب، وآخرين في مصر والأردن وحلب وغيرها[8]. تعليم الأجانب ونقطة التحول حين وجد الطنطاوي أن التدريس في الجامع الأزهر لا يُوفِّر له دخلا كافيا، توجَّه صوب المطابع الجديدة التي كانت آخذة في الزيادة آنذاك، وقد دُعي للعمل مُصحِّحا لمسودات الطبع، وكان توجُّها حكوميا وخاصّا لترجمة العلوم والمعارف الأوروبية ومراجعة هذه التراجم، لكنه لم يُفضِّل هذا العمل الحكومي لأنه كان يمنعه من استمرار عمله الأصلي في الأزهر، لذا آثر الاتجاه إلى تعليم الأجانب اللغة العربية بجوار عمله في الجامع الأزهر. كان محمد علي باشا والي مصر (1805-1848م) قد فتح الباب واسعا أمام الأجانب والأوروبيين للاستثمار والعمل في البلاد، وجذبت التسهيلات والمغريات المئات والآلاف من هذه الجاليات، وأدرك هؤلاء أن مفتاح مصر يكمن في معرفة اللغة العربية، فسارعوا إلى إلحاق أقسام للغة العربية في مدارسهم ومجالسهم وجمعياتهم، وأصبحت الحاجة إلى استقدام مدرسين في هذا التخصص مُلِحّة، وكان الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي ممن اجتذبته هذه البيئة الجديدة، لشهرته التي اكتسبها في الأزهر الشريف في هذا المضمار العلمي واللغوي. ومن هنا بدأ الطنطاوي في العمل مُدرسا للغة العربية وآدابها في المدرسة الإنجليزية بالقاهرة، وقد فتح هذا المجال الجديد أمامه الأبواب للتعرف على عدد من مشاهير المستشرقين الأوروبيين والروس الذين كانوا في مصر آنذاك، بل كان السبب في سفره إلى روسيا فيما بعد، فقد درس على يديه المستشرق الفرنسي فرنيل أو فلجانس فرينل (1795-1855م) الذي أصبح قنصل فرنسا في كلٍّ من جدة والموصل وتوفي في بغداد، وهو صاحب كتاب “الرسائل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، وكان تأثير الطنطاوي في فرنيل كبيرا ومتبادلا. يقول الطنطاوي في إحدى رسائله عن هذا الدبلوماسي والمستشرق الفرنسي: “وأول مَن عاشرته حضرة الخواجة فرنيل، وهو يُحبّ العربية بالطبع، فكان يحثّني دائما على الاشتغال، وهو الآن قنصل جدة، وبسببه تقوّيتُ في العلوم الأدبية؛ لأنني كنتُ أقرؤها معه، وهو كان من أهل التحقيق والتدقيق، وله توقفات حسنة، وبنات أفكار جميلة”[9]. كما أثّر الطنطاوي في المستشرق البريطاني الشهير إدوارد وليام لاين (1801-1876م)، وكان لاين من أكثر المستشرقين الأوروبيين رصانة وغزارة إنتاج ودقّة، وقد أشار لاين إلى مجهود الشيخ الطنطاوي وتصحيحاته الرصينة لترجمته كتاب “ألف ليلة وليلة” إلى الإنجليزية، حتى قال عنه: “يمكن أن نسميه (أي الطنطاوي) بلا تردد: أول عالم لغوي في أول مدرسة عربية في أيامنا”[10]. كما درس على يديه عدد من المستشرقين والشخصيات الألمانية، مثل فالن، وبرونر طبيب محمد علي باشا، على أن العالِمَيْنِ الروسيينِ موخين وفرين اللذين عملا في حقل الاستشراق والدبلوماسية الروسية قد لفتهم قدرة الشيخ وروسوخ قدمه وهو ما زال في شبابه، فقد كان موخين متخرجا في كلية التاريخ والآداب الشرقية في جامعة سان بطرسبورغ، ودرس على الشيخ الطنطاوي في القاهرة شعرَ المعلقات والشنفرى الأزدي وغيرها، وكان يُدرك بعمق قدرة الطنطاوي وملَكاته العلمية في حقل اللغة والعربية وآدابها والعلوم الإسلامية، وقد مدحه الطنطاوي من جانبه، إذ صار فيما بعد مترجما له ودليله في رحلته إلى روسيا، يقول عنه: “وهذا التُرجمان كان صاحبي في مصر خلال عدّة أعوام، وقرأ عليَّ شيئا من المعلّقات وأخبار شعرائها، وله دراية بكثير من اللغات كالفرنسية والتركية، واسمه نقولا موخين”[11]. أما رودولف فرين فقد خلف موخين في القاهرة للدراسة والعمل الدبلوماسي، وقد اتصل بالشيخ الطنطاوي، وهو الابن الأكبر للمستشرق الروسي الشهير فرين الذي أسَّس المتحف الآسيوي في بطرسبورغ وعمل مديرا له لمدة طويلة، وقد ورث الابن رودلوف حب الاستشراق عن والده، وقد عرّف الدوائر الدبلوماسية والاستشراقية في روسيا هو وصديقه موخين بمقام ومكانة الشيخ الطنطاوي. الرحلة الروسية بفضل جهود فرين الأب والدبلوماسي الروسي إيطالينسكي في استجلاب المخطوطات العربية، وتبويب الأقسام وتنظيمها، وإيجاد تقاليد علمية جديدة لدراسة الآثار الشرقية، ودور “المتحف الآسيوي” في بطرسبورغ، فقد أرسوا حجر الزاوية لمدرسة علمية استشرافية متكاملة، لا سيما مع وجود البروفيسور سنكوفسكي البولندي الأصل الذي أتقن اللغة العربية، ومكث في العالم العربي عدة سنوات، وعمل أستاذا في جامعة سان بطرسبورغ، وقد تركها بعد فترة عمل دامت 25 عاما[12]، فضلا عن إعفاء أستاذ فرنسي آخر اسمه ديمانج من عمله أستاذا للغة العربية سنة 1839 في القسم التعليمي في تلك الجامعة، وبهذا أصبح الطريق مفتوحا أمام الشيخ الطنطاوي. وفي العام نفسه 1839م، كلَّف وزير الخارجية الروسي المستشار نسلرود -وهو أحد مؤسسي القسم التعليمي والشرقي- الدوق مديم قنصل روسيا العام في الإسكندرية للبحث عن شخصية مناسبة من العلماء العرب لاستجلابه إلى روسيا كي يستكملَ المسيرة في هذا المجال، وبالفعل بعد عدة استشارات توسَّعت إلى سؤال بعض من الفرنسيين المقيمين في القاهرة، وقع الاختيار على الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي لشهرته ومكانته، وكان لزاما عليه أن يأخذ الإذن بالسفر والإعارة من الوالي محمد علي باشا شخصيا، وقد قابله بالفعل، وحثّه الباشا على “دراسة اللغة الروسية وإتقانها، ووعده بعطفه وعنايته به”[13]. ومن هنا انطلق الطنطاوي إلى رحلته لتدريس اللغة العربية وآدابها وبعض العلوم الإسلامية في جامعة بطرسبورغ عاصمة روسيا القيصرية آنذاك، فغادرَ القاهرةَ في 16 مارس/آذار سنة 1840م، ليصل بطرسبورغ بعد رحلة بحرية مُضنية من الإسكندرية إلى إزمير ومنها إلى إسطنبول، وحجْرٍ صحيّ في أراضي الدولة العثمانية، ثم انتقال بالباخرة صوب البحر الأسود لمدينة أوديسّا الأوكرانية، ومنها شمالا إلى سان بطرسبورغ ليصل بعد ثلاثة أشهر ونصف في 29 يونيو/حزيران سنة 1840م. كان استقبال الشيخ حافلا، حيث كانت جموع المثقفين والمستشرقين تترقّب وصول هذا الـمُعمّم الأزهري الذي تحط قدماه كأول عربي يُدرِّس للطلبة الروس، وكان صدى الآداب الرومانتيكية التي تعطي صورة ساحرة للشرق والشرقيين يدعم هذا الاتجاه كما يقول المستشرق الروسي إغناطيوس كراتشكوفسي (1883-1951م)، فبدهي أن تجذب شخصية الشيخ الشرقية أنظار رجال الثقافة والآداب والاستشراق، وقد كتب أحد تلامذته الجدد ومحرر جريدة “فدومستي بطرسبورغ” آنذاك قائلا لصديق له: “أنا أسمعُ محاضرات الشيخ وأكتُبها، وعن قريب سنتكلمُ معه بالعربية، والشيخ رجلٌ مجامل هاشٌّ باشٌّ، ولفظُه لا يشبه لفظ سنكوفسكي (أستاذ العربية السابق)، بل ألطف، وستكون دراستي معه في بيته؛ لأن بقية الطلاب لا يكاد يُتقن القراءة”. ثم إنه لم يكتف بهذا الخطاب، فكتب لجريدته مقالا عن الشيخ الطنطاوي جاء فيه: “له لحية سوداء كجناح الغراب، وعينان تشعّان بإشعاع غريب، على وجهه سمةُ الذكاء، وقد لفحت الشمسُ بشرته، وليست بالطبع شمسُ بلادنا الشمالية الباردة… إن اسم الشيخ محمد الطنطاوي معروف لدى كل مَن يدرس اللغة العربية، لكن كل السياح الذين انتفعوا بخدماته والمدينين له بنجاح أبحاثهم يذكرونه بالشكر، ويُكنّون له المودة مُذيعين شُهرته في أوروبا”[14]. في الثاني من يوليو/تموز 1840م، وعلى مدار عقدين قادمين، سيعمل الشيخ الطنطاوي أستاذا للعربية وآدابها في كلية الدراسات الشرقية بجامعة سان بطرسبورغ، لم يرجع فيها إلى مصر إلا سنة 1844م ليأتي بزوجته وابنه الصغير أحمد، ويقرر بإرادته أو رغما عنه عدم الرجوع مرة أخرى إلى وطنه، لطول المسافة ووعورة الطريق، واشتعال حروب القِرم بين الدولة العثمانية والدولة الروسية. ثورة الطنطاوي في ميدان الاستشراق وفي هذه المدة الطويلة التي قضاها الشيخ بروسيا، عمل الطنطاوي على محورين اثنين؛ الأول إفراغ طاقته وحماسته ووسعه في تخريج أجيال من الطلبة الروس وغيرهم من الجنسيات الأوروبية الأخرى على قدر جيد من المعرفة باللغة العربية وآدابها، فضلا عن الانكباب على التأليف والكتابة، والثاني استكشاف روسيا والدول المجاورة لها، ففي صيف سنة 1843م، قام الشيخ الطنطاوي باستكشاف بلدان البلطيق وفنلندا، في سبيل توديع تلميذه الفنلندي النجيب فالن الذي انطلق إلى المشرق كدأب الطلبة النجباء الروس والفنلنديين في زمنه، وبدعم مالي سخي من حكومته. وقد كان من المألوف أن تُدرَّس اللغة العربية في بطرسبورغ من كتاب المستشرق الفرنسي الشهير سيلفستر دي ساسي (1758-1838م)، على أن الشيخ الطنطاوي وجد فيه أخطاء كثيرة، فعكفَ على تصحيح هذه الأغلاط، بل طُلب منه أن يضع كتابا لتدريس اللغة العامية، فكتب الشيخُ مصنفا في ذلك، وسرعان ما تخرج عليه نجباء الطلبة مثل تيموفييف الذي انتُدب للعمل في الدبلوماسية الروسية بالقاهرة، وكذلك الفنلندي جورج فالِن (ت 1852م) الذي خلّف أثرا كبيرا في تاريخ الاستشراق (الاستعراب) والجغرافية الشرقية[15]. ولهذا المستشرق الفنلندي تلميذ الطنطاوي، الذي ساح في الجزيرة العربية ومصر وسورية لسنين طويلة تحت اسم عبد الولي، مراسلات مهمة مع الشيخ جُمعت وطُبعت، وهي لا تزال محفوظة في جامعة هلسنكي عاصمة فنلندا إلى اليوم[16]. كما لعب الطنطاوي دور حلقة الوصل الثقافية بين المستشرقين في بطرسبورغ وبين الكُتّاب والأدباء المصريين، كأحمد تيمور ومحيي الدين الخطيب وغيرهم، ولقد أسّس جيلا من المستشرقين كانت تربطهم ببعضهم علاقات حميمة، ولقد قال عنه المستشرق الروسي غريغورييف: “محاضراته كانت غنية جدا بالمفردات واللفظ العربي الجميل والسليم، كما أنه كان إنسانا رائعا، عصاميا في أخلاقه، مفيدا وغيورا على طلابه”[17]، كما أنه عرّف المستشرقين والوسط الأدبي في بطرسبورغ على مؤلفاته التي قُدّرت بنحو 27 مؤلّفا بين تأليف وتحقيق لمخطوطات قديمة، فضلا عن عشرات المقالات اللغوية التي نشرها في المجلات المصرية مُذ كان طالبا في الأزهر وحتى قُبيل رحيله إلى روسيا سنة 1840[18]. ومن اللافت أن الباحث العراقي حسين علي محفوظ -الذي اعتلى كرسي الدراسات الشرقية في بطرسبورغ في بداية الستينيات من القرن العشرين- كان قد وقف على مخطوطات وأوراق الشيخ الطنطاوي المحفوظة هنالك، وكتب مقالا قيّما عن المواد التي كتبها الشيخ والتي تبلغ 150 عملا بين كتاب ودراسة ذكرها محفوظ كاملة في خزانة الكلية الشرقية بجامعة بطرسبورغ، وأيضا في خزانة معهد الأمم الآسيوية، كما دلّنا الباحث العراقي على المواد التي درّسها الشيخ الطنطاوي في مسيرته الطويلة تلك، فكان يُدرِّس القواعد النحوية والعروضية، والقَصص والحكايات، والمقامات لا سيما مقامات الحريري، ومنتخبات من كتب التاريخ والأدب، فضلا عن الخطِّ وترجمة النصوص من العربية إلى الروسية والعكس، ثم زادها سنة 1855م إلى التاريخ الإسلامي حتى الزمن المغولي معتمدا على تاريخ ابن خلدون والسيوطي[19]. ومن الملاحظ أن مؤلفات الشيخ الطنطاوي قد انقسمت إلى نوعين؛ نوع يمكن اعتباره دراسات تقليدية، مثل الشروح والحواشي والتعاليق وغيرها على درب كتابات وتآليف الأزاهرة في ذلك الحين، ونوع آخر جديد متصل بالدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية التي كان يُهيئها للاستعانة بها في التدريس في بطرسبورغ، مثل كتاب الحكايات، وحال الأعياد والمواسم في مصر، والأمثال العربية المترجمة للروسية، وقواعد اللغة العربية العامية “باللهجة المصرية”، والملاحظ فيها أن الشيخ دخل بصورة قوية للغاية إلى قلب الدراسات الاستشراقية آنذاك، وصار من المقدّمين فيه[20]. فحظي الشيخ الطنطاوي في سنوات تدريسه، وسمعته الطيبة، وتلامذته الممتازون، وحُجته وعلمه الراسخ، على تقدير الأوساط العليا في الدولة الروسية، فقد قلّده القيصر بنفسه أرفع الأوسمة، مثل وسام ستانيسلان ووسام حنّا وخاتما مرصّعا بالألماس الغالي، أثّرت تجربة مُقام الطنطاوي في روسيا طوال هذه الفترة في تفكيره وقناعاته تأثيرا كبيرا، وكان على تواصل مع صديقه القديم، وأحد رواد النهضة المصرية الحديثة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (ت 1873هـ)، وكانوا يتبادلون بينهما المراسلات والخطابات، وقد أرسل إليه في إحداها يقول: “أنا مشغوف بكيفية معيشة الأوروبيين وانبساطهم وحُسن إدارتهم وترتيبهم خصوصا ريفهم، وبيوته المحدقة بالبساتين والأنهار إلى ذلك مما شاهدتم قبلي بمدة في باريز (باريس)؛ إذ بتربورغ لا تنقصُ عن باريز في ذلك، بل تفضُلها في أشياء كاتساع الطرق، وأما مِن قِبل البرد فلم يضرّني جدا، إنما ألزمني ربط منديل في العُنق، ولبس فروة إذا خرجتُ، وأما في البيت المدافئ المتينة مُعدّة لإدفاء الأوَض، وطالما أنشدتُ عند جلوسي قُرب النار[21]: وإذا كان رفاعة الطهطاوي كتب في بعثته إلى فرنسا كتابه الأشهر “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” متناولا أحوال الأمة الفرنسية الثقافية والحضارية، عاقدا مقارنة بينها وبين مصر في زمنه، فإن صديقه الطنطاوي سار على دربه لما سأله بعض الأصدقاء، وربما كان الطهطاوي منهم، أن يكتب عن روسيا بعين أزهرية مصرية شرقيّة هو الآخر، وذلك في حدود عام 1850م، فكتب في ذلك كتابه الأشهر “تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا”، وهو الكتاب الذي كان أول مَن تعرف عليه المستشرق الروسي الشهير كراتشكوفسكي، وكان العلامة المترجم السوداني صلاح الدين عثمان هاشم (ت 1988م) يُزمع تحقيقه إلا أن الأجل وفاه، فأتمه الدكتور محمد عيسى صالحية أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية (ت 2010م) وقدَّم لنا معروفا كبيرا. فقد قسَّمَ الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي هذا الكتاب إلى مقدمة وثلاثة أبواب، تناول فيها أسباب مَقدمه إلى روسيا ورحلته حتى وصوله إلى سان بطرسبورغ في يونيو/حزيران 1840م، كما تناول منشأ الروس، وتاريخ بطرسبورغ الطبوغرافي والطبيعي والبشري، ثم تناول أحد كبار رجالات النهضة الروسية الحديثة وهو القيصر بطرس الأكبر (1672-1725م) وكونه السبب في تقدُّمها، كما تناول عادات الروس والتنظيمات الاجتماعية، ودور المرأة، ثم ختم هذا الكتاب بإلقاء الضوء على اللغة الروسية وقواعدها التي أتقنها[22]، وهذا الكتابُ يُعَدُّ إحدى الدراسات العربية الأولى النافذة لعمق المجتمعات الغربية، كما يصلح كدراسة حالة لعلم “الاستغراب” في نشأته المبكرة في القرن التاسع عشر. نهاية الشيخ بجانب إتقانه للعربية وعلومها والروسية وآدابها، كان من اللافت أن الشيخ الطنطاوي قد أتقن الفرنسية وألّف بها ثم الألمانية أيضا[23]، وللشيخ الطنطاوي ترجمة عربية لكتاب المؤرخ الروسي أوسترالوف “تاريخ روسيا”، وقد أشار كراتشكوفسكي إلى أن الطنطاوي كان يُعلِّق على الأوراق الرسمية باللغة الروسية بعد بضع سنين من مجيئه إلى روسيا، إذ سرعان ما أتقن هذه اللغة واندمج بصورة عميقة في المجتمع الروسي، بما يعني أن الطنطاوي صار أحد عمالقة الدراسات الشرقية المجيدين لعدة لغات في ذلك الحين. على أنه بداية من عام 1855م، دخل الشيخ في تدهور صحي ملحوظ أُصيب فيه بالشلل الرعاش ثم عدم القدرة على الحركة، واضطر إلى العلاج والراحة الطويلة، وفي عام 1860م أُحيل الشيخ للتقاعد، وقررت له الدولة الروسية راتبا تقاعديا جيدا، وكانت زوجته قد توفيت قبله، واضطر إلى إيداع ابنه الوحيد أحمد في إحدى المدارس الداخلية للاعتناء به، وفي 29 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1861م، انتقل الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي إلى رحمة الله. وهكذا، وفي عُمر الحادية والخمسين، قضى منها واحدا وعشرين عاما في بلاد الجليد والبرد في روسيا، كأحد ألمع أساتذة اللغة العربية والعلوم الإسلامية والاستشراق، ترك الطنطاوي مِن خلفه تراثا عظيما، تناوله العلامة إغناطيوس كراتشكوفسي في كتابه المهم “حياة الشيخ الطنطاوي”، ليُدفن في مقبرة المسلمين بمدينة فولكوفو قرب سان بطرسبورغ، ويُكتب على شاهد قبره بالعربية: “هذا مَرقد الشيخ العالم محمد عيّاد الطنطاوي، كان مُدرس اللغة العربية في المدرسة الكبيرة الإمبراطورية ببطرسبورغ المحروسة، وتُوفي في شهر جمادى الثاني سنة 1278 من الهجرة عن خمسين سنة”. المصادر 1 الاستشراق الروسي، نشأته ومراحله التاريخية ص226. 2 تاريخ الاتحاد السوفيتي ص40. 3 سعدون الساموك: الاستشراق الروسي، دراسة تاريخية شاملة ص27، 28. 4 سعدون الساموك: السابق ص33. 5 عبد-الرحيم-العطاوي: الشيخ محمد عياد الطنطاوي والمدرسة الاستشراقية الروسية ص215. 6 إغناطيوس كراتشكوفسكي: حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي ص76. 7 كراتشكوفسكي: السابق ص80، 81. 8 المصدر السابق ص83- 86. 9 ترجمة ذاتية للطنطاوي في رسالته للمستشرق الروسي فرين. 10 E.W.Lane, The thousand and one nights, London, 1839, XV 11 محمد عياد الطنطاوي: تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا، ص8. 12 سهيل-فرح: الاستشراق الروسي؛ نشأته ومراحله التاريخية ص240 – 242. 13 محمد عياد الطنطاوي، الرحلة إلى روسيا “تحفة الأذكيا”، المقدمة. 14 كراتشكوفسكي: السابق ص111، 112. 15 المصدر السابق ص119. 16 رحلة الطنطاوي إلى روسيا (تحفة الأذكيا)، مقدمة المحقق، ص15. 17 كراتشكوفسي: الشيخ طنطاوي البروفسور في جامعة بطرسبوغ ص26. 18 المصدر السابق ص229 وما بعدها. 19 علي-حسين-محفوظ:-الشيخ-محمد-عياد-الطنطاوي معلم اللغة العربية الأول في أوروبا ص82، 83. 20 الشيخ محمد عياد الطنطاوي والمدرسة الاستشراقية الروسية ص222 21 محمد عبد الغني حسن: أعلام النهضة الحديثة ص280 22 رحلة الشيخ الطنطاوي لروسيا “تحفة الأذكيا”، مقدمة المحقق ص25 23 الشيخ محمد عياد الطنطاوي والمدرسة الاستشراقية الروسية ص222.(اعداد:محمد شعبان ايوب )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 − 3 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube