مع احتدام الأزمة السياسية في سريلانكا إثر تصاعد حدة الاحتجاجات المناهضة للنظام الحاكم والسياسات الاقتصادية التي يتبناها، وما صاحب ذلك من حالة فوضى إثر هروب الرئيس السريلانكي “جوتابايا راجاباكسا” من بلاده، وسيطرة المحتجين على العديد من المقار الحكومية؛ تصاعدت التساؤلات التي تحاول الوقوف على أبعاد المقاربة الصينية إزاء هذه التطورات، ومدى إمكانية تجاوز الصين حالة الترقب الحذر الحالية إزاء الأزمة، والانخراط والتعاطي بدرجة مكثفة مع الأحداث، وخاصةً أن الصين عززت نفوذها داخل سريلانكا خلال السنوات الماضية حتى بات ينظر إليها باعتبارها أحد الفاعلين الرئيسيين في المشهد السريلانكي، ناهيك عن اتهامها بأنها أحد المُسببين الرئيسيين للأزمة في ضوء سياسة “الإغراق بالديون” التي تبنتها في السنوات الأخيرة مع سريلانكا.
سياسة الانتظار
بالرغم من الحضور الصيني المتزايد في سريلانكا، خلال السنوات الماضية، جاء الموقف الصيني تجاه تصاعد الأحداث في سريلانكا، عقب اقتحم آلاف المتظاهرين مقر رئاسة الجمهورية يوم 9 يوليو الجاري، ثم إعلان رئيس الجمهورية “جوتابايا راجاباكسا” عن تنحيه، على درجة كبيرة من الحذر؛ حيث آثرت بكين تبني سياسة التريث والترقب، وظهر ذلك الأمر مع أول تعليق من وزارة الخارجية الصينية على الأحداث في يوم 11 يوليو الجاري؛ أثناء المؤتمر الصحفي اليومي للمتحدث باسم الوزارة “وانج ون بين”. وفي هذا الإطار، يكشف الموقف الرسمي الصيني تجاه الأزمة السريلانكية عن عدد من الأبعاد الرئيسية:
1– تأكيد أولوية الاستقرار الداخلي: شغلت مقولة “الاستقرار” حيزاً كبيراً في الخطاب الصيني الرسمي تجاه تطورات الأزمة داخل سريلانكا؛ ففي تعليقه على الأزمة، خلال مؤتمر صحفي يوم 11 يوليو الجاري، قال “وانج ون بين” إن “الصين تراقب عن كثب آخر التطورات في سريلانكا. بصفتنا جاراً صديقاً وشريكاً في التعاون، نأمل بصدق أن تضع جميع القطاعات في سريلانكا في الاعتبار المصالح الأساسية لبلدها وشعبها، وأن تعمل معاً في تضامن للتغلب على الصعوبات الحالية، والسعي إلى استعادة الاستقرار وتنشيط الاقتصاد وتحسين سبل عيش الناس في وقت مبكر”. وأعاد “بين” تأكيد مقولة الاستقرار، يوم 14 يوليو الجاري، حينما طالب كافة المؤسسات والشعب السريلانكي بالعمل المشترك من أجل “استعادة الاستقرار”.
2– طرح حزمة من المساعدات العاجلة لسريلانكا: ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، في 15 يوليو الجاري، أن بلاده “تولي الصعوبات والتحديات التي تواجهها سريلانكا اهتماماً كبيراً، وتقدم دائماً الدعم للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في سريلانكا متى كان ذلك ممكناً”، وأعلن أيضاً عن اعتزام بكين تقديم 500 مليون يوان (نحو 74 مليون دولار أمريكي) مساعدةً إنسانيةً طارئةً إلى سريلانكا، مضيفاً أن الصين قدمت أيضاً دفعات متعددة من مختلف أنواع المساعدة للناس في أنحاء سريلانكا لتحسين حياتهم.
3– التعبير عن الاستعداد لتخفيف عبء الديون: أعلن المتحدث باسم الخارجية الصينية “وانج ون بين”، أنه بعد فترة وجيزة من إعلان الحكومة السريلانكية تعليق مدفوعات الديون الدولية، تواصلت مؤسسات مالية صينية مع سريلانكا وأعربت عن استعدادها لإيجاد طريقة فعالة للتعامل مع الديون المستحقة للصين. وقال وانج إن الصين مستعدة للعمل مع الدول والمؤسسات المالية الدولية ذات الصلة لمواصلة القيام بدور في دعم سريلانكا وفي تخفيف عبء الديون. لكن تقديرات شككت في هذا التوجه الصيني، وقرأته على أنه مجرد مناورة سياسية مرتبطة بالتطورات، خصوصاً أن سريلانكا عندما خاطبت الصين بشأن إعادة هيكلة وجدولة الديون، عرضت الصين تقديم المزيد من الديون لسداد الديون المتخلفة؛ الأمر الذي يسُاهم في المزيد من الإغراق للبلاد وفق تقديرات اقتصادية.
4– الترويج للدور الإيجابي للصين في الاقتصاد السريلانكي: في مقابل الانتقادات التي توجه إلى الصين على خلفية سياسات الإقراض التي تتبناها مع سريلانكا وغيرها من الدول النامية، حاولت بكين الترويج لدورها الإيجابي في الاقتصاد السريلانكي، وظهر ذلك في مقال منشور، يوم 11 يوليو الجاري، بصحيفة china daily التي تعبر بدرجة كبيرة عن الموقف الرسمي للنظام الصيني، حينما ذكر المقال أنه “حاول بعض السياسيين الغربيين بدوافع خفية إلقاء اللوم على الصين في الوضع السيئ في سريلانكا، زاعمين أن قروضها الضخمة للبلاد قد جرَّتها إلى فخ الديون… ولكن مع ذلك خدمت قروضها على نحو رئيسي البنية التحتية والتنمية الاقتصادية في سريلانكا”.
محددات جوهرية
يرتبط هذا الموقف الصيني مما يجري في سريلانكا بعدد من المحددات الرئيسية المرتهنة في المقام الأول بالمصالح الصينية، التي يمكن تناولها على النحو الآتي:
1– مواجهة الخطاب الغربي المناهض للصين: اللافت أن الكثير من التحليلات ربطت بين الأزمة في سريلانكا وسياسات الإقراض الصينية؛ حيث إن أحد الاعتبارات الرئيسية التي أوصلت سريلانكا إلى حالة الانهيار الاقتصادي والفوضى الحالية، ارتبط بسياسة الاستدانة غير المدروسة التي تبنتها السلطات السريلانكية في السنوات الأخيرة؛ ما وضع البلاد تحت وطأة دين خارجي لدول عديدة، خصوصاً أن سريلانكا لم تستفد من هذه المنح والديون، لا سيما مع تضرر القطاعات الخدمية السريلانكية، وتراجع عائدات قطاع السياحة، وحالة الركود العالمي التي صاحبت جائحة كورونا. في هذا السياق تعتبر الصين الدائن الأول الخارجي لسريلانكا؛ إذ تستحوذ على نسبة 10% من الديون الخارجية على سريلانكا، ومع عدم قدرة السلطات السريلانكية على سداد هذه الديون بدأت الصين تستحوذ على بعض الأصول الحكومية مثل ميناء هامبانتوتا الاستراتيجي؛ الأمر الذي صعد الاتهامات الموجهة إلى الصين من دوائر سريلانكية وغربية بالسعي إلى السيطرة على سريلانكا عبر فخ الديون.
وفي هذا الإطار، سعت بكين عبر موقفها المعلن إزاء الأزمة السريلانكية إلى تقويض الخطاب الغربي المناهض لها، الذي يحاول تحميل الصين مسؤولية الأزمات الاقتصادية في بعض الدول النامية، مثل سريلانكا، من خلال إغراق هذه الدول بالديون. لقد ظهر هذا التوجه، على سبيل المثال، في تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانج ون بين”، يوم 14 يوليو الجاري، حينما ذكر أن “نحو ثلاثة أرباع الديون الخاصة بالدول الأفريقية مستحق لمؤسسات متعددة الأطراف ودائنين من القطاع الخاص غير صينيين”، وأضاف: “تُظهر هذه الحقائق والبيانات أن ما يسمى فخ الديون الصينية هو مجرد معلومات مضللة وفخ سردي خلقه أولئك الذين لا يأملون زيادة سرعة التعاون الصيني الأفريقي”.
2– البحث عن حلفاء جدد في المشهد السريلانكي: لا يمكن إغفال أن السياسة الحذرة التي تتبناها بكين تجاه الأزمة السريلانكية تعكس، في جانب منها، تخوف بكين من التحولات الممكنة في القوى السياسية المسيطرة على المشهد داخل سريلانكا، وخاصة أن عائلة راجاباكسا كانت مقربة جداً من بكين، ومن ثم عملت على تعزيز النفوذ الصيني في الدولة عبر منحها العديد من المشروعات. وعطفاً على هذا، يبدو أن الصين تتحسس خطواتها في الوقت الراهن للبحث عن حلفاء جدد داخل سريلانكا يمكن من خلالها الحفاظ على النفوذ الصيني، وتجنب الإضرار بمصالحها، أو بمعنى آخر، الإبقاء على الحضور الصيني في الدولة على أقل تقدير للتعرف على مصير القروض والمشروعات الصينية داخل سريلانكا.
3– استيعاب الغضب الداخلي من الدور الصيني: وهو محدد هام يفسر – ولو جزئياً – السياسة الحذرة التي تتبناها بكين تجاه الأزمة في سريلانكا؛ فعقب الإطاحة بالرئيس السريلانكي تصاعدت حدة الانتقادات للدور الصيني داخل سريلانكا، وخاصة من جانب المعارضة. فعلى سبيل المثال، أشارت النائبة المعارضة في البرلمان السريلانكي “هاريني أماراسوريا”، في تصريحات صحفية لموقع أخبار الآن يوم 17 يوليو الجاري، إلى أن المشروعات الصينية في البلاد لها دور كبير في الأزمة؛ حيث اعتبرت أن “هذه المشروعات لم تحقق أي عائدات مالية، بل خلقت مشكلة بنيوية قوامها تبدل نمط عيش السريلانكيين بما يتنافى وحقيقة واقعهم”. ولفتت “أماراسوريا” إلى أن “هذه المشاريع الصينية لم تساهم في دعم اقتصاد البلاد”.
لقد سعت بكين إلى استيعاب وامتصاص هذا الغضب الداخلي من خلال الإعلان عن تقديم حزمة مساعدات عاجلة لسريلانكا، كما كشف المتحدث باسم الخارجية الصينية “وانج ون بين”، عن استعداد بكين لإيجاد طريقة فعالة للتعامل مع الديون المستحقة للصين، والعمل مع الدول والمؤسسات المالية الدولية لمواصلة القيام بدور إيجابي في دعم سريلانكا وفي تخفيف عبء الديون.
4– استمرار ديناميات الصراع على النفوذ مع الهند: ليس من المرجح أن تبتعد الصين كثيراً عما يجري في سريلانكا؛ لاعتبارات متعلقة بديناميات الصراع على النفوذ مع الهند؛ إذ شهدت السنوات الماضية مساعي مكثفة من الطرفين من أجل توسيع دوائر نفوذهما داخل سريلانكا؛ فالهند تنظر إلى سريلانكا باعتبارها إحدى مناطق نفوذها الحيوي وامتداداً ثقافياً وتاريخياً لها، ولعل هذا ما أكده بيان وزارة الخارجية الهندية، يوم 10 يوليو الجاري، الذي شدد على وقوف الهند بجانب الشعب السريلانكي، وأضاف: “الهند هي الجار الأقرب لسريلانكا، ويشترك بلدانا في روابط حضارية عميقة”.
وفي المقابل، تتعاطى الصين مع سريلانكا بوصفها نطاقاً مهماً لتحركاتها الإقليمية الهادفة، في جانب منها، إلى تقويض النفوذ الهندي وإضعاف الحضور الإقليمي لنيوديلهي. ومن ثم، ستظل هذه المعطيات محدداً هاماً في السياسة الصينية تجاه سريلانكا، وهو ما يعني أنها لن تترك سريلانكا في مرحلة ما بعد “جوتابايا راجاباكسا” للهند كي تكرس لنفوذ منفرد هناك.
5– التخوف من تكرار النموذج السريلانكي في مناطق أخرى: إذ لا تنظر بكين بارتياح كبير إلى ما يجري في سريلانكا؛ لاعتبارين رئيسيين؛ أولهما المبدأ المستقر في السياسة الخارجية الصينية المستند إلى رفض أي إسقاط للأنظمة الحاكمة؛ لأنه يعني – بطريقة أو بأخرى– إيجاد المزيد من السوابق والحالات المرجعية في العلاقات الدولية التي يمكن استخدامها مدخلاً ضد حكومات دول أخرى، بما في ذلك الصين التي تتعرض، بين الحين والآخر، لانتقادات غربية على خلفية قضايا حقوق الإنسان.
ويتصل الاعتبار الثاني بإمكانية تكرار النموذج السريلانكي في دول نامية أخرى لها علاقات اقتصادية مع بكين؛ فالأزمة الاقتصادية الدولية الراهنة تفرض ضغوطاً هائلةً على الكثير من الدول في أفريقيا وآسيا، وهي الدول التي عملت الصين خلال السنوات الماضية على بناء علاقات اقتصادية وسياسية موسعة معها، لا سيما عبر بوابة الإقراض والديون. ومن ثم فإن احتمالية تكرار السيناريو السريلانكي في العديد من هذه الدول سيؤدي بالتأكيد إلى نتائج كارثية بالنسبة إلى الصين؛ لأنه يضعها في مواقف أكثر ضبابية، سواء فيما يتعلق بكيفية سداد الديون المستحقة لها، أو حتى فيما يتعلق بنفوذها السياسي الذي قد يتقلص بفعل تغير الأنظمة الحاكمة.
في الختام.. يمكن القول إن النهج الصيني الحالي في التعامل مع الأزمة السريلانكية يغلب عليه “الحذر والترقب”، وهو الأمر الذي يرجع إلى عدم الرغبة في الانخراط في الأزمات السياسية الخاصة بدول الجوار، والتقديرات التي ترى أن أولويات الصين في الفترة الراهنة تتجه صوب جنوب شرق آسيا وأفريقيا، لكن توظيف دوائر سريلانكية وغربية للأزمة من أجل الضغط على الصين وتشويه صورتها ربما يكون دافعاً لبكين إلى ممارسة دور أكبر على مستوى الأزمة السريلانكية الراهنة، بما يحافظ على حضورها ونفوذها في سريلانكا، لا سيما أن الأخيرة تعتبر مهمة بالنسبة إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية