https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلف :هاشم شفيق ارتبط الاستشراق العالمي، ومنذ عصور ليست بالبعيدة، بالنظرة الكولونيالية لعوالم الشرق، والشرق المعني هنا، ليس تلك الدول الكبيرة، مثل تركيا وإيران، أو الدول المتوسطية مثل اليونان وغيرها، بل المعني هنا هو الدول العربية، الدول التي نشأت وتمخضت عن الاحتلالات الأجنبية، فوِلِدَت مكبلة بإرث طويل من القيود والقوانين والمناسك الاستعمارية. فبلد مثل مصر، كان يرى إليه المستشرقون منذ مطلع القرن الثامن عشر فما فوق، كأنه بلدهم، وكانوا يسرحون ويمرحون فيه، وتحت مسميَّات عديدة: بحّاثة أركيولوجيون، مهندسون ومختصون في الآثار، مدوِّنون في علوم السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، وحتى بحَّاثة فيلولوجيون، يستغورون تاريخ السلالات والأعراق والقبائل. كلهم كانوا يحطون الرحال في البلدان العربية، وخصوصاً البلدان التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية، ومن ثَمَّ هيمن عليها الغرب بعد الحرب العالمية الأولى. بلدان مثل العراق وسوريا وفلسطين والأردن، وكذلك مصر وليبيا واليمن، وصولاً إلى المغرب العربي في مرحلة مبكرة من فجر الاستعمار الفرنسي. لقد لعب المستشرقون في كل هذه الدول دوراً يتسم بالبحث والاستكشاف والتدوين العلمي الذي يصب في مصلحة المستعمر ونظرته الفوقية إلى هذه المدائن التي يعتبرها جزءاً من عالمه، ومن تشكيلاته ومن بنياته على صعيد التشكيل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كما حدث مع العراق وسوريا والأردن وفلسطين بعد عام 1914، صعوداً باتجاه العشرينيات وحتى أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم . وكان يكمن الاستهداف ويشمل المستوى الاقتصادي المتمثل بنهب الثروات، بعد ظهور النفط، ومن ثم البعد التاريخي المتجسِّد في حضارة هذه البلدان العريقة، نهب الكنوز المعرفية والحضارية والآثارية، وفي البعد الاجتماعي تمَّ استهداف الدين الإسلامي كونه ديناً عالمياً واسع الانتشار، ومحاولة خلق عالم آخر مواز له، للحد من مكانته التاريخية والعربية، كما حدث مع فلسطين العربية ومن ثم احتلالها وتقسيمها واحتلالها فيما بعد في الحروب العربية وخساراتها المتوالية، منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وحتى كتابة هذه السطور، حيث الاستيطان الإسرائيلي قائم على قدم وساق، في قضم المزيد من الأراضي العربية الفلسطينية، وضمها بقوة الاحتلال والتواطؤ الدولي والعالمي لدويلة الكيان الإسرائيلي. وعطفاً على العنوان، فإن مناسبة هذا الحديث هي صدور كتاب للناقد والكاتب والمترجم الفلسطيني فخري صالح، يتطرَّق فيه بطريقة بحثية، أدبية وعلمية إلى نوازع الاستشراق الجديد، من خلال دراسة مغايرة ومختلفة في زاوية تناول مفهومة الاستشراق مجدداَ، تلك التي تمَّ حصرها فيما اصطلح عليه بظاهرة الإسلاموفوبيا، وتحديدا كما حددها صالح في «كراهية الإسلام» ملقياً نظرة جديدة ومفارقة لما كان يتناوله من قبله كتاب وباحثون ومفكرون مرموقون تصدوا لظاهرة الاستشراق في عالمنا العربي. كلُّ ذلك قد تجلى عبر أسلوب فكري، علمي ومنهجي، اتسم بالوضوح والدقة والسلاسة، ووفق سياق تتمظهر في فصوله الأدلة الساطعة والبراهين الضافية والحجج الدامغة التي نزعت الهالة عن المستشرقين الجدد الذي ظهروا بعد تاريخ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من عام 2001 لما عرف بهجمات نيويورك داخل أمريكا . الكتاب يتناول في منهجه البحثي ثلاثة من المستشرقين الجدد النازعين إلى التطرف في مبحثهم وموقفهم ونظرتهم للإسلام والعرب، وهم بالتدريج المؤرخ والمستشرق في شؤون الإسلام والشرق الأوسط البريطاني ـ الأمريكي برنارد لويس، والمؤرخ والمستشرق الأمريكي صمويل هنتنغتون، والروائي الترينيدادي من أصل هندي ف. س نايبول، وهو روائي وبحَّاثة ومدوِّن تاريخي، له نظرة متطرفة، قاسية وغير علمية في نظرته للعرب والمسلمين عامَّةً. كما يتناول الكتاب في سياق تحليله المنطقي، طروحات المفكر الياباني فوكو ياما صاحب نظرية «نهاية التاريخ» التي ظهرت بُعَيد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق ومنظومة ما يسمى البلدان الاشتراكية التي كانت تدور في فلكه، بغية تكريس سياسة القطب الواحد ودعمها نظرياً، وعبر انهمام متواصل، عملي ومهني وتعليمي، وعبر توكيدها وتثبيت دعائمها، من خلال شبكة واسعة من العلماء والمفكرين والباحثين الأمريكيين وسواهم من البريطانيين وبعض الأوروبيين والمنضوين تحت أجنحتهم من بلدان أخرى، مثل نايبول الهندي وسواه . لعل أهم ما تصدى له الناقد الفلسطيني، هو ما ورد في نسيج وسياق وتضاعيف كتابَيّ المستشرق والمؤرخ برنارد لويس «الخطأ الذي حصل» و«أزمة الإسلام» اللذين صدرا بعد تساؤل الرئيس الأمريكي بوش الابن «لماذا يكرهوننا؟». ولئن عرف لويس لدى النخب الأمريكية على أنه «بطريرك الإسلام» من خلال تلك النظرة التي كرَّسها في بحوثه وحتى في مذكراته «قرن من الزمن: تأملات مؤرخ متخصِّص في الشرق الأوسط»، فهو أحد المستشرقين العاملين في حقل الأسلمة ومفاهيمها التاريخية منذ وقت طويل يقترب ليكون قرناً من الزمان .لكن انهياره الفكري وحصول تصدُّع في نظريته التاريخية عن الإسلام، حصل بعد عملية نيويورك، ومن ثم احتلال أفغانستان والعراق ليجري ما جرى، من حوادث ومشكلات وأزمات هزَّت العالم وأدخلته في أتون حروب لم تهدأ حتى هذه الحظة، مما دعا برنارد لويس إلى أن ينسجم انسجاماً كاملاً، ويتوافق عملياً ونظرياً وعلمياً، مع التيار الداعي إلى المناداة بصراع الحضارات شرق ـ غرب، دون أن نستثني انحيازه إلى الرؤية الصهيونية، من خلال منهجه العملي في تثبيت كيانها وإرساء معالم الدولة الإسرائيلية. يُفنِّد صالح كل تلك المزاعم، وكذلك النظريات والمفاهيم التي نادى بها وطرحها المستشرق الشهير برنارد لويس في كتابيه هذين المشار اليهما أعلاه، وفي كتابه الأهم وهو مذكراته، ليجملها فخري صالح كخلاصة لدراسته هذه بثلاث نقاط أساسية ومركزية وهامة، أولها: دفاعه المستميت عن الامبراطورية البريطانية، وفخره الدائم كونه أحد أبناء هذه الامبراطورية التي استعمرت واستعبدت شعوباً ودولاً عربية وافريقية وشرقية وآسيوية، وهيمنت عليها وبثت فيها ثقافتها ومعرفتها، من دون أن يشير إلى الهيمنة الاقتصادية والعلمية والسياسية والفكرية والعسكرية، مميزاً في الوقت نفسه الإمبريالية البريطانية، عن غيرها من الإمبرياليات في العالم. ثانيها: ارتباطاته الإسرائيلية وتعاطفه مع الدولة العبرية، وقد أمضى أوقاتاً طويلة في الجامعات ومراكز الدراسات الإسرائيلية، على مدار حياته الأكاديمية والبحثية، دارساً وباحثاً ومُنظراً. ثالثها: علاقته الوطيدة بالإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن، وأعضاء تلك الإدارة ومستشاريها الفاعلين. في مطالع حياته الأكاديمية كان لويس يؤكد على نزاهة وحياد الباحث والمؤرخ عن مجمل القضايا التي يمر بها خلال حياته، ولكنه تنصَّل من ذلك، وخان قوله بانحيازه الملموس إلى السياسة الأمريكية التي عمل في رسمها مع الآخرين، وكانت النتيجة بعبارة صالح «وظف معرفته التاريخية لغايات وأهداف سياسية، ايديولوجية، توجِّه صانع القرار السياسي، مما كان له نتائج كارثية على صعيد السياسة العالمية، أثناء الحربين اللتين شنتهما الولايات المتحدة على افغانستان والعراق» . أما بالنسبة لصمويل هنتنغتون، فإن صالح يوضِح أن هنتنغتون استلهم واستوحى أو استل جملة «صراع الحضارات» من مقال لبرنارد لويس نشر حينها في مجلة «الشؤون الخارجية» الأمريكية، وباعتراف هنتنغتون نفسه، وقد صدر كتابه الشهير «صراع الحضارات، وإعادة صياغة النظام العالمي» بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وأفول الشيوعية وتدهورها في العالم. ولقد طَبَقت شهرته الآفاق بعد ضرب بُرجَيّ مركز التجارة العالمي في نيويورك، من قبل القاعدة وعلى يد اسامة بن لادن الذي صنعته أمريكا نفسها مع القاعدة ابَّان احتلال أفغانستان من قبل الاتحاد السوفييتي سابقاً . يرى الناقد فخري صالح أن هذه النظرية جاءت كونها استراتيجية سياسية جديدة لتحل محل انتهاء نظرية الحرب الباردة. ويضيف: «يمكن لقارئ الكتاب أن يتبيّن تركيز هنتنغتون على الإسلام بوصفه عدوَّاً محتملاً خلال السنوات التالية» . بيد أن صالح بعد تفنيده لأهم الآراء التي وردت في كتاب هنتنغتون، وتحليلها وفق نظرته المكثفة والمركزة والدقيقة، يتحول إلى الروائي نايبول، وهو أشد المنتقدين البارعين قساوة، كونه ينظر للأمور نظرة تحليلية عنصرية، تعتمد التدوين والتسجيل والسفر إلى بلدان الشعوب التي تحوَّلت عبر التاريخ إلى الدين الإسلامي، مستجوباً ووفق منهجه غير المنضبط الذي يعتمد التسجيل والتوثيق لحكايا البشر عبر رحلات استكشافية، لا تخلو من طروحات وأفكار المستشرقين الغربيين، وهو الهندي ذو الثقافة الأنكلوسكسونية، حيث درس في بريطانيا وعاش فيها زمناً، وجاب العالم لكي يبشر بنظرته المتعالية إلى العرب والمسلمين عامةً . في المآل يفكك فخري صالح الصيغ المفاهيمية والأيديولوجية والعنصرية لنايبول، ويعزوها لثقافته ونشأته كهندوسي في مجتمع كان يرفضه في الكاريبي، وتدنّي النظرة له، ليسلط الضوء في النهاية على بعض كتاباته ورواياته، وبالأخص كتابه «بين المؤمنين: رحلة إسلامية، وحرب العصابات ومنحنى النهر»، وكذلك في تصريحاته ومقابلاته الصحافية والتلفزيونية . .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر + 6 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube