من دراسة :أمينة حلال
كانت و لا تزال الهيمنة أهم محددات صياغة إستراتيجيات القوى الدولية وتنوعها وبالأخص الولايات الأمريكية؛ فهي تسعى من خلال مختلف الإستراتيجيات المنتهجة لحد الآن إلى تأمين مكانتها باعتبارها القوة المهيمنة على النظام الدولي وقواعده. وسنقوم فيما يلي باستعراض موجز لمفهوم الهيمنة في العلاقات الدولية، وهذا قبل التطرق إلى الواقع الحالي للولايات المتحدة كقوة باسيفيكية والقوى المنافسة لهذه المكانة وعلى رأسها الصين.
الفرع الأول: مدلولات الهيمنة وتطوراتها
أولا-مفهوم الهيمنة: تعنى لفظ الهيمنة Hegemony بالمعنى اليوناني “القيادة”، وكانت تستخدم للإشارة إلى مكانة التفوق والغلبة التي تمتعت بها أثينا مقارنة ببقية المدن في اليونان القديمة.[1] وتشير الهيمنة في الدراسات الدولية والإستراتيجية إلى الدولة القائدة لمجموعة من الدول، ومن ثم فإنها تفترض العلاقات بين الدول عنصر القيادة ووجود السلطة البنيوية التي تمكن الدولة المهيمنة من احتلال موقع مركزي داخل نظامها الخاص. [2]
وعرف “روبرت كوهين” و”جوزيف ناي” الهيمنة بأنها هيكل بنيوي لنظام دولي تكون فيه دولة واحدة قوية بما يكفي للحفاظ على القواعد الرئيسية التي تحكم العلاقات ما بين الدول، وتكون لديها الرغبة في فعل ذلك. [3] ويركز “Rox” كوكس في تعريفه لمفهوم الهيمنة على عنصر الرضا، على اعتبار أن النظام الذي تكون فيه قوة قادرة على تحقيق الهيمنة تتطلب الركن الرضائي في المقام الأول. [4] من جانبه عرف جوزيف ناي (الابن) الهيمنة بأنها: “وجود قوة دولية مسيطرة تكون هي المتفوقة في المصادر المادية وتتوافر لديها القدرة والإدارة اللازمة في صياغة قواعد التفاعل في النظام الدولي” [5].
ووفقا للتعريفات السابقة، فإنها تقوم على وجود دولة واحدة تملك من الإمكانيات والقدرة والرغبة وكذا الإقناع في وضع وصياغة قواعد تحكم علاقات الدول، هو ما أصبحت تفتقد إليه الولايات المتحدة اليوم.
إلى جانب ذلك، يمكن فهم الهيمنة من خلال مفهومي التمكين الجيوسياسي والدولة الحاملة للميزان. ويقصد بالتمكين الجيوسياسي، القدرة على ضبط التفاعلات الدولية بما يمكن الدولة المهيمنة من الاستمرار في حفظ مصالحها أو توجيهها ضمن نطاق التفاعلات المقصودة، فضلا عن التأثير على سلوك القوى الكبرى.[6] فالقوة الجيوسياسية هي التي يمكن من خلالها تحقيق الهيمنة، ويشير كريستوفر لين Layne، في هذا الشأن إلى أن الهيمنة هي إستراتيجية واقعية تسعى إلى إدامة السيطرة الجيوسياسية.[7] في ذات السياق، يذهب بعض المختصين إلى أن طبيعة الهيمنة تستدعي منع ظهور قوة جديدة تستطيع أن تنافس الدولة المهيمنة وبالشكل الذي يمكنها من تحقيق التوازن معها. وذلك لان الهيمنة تفترض السيطرة من دون منافس في القيادة. [8] ينطبق هذا التوجه على الواقع الذي تشهده الهيمنة الأمريكية اليوم، إذ أصبحت سيطرتها على قواعد النظام الدولي مهددة بظهور قوى جديدة على رأسها الصين، التي تزاحمها على القيادة العالمية.
وفيما يتعلق بمفهوم “الدولة الحاملة للميزان أو الموازن”، يفسره البعض بأنه مرادف للهيمنة ومنهم جون ميرشايمر، الذي يصف دور القوة المهيمنة بأن تكون قادرة على ضبط أدوار القوى الإقليمية والدولية، بحيث تتمكن من ترجيح كفة أحد الأدوار على الأخرى في حال تفوق واحدة من القوى إقليميا.[9] يعد دور الطرف الموازن امتدادا لحالة الهيمنة، التي تفترض طرف قادر على ضبط السلوكيات التوازنية في البيئة الإقليمية والدولية وإدارتها في نفس الوقت، مع ضمان وجود أدوار الشراكة والتوظيف لمساعدته على تحقيق هذا النمط من التفاعلات. [10]
نخلص مما سبق، إلى أن مفهوم الهيمنة، يختص بوجود قوة واحدة تملك من الإمكانيات؛ القدرة؛ الرغبة؛ الرضا وكذا الإقناع في وضع وصياغة قواعد النظام الدولي التي تحكم علاقات الدول، التحكم فيه وتعمل على الحفاظ على هذا الوضع ضمانا لأمنها الوجودي ومكانتها.
ثانيا- المشاهد الثلاث للهيمنة الأمريكية: بدأت القوة الأمريكية في البروز كقوة عظمى مع بداية القرن العشرين ولخص “أيون كلارك” أهم وجهات النظر والتشخيصات التي قدمها باحثون متخصصون حول تطور الهيمنة الأمريكية منذ سنة 1945، وصنفها على شكل ثلاث مشاهد شائعة: [11]
المشهد الأول: استمرارية الهيمنة الأمريكية وفقا لأصحاب هذا المشهد، بدأت الهيمنة الأمريكية فعلياً سنة 1945، ومازالت مستمرة ليومنا هذا دون انقطاع، إلى درجة أن النخب السياسية الأمريكية أصبحت تعتبر الهيمنة وسيلة للحياة، لهذا ستستمر الهيمنة الأمريكية في المستقبل المنظور.
المشهد الثاني: الانقطاع الهيكلي للهيمنة الأمريكية حسبه، تعرف الهيمنة الأمريكية تراجعاً منذ سنوات السبعينات، لان بنية النظام الدولي كانت ثنائية وتقاسمت الولايات الأمريكية النفوذ العالمي مع الاتحاد السوفياتي ومع نهاية الحرب الباردة برزت أقطاب مزاحمة لها.
المشهد الثالث: الانقطاع العاملي: يستبعد أصحاب هذا المشهد، النظر إلى الهيمنة باعتبارها نتيجة لهيكل أو بنية النظام الدولي. بدل من ذلك، يرون أن الهيمنة الأمريكية بدأت في التراجع بعد توجهها الأحادي عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 وحربها العالمية على الإرهاب والتي فقدت من خلالها الإجماع والتوافق الدولي حول سياستها. إلى جانب ذلك، اعتبرت الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، عاملاً حاسماً أخر في إحداث وتسريع الانحسار والتراجع الأمريكي.
الفرع الثاني: نظرة عامة حول الهيمنة الأمريكية بجنوب شرق آسيا
بعد فترة الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة هي القوة الخارقة الوحيدة في العالم، حيث عرف الاقتصاد الأمريكي نموا نسبته 27% بين عامي1990 و 1998 وعلى أساس قوتها الاقتصادية سيطرت الولايات المتحدة على أكثر المؤسسات نفوذا في العالم على غرار منظمة الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. [12]
أسهم هذا النفوذ الاقتصادي والسياسي بتعزيز مركزية القوة السياسية والمالية الأمريكية في النظام ككل، إلى جانب امتلاكها لأكبر ميزانية دفاعية في العالم، فوفقا لإحصائيات سنة 2013، مثلت الولايات المتحدة 37 % من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.
وتميزت السياسة الدفاعية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين بالحفاظ على ميزة التفوق على المنافسين المحتملين، فخلال إدارة بوش أكد المحافظين الجدد بأنه يتوجب على الولايات المتحدة التمتع بالقوة لإعادة تشكيل العالم و أنه ينبغي اغتنام الفرصة من أجل منع ظهور المنافسين .و مع كل تلك القوة ،تواجه الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة عددا من المشكلات الداخلية و الخارجية تقف على رأسها تنامي القوة الصينية ،حيث عرفت هذه الأخيرة تزايد لحجم اقتصادها بأربعة أضعاف منذ 1978 و من المتوقع أن تتفوق الصين على أمريكا فهي أكبر مصدر و منتج في العالم و تسيطر على 2.5 تريليون دولار من الاحتياطات الأجنبية.[13]
كما تواجه الولايات المتحدة تحديات متزايدة لقدراتها الدفاعية خاصة من روسيا التي من الممكن أن تنافس أمريكا في الأسلحة النووية الإستراتيجية، إلى جانب امتلاك كل من المملكة المتحدة، فرنسا، الصين، باكستان، الهند وكوريا الشمالية القدرة على إنتاج الأسلحة النووية.
وفيما يتعلق بالأمن الداخلي، أظهرت هجمات 11 سبتمبر 2001 ضعف أمريكا أمام أشكال الحرب غير التقليدية. ففي 2008، أوضح فرنسيس فوكوياما أنه على الرغم من بقاء الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في العالم إلا أن المشكل يكمن في التراجع الأمريكي وكيفية لاحق بقية الدول بركبها. فالاقتصاد الأمريكي أخذ في الانخفاض، فمن المحتمل أن تنخفض نسبته في الاقتصاد العالمي من 28% سنة 2004 إلى 27% سنة 2025 و26% سنة 2050[14]. فضلا عن تصاعد المنافسة ضدها من قبل الاقتصادات الناشئة كاليابان، الصين، روسيا، الهند والبرازيل. فمنذ الحرب العالمية الثانية، لم تواجه القوة المالية الأمريكية أي منازع وذلك بسب قوة الدولار الأمريكي، إلا أن الأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2008 تسببت في سقوط الولايات المتحدة والعالم بأسوأ تدهور منذ الكساد العظيم، كما فسحت المجال للتكهنات حول تراجع الهيمنة الأمريكية. عموما، من المحتمل أن تتراجع القوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية إلى جانب لحاق بعض الدول الناشئة بالولايات المتحدة وتحول بنية النظام العالمي إلى التعددية القطبية.
رحبت معظم دول الآسيان بارتباط القوى الكبرى في منطقة جنوب شرق آسيا وعلى رأسهم الولايات المتحدة واعتبرت الأمر إيجابيا. ففي 2011 أوضحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “هيلاري كلينتون” أن آسيا حريصة على الترحيب بالقيادة الأمريكية الآن أكثر من أي وقت مضى في التاريخ.[15]مضيفة أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي تتمتع بشبكة قوية من التحالفات الوثيقة في المنطقة.
و في مقالة بعنوان” العلاقة بين جنوب شرق آسيا و الولايات المتحدة: تحليل معاصر” أوضح الكاتب موزافر Muzaffar أن الفلبين و إندونيسيا ليستا الدولتين الوحيدتين اللتان أبدتا ولائهما لواشنطن خلال الفترة ما بين 1975 -1997 .ففي بداية سبعينات القرن الماضي ، بدأت سنغافورة في البحث عن علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة من خلال التعاون الاقتصادي و الأمني ، كما تعتبر بروناي شريك إستراتيجي غير رسمي لأمريكا .في حين كانت تايلاند حليفة للولايات المتحدة منذ منتصف الخمسينات ،و ارتبطت ماليزيا بعلاقة تجارية نشطة و صديقة مع الولايات المتحدة إلى جانب التعاون الأمني بين الطرفين من خلال المناورات العسكرية المشتركة ،و كذا تقديم ماليزيا تسهيلات لدخول السفن الحربية الأمريكية.[16]
وبانضمام فيتنام، لاوس، كمبوديا وميانمار إلى اتحاد الآسيان سنة 1995 تبنوا موقفا أكثر حذرا اتجاه الارتباط الأمريكي بالمنطقة نظرا لعوامل تاريخية والتوجهات السياسية لحكوماتهم في تلك الفترة. وكان لاتحاد الآسيان سياسة تقضي بالارتباط بأي قوة تدعم التنمية في المنطقة.[17]
في حين تعتبر سنغافورة أنه لا يمكن الاستغناء عن الولايات المتحدة بالنسبة لأمن منطقة آسيا-الباسيفيك وهو الشيء الذي أكد عليه رئيس وزرائها سنة 2010 بضرورة أن تكون الولايات المتحدة جزءا من “البنية المستقرة ” في المنطقة. من جانبه، رحب وزير الخارجية الفلبيني بتأكيدات هيلاري كلينتون بشأن الالتزام الأمريكي اتجاه المنطقة لضمان حرية الملاحة، سهولة الولوج إلى الممرات البحرية الآسيوية واحترام القانون الدولي في بحر الصين الجنوبي، كما أعلن رئيس فيتنام السابق أن الولايات المتحدة “شريك إستراتيجي رئيسي” ورحب بتعاون أمريكي أقوى في منطقة آسيا-الباسيفيك من أجل السلام، الاستقرار والتنمية في المنطقة. في ذات السياق، أوضح الكاتب تاو Tao أن سكان جنوب شرق آسيا عانوا خلال فترة ما بعد الحرب الباردة مشاعر مختلطة اتجاه التواجد الأمريكي بالمنطقة:[18]
” فمن جهة، تخوف الناس من أن الانسحاب التام للقوات الأمريكية في المنطقة سيغير ميزان القوى ويتسبب في انعدام الاستقرار والأمن في المنطقة. من جهة أخرى، يرغب القوميون في الدول الآسيوية في سحب القوات الأمريكية وهو ما يفسر رفض مجلس الشيوخ الفلبيني التصديق على تمديد اتفاقية القواعد العسكرية الأمريكية الفلبينية مما أدى إلى انسحاب القوات الأمريكية سنة 1992. كما رفضت الحكومة التايلاندية المقترح الأمريكي بإنشاء قاعدة لوجستية في خليج تايلاند. لهذا، هناك شكوك في أن تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على قواتها بمنطقة جنوب شرق آسيا لفترة طويلة، كما يلاحظ أنه منذ الأزمة المالية الآسيوية لسنة 1997 والتأثير الأمريكي على المنطقة في تراجع مستمر خاصة بعد الاستجابة البطيئة اتجاه المشاكل الاقتصادية بالمنطقة.”
لحد اليوم، لاتزال القيادة الأمريكية تعتبر ضرورية لتشكيل مسار المنطقة بعيد المدى في المجالات الثلاث الحساسة في العلاقات الدولية: تعزيز الاستقرار والأمن، تسهيل التجارة والتبادلات التجارية عبر نظام مفتوح وشفاف وضمان احترام الحقوق والحريات العالمية.[19]إلا أن واقع الهيمنة الأمريكية بمنطقة آسيا-الباسيفيك عموماً وجنوب شرق آسيا خصوصاً شهد في الآونة الأخيرة تراجعاً حاداً، وللوقوف على ذلك، نستند إلى تميز “جوزيف ناي” بين ثلاث مجالات لتحولات القوة: [20]
في المجال العسكري يعتبر أن الولايات المتحدة لا تزال القوة المهيمنة بلا منازع؛ وفي المجال الاقتصادي: أصبحت الولايات المتحدة فاعلا من بين عدة فواعل رئيسية أخرى، وفقدت هيمنتها المطلقة على القضايا الاقتصادية العالمية التي يتم التعامل معها وفقا لأليات متعددة الأطراف؛ وفي المجال الثالث الذي يتضمن قضايا تتراوح من المشاكل البيئية العالمية إلى الاسباب الاجتماعية للإرهاب وانتشار الأوبئة … الولايات المتحدة هي مجرد فاعل من بين العديدين ولا تملك دوراً مميزاً وخاصاً بالقوة المهيمنة.
من جانب أخر، أشار فريد زكريا في دراسته “عالم ما بعد أمريكا”، إلى أن الولايات المتحدة لا تزال قوة عظمى وحيدة على المستويين السياسي والعسكري، إلا أن المجالات الأخرى الصناعية، المالية، التعليمية، الاجتماعية والثقافية على السواء كلها، تتحول بعيداً عن وضع الهيمنة الأمريكية وأنه إذا كانت قوة الولايات المتحدة ليست إلى زوال فإنها تنتظر من يزحمها. [21]
تراجعت الهيمنة الأمريكية وبالأخص في منطقة آسيا-الباسيفيك، نتيجة التحديات التي أفرزتها بيئة القرن الحادي والعشرين، كان أبرزها الصعود الصيني المفاجئ والسريع، والذي خلق ارتباك إستراتيجي لدى صانعي القرار الأمريكيين حول كيفية استجابة الملائمة لهذا الصعود. عملت الولايات المتحدة على تنويع سياستها وإستراتيجيتها لاستعادة هيمنتها في المنطقة، فكانت إستراتيجية إعادة التوازن أبرز الاستجابات لهذا الصعود. تظهر أهمية هذه الإستراتيجية في أنها عبارة عن نهج مختلط نتاج الخطاب الأمني القومي الهادف للحفاظ على المكانة الأمريكية المهيمنة، كما أعطت مثلا لتفسير أوباما للاستثنائية التي تصبغ نهجه للقيادة والقوة الأمريكية.[22]
فلم تهدف الولايات المتحدة من خلال هذه الإستراتيجية إلى تعزيز نفوذها وتأثيرها الجيوبوليتيكي في آسيا-الباسيفيك فقط، ولكن أيضا إلى إعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية كقوة آسيو-باسيفيكية وإنكار هذا الدور للصين.[23] إذ بعد الحرب الباردة، أصبح تصور الولايات كقوة باسيفيكية أكثر علانية، وهذا لمنح التبرير لاستمرارية هيمنتها، وفي اعتقاد الولايات المتحدة أن إعادة التركيز على آسيا- الباسفيك وتصوير نفسها أنها قوة باسيفيكية دائمة، يساعدها في الحفاظ على تواجدها العسكري في المنطقة.[24]
ورغم تجذرها العميق في العلاقات الدولية لمنطقة آسيا -الباسيفيك والديناميكية الاقتصادية في المنطقة، فإن الولايات المتحدة لم تستطع فرض هوية “آسيوية”. وبالرغم من الخلفية الآسيوية لشخصية أوباما، إلا أن إدارته لم تنجح في إقناع الأمريكيين بهويتها الاسيو-باسيفيكية، فلطالما اعتبر صناع القرار الأمريكيين منطقة جنوب شرق آسيا تتكون من فواعل أجنبية وأخرى أقل شأناً، ويتعاملون مع الدول الآسيوية كتابعين بدلا من دول متساوية معهم. [25]
أثار هذا الفشل الشكوك لدى العديد من الدول الآسيوية بخصوص قدرة واشنطن على الوفاء بالتزاماتها اتجاه المنطقة. كما أن، الحكومات الآسيوية ليست متفائلة بشأن القيادة الأمريكية المستقبلية في المنطقة، خاصة بعد تشكيك ترامب في أهمية التحالفات الأمريكية في آسيا واستيائه من عدم دعم حلفاء الولايات المتحدة (اليابان، كوريا الجنوبية) لنظام الدفاع الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة، وتبنيه للرؤية الانعزالية من خلال شعار “أمريكا أولا”، كل هذا يدفع للتساؤل حول استمرارية وجدية الالتزامات الأمريكية اتجاه شركائها بآسيا-الباسيفيك.
ضف إلى ذلك، أصبحت تكاليف استضافت حلفاء الولايات المتحدة للقواعد العسكرية الأمريكية على أراضيهم عالية جدا. ففي اليابان مثلا، أصبح الوجود العسكري الأمريكي في جزيرة أوكيناوا بؤرة توتر بين السكان والحكومة اليابانية. فمن جهة، ترغب طوكيو في ضمان التزام أمني أمريكي دون انقطاع، ومن جهة أخرى، تريد تخفيف العبء على السكان المحليين بسبب استضافتها لتلك القواعد.
من جهة أخرى، فإن افتقار واشنطن إلى الوضوح بشأن التزاماتها الأمنية اتجاه آسيا، جعل قادة المنطقة يفكرون في فك ارتباطاتهم معها، على غرار الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيري R. Duterte الذي هدد بتعزيز علاقاته مع بكين والتخلي عن الولايات المتحدة. كما أن عجز الأسطول البحري الأمريكي في ردع تنامي القوة الصينية في بحر الصين الجنوبي والشرقي، جعل واشنطن تفشل في التوضيح لشركائها وكذا الصين، بأنها تملك من الموارد اللازمة لتبقى قوة دائمة في آسيا.
الفرع الثالث: تنامي تهديد الصعود الصيني للهيمنة الأمريكية
إن الصعود الصيني أصبح بمثابة اختبار للبراعة العسكرية الأمريكية والتزاماتها الأمنية اتجاه حلفائها الآسيويين، إلى جانب تهديده للمكانة الأمريكية في آسيا. فالصين أصبحت أكبر شريك تجاري لاتحاد الاسيان، متجاوزة بذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويتجلى ذلك في الصفقات الاستثمارية المربحة التي تربط الصين بكل من الفلبين وماليزيا على وجه التحديد.
من الناحية العسكرية، وتماشيا مع المكانة الإقليمية والعالمية التي تطمح الصين لبلوغها، استغلت هذه الأخيرة النمو المتسارع لاقتصادها لدعم ميزانية مختلف قواتها العسكرية خلال العقدين الماضيين، وتزويدها بأحدث التجهيزات العسكرية بما يضمن فاعلية أدائها على كافة الأصعدة.
أولا- القوات البحرية لجيش التحرير الشعبي : على مدى العقد الماضي، تم منح القوات البحرية لجيش التحرير الشعبي (PLAN) أهمية قصوى مقارنة بالأقسام العسكرية الأخرى الصين، تعد هذه القوات المسؤولة بشكل أساسي على دعم الامن البحري والحفاظ على السيادة الذاتية على البحار الإقليمية المطالب بها. [26] منذ سنة 2000، عرفت هذه القوات توسيعات كبيرة تضمنت: 79 مقاتلات برية، 55 غواصة، 55 سفينة برمائية و85 صاروخ مجهزة بمقاتلات صغيرة.[27]
كما زودت البحرية الصينية بالطرادات الحربية من نوع (FFL)؛ وهي نوع من السفن الجديدة صممت لتنفيذ العمليات البحرية في المياه الساحلية، وتمتاز بأنها عبارة عن زوارق مراقبة للصواريخ سريعة المناورة والمتواجدة في جميع أنحاء بحر الصين الشرقي والجنوبي.[28]إلى جانب إعطاء أهمية كبرى لتحسين الممتلكات تحت البحار، فلطالما اعتبرت الصين الغواصات جزء إستراتيجي رئيسي للردع الإقليمي.[29] فمنذ التسعينات، اشترت الصين 12 غواصة هجومية روسية تعمل بالوقود غير النووي، كما قامت بضم 40 غواصة إلى أسطولها.
إضافة إلى تنامي القدرات والقوات البحرية لجيش التحرير الشعبي، حققت البحرية الصينية تقدم كبير في مجال التحسين التكنولوجي لأسطولها، فعلى سبيل المثال، زودت مدمرات الصواريخ الموجهة بأنظمة إطلاق رأسية وأنظمة رعاية صينية التي تجعل دفاعها الجوي أكثر فعالية. [30]
ثانيا- سلاح المدفعية الثاني لجيش التحرير الشعبي: يعتبر سلاح المدفعية الثاني لجيش التحرير الشعبي (PLASAF) ثاني أهم تنظيم فرعي للقوات المسلحة الصينية، حقق تحسينات كبيرة في قدراته الدفاعية ويعد القوة المركزية للردع الإستراتيجي الصيني.[31] يعتبر هذا التنظيم المسؤول الأول عن القوى الصاروخية النووية والتقليدية، وكذا المسؤول عن ردع الفواعل الدولاتية الأخرى من استخدام السلاح النووي ضد الصين. [32]
خلال الحقبة الماضية، طوّر هذا التنظيم نظام الصواريخ العتيق لفائدة توسيع أسطوله، في 2007، طورت من 1990 إلى 1070 صاروخ باليستي قصيرة المدى؛ في 2008، قامت بحيازة مجموعة صغيرة من الصواريخ الجديدة التي تعمل بالوقود الصلب، الطرق البرية والعابرة للقارات؛ في 2009: قامت بإنتاج من 1050 الى 1150 صاروخ باليستي قصيرة المدى ؛ في2010: نشرت من 200 الى 500 صاروخ كروز للهجوم البري؛ وفي جانفي 2010، أجرت الصين أول اختبار ناجح لنظام الدفاع الصاروخي؛ و في2011، كان بحيازة الصين عدد كبير من الصواريخ بعيدة المدى ،وبدأت في تطوير الصواريخ الباليستية المضادة للسفن والتي دعمت القوات الصينية للقيام بهجمات على السفن الكبيرة بغرب المحيط الهادئ.[33]
ثالثا- القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي (PLAAF): تعتبر هذه القوات ثالث أهم تنظيم فرعي للقوات المسلحة الصينية، يعد العنصر الأساسي للصين للقيام بعمليات الجوية، فضلا عن أنه المسؤول الرئيسي للحفاظ على الامن الجوي الإقليمي للصين والحفاظ على وضع دفاع جوي إقليمي متين[34] .عرف هذا التنظيم سلسلة من التحولات والتحديات لأسطوله كان من أهمها:
في 2000، تم حيازة ألف قاذفة قنابل وطائرات الدعم الجوي وبتبني الولايات المتحدة لسياسة إعادة التوازن، قامت الصين بامتلاك ترسانة جوية أكثر قوة.
في 2007، نشرت العديد من الطائرات الجديدة ذات التكنولوجيا الحديثة، كطائرة F10 وهي طائرة عملية متعددة الأدوار. كما بدأت في تطوير ونشر طائرة مقاتلة مساعدة من أجل التزود بالوقود، جمع المعلومات أو القيام بأدوار أخرى.[35]
في 2011، تم تحديث أسطول قاذفة القنابل من طراز B-6، كما طورت أنواع عدة من طائرات نظام الإنذار المبكر ونظام التحكم AWACS. وفي جانفي من نفس السنة، كانت الصين قد اختبرت طائرات مقاتلة أحدث، تمتلك تكنولوجيا حديثة وخصائص التخفي. [36]
رابعا-تعزيز القدرات الفضائية: إلى جانب عصرنة قواتها البحرية والجوية، والبرنامج الصاروخي، قامت الصين بتحسين قدراتها الفضائية. في جانفي 2007، نجحت الصين في اختيار السلاح المضاد للقمر الصناعي (ASAT).[37] والوظيفة الجوهرية لهذا السلاح هي التدمير الإستراتيجي للأقمار الفضائية، الشيء الذي أثار مخاوف الدول المجاورة للصين وكذا الولايات المتحدة.
إلى جانب ذلك، تضمن تطوير القدرات العسكرية الفضائية إنشاء نظام الملاحة الموضعي العالمي والذي يطلق عليه اسم Beidou. خلال الحقبة الماضية، نجحت الصين في التأسيس لنظام إبحار إقليمي بعد نشرها لثلاثة أقمار صناعية من نوع Beidou ما بين أكتوبر 2000 وماي 2003 [38]. وبحلول 2012، كانت الصين قد نشرت ستة أقمار صناعية للملاحة من نوع Beidou و11تطبيق جديد مدني وعسكري لجهاز التحسس؛ والتي ساعدت الصين للتأسيس لشبكة ملاحية وموضعية داخل منطقة آسيا-الباسفيك.
للإشارة فإن، نظام Beidou هو نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية الصينية؛ يتكون من مجموعتين منفصلتين من الأقمار الصناعية. يعرف النظام الأول رسميا بالنظام التجريبي للملاحة الفضائية أو Beidou-1؛ يتكون من ثلاثة أقمار صناعية دخلت الخدمة منذ سنة 2000، تقدم خدمات محدودة لتغطية الأحداث أو الملاحة بشكل أساسي للمستخدمين الصينيين والمناطق المجاورة. ويعرف النظام الثاني بنظام Beidou لملاحة الأقمار الصناعية (BDS) ويعرف أيضا بـ Beidou-2 أو Compass، ودخل حيز الخدمة في ديسمبر 2011، ومنذ ديسمبر 2012 أصبح يقدم خدمات للعملاء بمنطقة آسيا-الباسفيك. [39]. في 30 مارس 2015، أطلقت الصين القمر الثالث لنظام Beidou وسمي بـ Beidou-3، وبحلول جانفي 2018، تم إطلاق تسعة أقمار صناعية من هذا الطراز، ومن المتوقع أن يتألف هذا النظام من 35 قمراً صناعياً في النهاية ويقدم خدمات عالمية عند اكتماله سنة 2020. من المنتظر عند الانتهاء منه بصفة نهائية، أن يقدم Beidou نظاما عالميا لملاحة الأقمار الصناعية بديلا عن نظام التموضع العالمي (GPS)، الذي تستحوذ عليه الولايات المتحدة وأكثر دقة منه.
هذه الأقمار الصناعية الستة هي جزء من خطة كبيرة، ستسمح للصين بامتلاك نظام التموضع العالمي GPS خاص بها، وبذلك تصبح مستقلة في نظام التموضع العالمي للولايات المتحدة. إلى جانب ذلك، تخطط الصين لان يصبح نظامها عمليا بحلول سنة 2020.[40]وحسب صحيفة الصين اليومية China Daily، فإنه وبعد مرور 15 سنة على إطلاق نظام الأقمار الصناعية، حققت الصين مبيعات بقيمة 31.5 مليار دولار سنويا لكبرى الشركات كالشركة الصينية للصناعة وعلوم الفضاء.
وفي إطار تراجع المكانة الأمريكية في منطقة آسيا-الباسيفيك، حذر تقرير جديد بعنوان «تجنب الأزمة: الإستراتيجية الأمريكية والإنفاق العسكري والدفاع الجماعي في المحيط الهندي والهادئ”، أصدره مركز دراسات الولايات المتحدة لجامعة سيدني الأسترالية، من أن إستراتيجية الدفاع الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ والهندي تشهد أزمة غير مسبوقة، ويمكن أن تفشل في الدفاع عن حلفائها في مواجهة الصين. وتوصل التقرير إلى أربع نقاط رئيسية:[41]
أولا- لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالأولوية العسكرية في منطقة المحيط الهادئ والهندي وتراجع قدرتها في الحفاظ على توازن قوى ملائم غير مؤكدة على نحو متزايد، هذا الواقع الصارخ الذي تواجهه إستراتيجية الدفاع الأمريكية راجع إلى:
التأثير المشترك للحروب المستمرة في الشرق الأوسط؛ تقشف الميزانية؛ قلة الاستثمارات في القدرات العسكرية المتطورة ونطاق أجندة بناء النظام الليبرالي الأمريكي وعدم تهيأت القوات المسلحة الأمريكية لمنافسة القوى العظمى في المحيط الهادئ والهندي.
تقويض أنظمة التدخل المضادة الصينية قدرة أمريكا على استعراض القوة في المحيط الهادئ-الهندي، وهو ما يوضحه المنحنى البياني رقم 06.
من المحتمل أن تحد الذهنية القديمة لمؤسسة السياسة الخارجية من قدرة واشنطن على تقليص الالتزامات العالمية الأخرى، أو إجراء المقايضات الإستراتيجية اللازمة للنجاح في منطقة المحيط الهندي-الهادئ.
لهذا، تهدف إستراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي لسنة 2018، معالجة أزمة الإفلاس الإستراتيجية Strategic In Solvency بتكليف القوات المشتركة للإعداد لحرب عظمى واحدة بدلا من الصراعات الصغيرة المتعددة، إلى جاني دفع الجيش إلى إعطاء الأولوية لمتطلبات الردع اتجاه الصين.
ثانيا- خلال العقد المقبل، من غير المحتمل أن تفي ميزانية الدفاع الأمريكية باحتياجات الدفاع الوطني بسبب مجموع الضغوط السياسية، المالية والداخلية، وهذا بسبب:
تعرض ميزانية الدفاع الأمريكية لما يقارب من عقد إلى التمويل المتأخر وغير المتوقع.
إخفاقات الكونغرس المتكررة في تمرير ميزانيات منتظمة ومستدامة، أعاقت من قدرة البنتاغون على تخصيص الموارد والتخطيط بشكل فعال على المدى الطويل.
تزايد الحزبية والاستقطاب الأيديولوجي داخل وبين الحزبين الرئيسيين في الكونغرس، سيجعل من الصعب التوصل إلى توافق الآراء بشأن أولويات الإنفاق الفيدرالي.
مواجهة الولايات المتحدة عجزاً متزايد ومستويات مرتفعة من الدين العام، والعمل السياسي لتصحيح هذه التحديات لا يزال بطيئاً حتى الآن.
ثالثا: الولايات المتحدة ليست جاهزة بشكل كاف أو مجهزة لمنافسة القوى العظمى في المحيط الهادئ والهندي، وهذا بسبب:
عشرون سنة من القتال شبه المستمر وعدم استقرار الموازنة أدى إلى تأكل استعدادية القوات الرئيسية في سلاح الجو الأمريكي، البحرية، الجيش ومشاة البحرية.
ارتفاع الحوادث العسكرية واستخدام المعدات القديمة، وقدم المنصات العسكرية وارتفاع تكاليف صيانتها.
تعرض العديد من القواعد الأمريكية وقوات التحالف في منطقة المحيط الهادئ-الهندي إلى الهجمات الصاروخية الصينية إلى جانب الافتقار للبنية التحتية الصلبة.
يجري اختبار مفاهيم عملياتية وقدرات جديدة في منطقة المحيط الهادئ-الهندي.
رابعا: أصبحت إستراتيجية الدفاع الجماعي ضرورية بشكل مستعجل كوسيلة لتعويض النقص في القوة العسكرية الإقليمية الأمريكية ومواجهة القوة الصينية المتصاعدة، وهذا من خلال:
متابعة تجميع القدرات والردع الجماعي في المحيط الهادئ والهندي مع الحلفاء والشركاء الإقليميين.
إصلاح أليات التنسيق بين الولايات المتحدة وأستراليا للتركيز على تعزيز أهداف الردع الإقليمي.
إنشاء مناورات عسكرية جديدة وتوسيع نطاق المناورات العسكرية الحالية مع الحلفاء والشركاء، لتطوير وإظهار مفاهيم عملياتية جديدة لحالات غير المتوقعة في منطقة المحيط الهادئ والهندي.
تحسين الموقف الإقليمي والبنية التحتية والشبكات اللوجيستي. [43]
إلى جانب ذلك، سلط التقرير الضوء على المجالات التي يتقدم فيها الجيش الصيني خطوات كبيرة مقارنة بالولايات المتحدة وحلفاءها وشركائها الآسيويين وأهمها القوة الصاروخية،
المطلب الثاني: إستراتيجيات تأمين الهيمنة الأمريكية اتجاه الصعود الصيني
يظهر التاريخ مدى صعوبة محافظة القوة المهيمنة على موقعها، فبعد عقد كامل من الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة، تآكلت تلك المكانة واهتزت نتيجة عدة أزمات وتزامنا مع بروز العديد من القوى الصاعدة (الصين، عودة روسيا القيصرية، الهند، اليابان). في إستراتيجيتها للأمن القومي لسنة 2010، أشارت الولايات المتحدة إلى تعاظم قوة ودور بعض القوى الصاعدة، وأكدت على ضرورة تعميق الشراكة معها من أجل بلوغ نظام عادل ومستدام وترقية الامن المشترك والرفاهية، وكذا تشجيع تلك القوى على لعب دور أكبر من
وبغية حفاظ القوة المهيمنة على هيمنتها والتحكم في سلوك القوى الصاعدة وضبط مسار صعودها وأثاره، برزت عدة محاولات لوضع إستراتيجيات من طرف القوة المهيمنة المتراجعة التي تواجه دولة صاعدة