كاشف جمال
كاشف جمال: باحث هندي في مركزالدراسات العربية والإفريقية في جامعة جواهرلال نهرو- نيودهلي
اللغة العربية تحظى بمكانة مرموقة بين لغات العالم،باعتبارها اللغة الأم لما يربو على مائة وستين مليونا من المسلمين والعرب في الهند من جانب، وآخر، أنها اللغة المقدسة لما يربو على ألف مليون مسلم في جميع أنحاء العالم، فهي اللغة الأم لسكان العالم العربي، واللغة الثانية لسكان العالم الإسلامي، وثالث لغات العالم من حيث سعة انتشارها وسعة مناطقها، وإحدى اللغات الست التي تكتب بها وثائق الأمم المتحدة، إنها اللغة التي اختارها الله لينزل بها أفضل كتبه على أفضل رسله. وبالتالي فهي إحدى اللغات الحية والمتفاعلة مع باقي لغات الشعوب والأجناس والحضارات. أضف إلى ذلك أن ” اليونسكو” قد اعتمدت يوم 18 ديسمبر من كل عام، يوما عالميا للغة العربية، وأقرت أن هذه اللغة يتحدث بها اثنان وعشرون عضوا من الدول الأعضاء في ” اليونسكو” وهي لغة رسمية في المنظمة
ومما لا شك فيه أن اللغة تؤدي دورا مهما في حياة الأمم وتاريخها بحيث هي ماضيها وحاضرها ومستقبلها وصورتها وفكرها وروحها ومصيرها. ولا وجود لأمة بغير وجود اللغة إذ يتم بها التواصل بين أبناء المجتمع، وعن طريقها يكتسب الناس خبراتهم ومهاراتهم، وتنمو معارفهم، ويرتبطون فيما بينهم، بتراثهم وحضاراتهم، ويتواصلون مع ركب الحضارة والتطور.
اللغة وعاء الثقافة وأقدم تجليات الهوية، على اعتبار أن اللغة المشتركة هي التي تجعل من كل فئة من الناس ” جماعة” واحدة، ذات هوية مستقلة، يزداد الاهتمام باللغة العربية والهوية معا، ويشيع الحديث عنهما، في المفاصل التاريخية في حياة الجماعات، وفي الغالب يتم الربط بينهما ويتماهيان إلى درجة أنهما يكادان يصبحان شيأ واحدا. وبأخذ الاعتبار لأهمية اللغة العربية قد أورد بعض العلماء الأجانب أقوالا عن أهمية اللغة العربية ومكانتها في المجتمعات، حيث قال الفرنسي إرنست رينان:” اللغة العربية بدأت فجأة على غاية من الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس طفولة ولا شيخوخة”، أما الألماني فريتاغ فقال فيها:” اللغة العربية أغنى لغات العالم”.أما الدكتور عبد المعطي الدالاتي فقد أورد أبياتا في اللغة العربية، حيث قال :
لغتي عليا اللغات
قد سمت كالكوكب
جرسها بين اللغات
كرنين الذهب
قد غدت أخت الخلود
بالكلام الطيب
وقد شعر العلماء بأهمية اللغة العربية في كل عصور وركزوا عنايتهم وجهودهم على صفاء هذه اللغة و إثراءها وحفاظة عليها من شوائب الدهر ونفي الغش والزغل عن مفرداتها حيث يقال لم تحظ أي لغة أخرى مثل ما حظيت به اللغة العربية من عناية وجهود جبارة في تلبية متطلبات العصر ومقتضاياتها، حتى أصبحت لغة علمية حية. وفي كلمة أبي العلاء المعري هي لآلئ لا ينبغي أن تختلط بالحصا والتراب حيث قال :
من الناس من لفظة لؤلؤ يبادره اللقط إذ يلفظ
وبعضهم قوله كالحصى يقال فيلغى ولا يحفظ
ولكن في العصر الحاضر، قد واجهت اللغة العربية تحديات ضخمة على مستويات عديدة في نظام العولمة باعتبارها وعاء للثقافة العربية وللحضارة الإسلامية. فالعولمة هي مصطلح أكثر انتشارا وصيتا في كل مجالات الحياة، نعم اللغة أيضا تأتي تحت دائرة التاثير لهذة الظاهرة،فكيف لا؟ حين يأتي خطرالعولمة من هيمنة النظام العالمي الذي يرفض صياغة العالم الجديد متعدد الأقطاب والمراكز والثقافات واللغات.والسوال هنا،ما هي العولمة ؟وما هي أبعادها وتاثيرها على اللغة العربية؟
العولمة:
ان العولمة مصطلح مقاسي يشمل كل مجالات الحياة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية، وإن وجدناه ينسحب أساسا على مضمون اقتصادي، وهي تعنى لغة: الكلية الجغرفية والبشرية ومقوماتها المادية والروحية.
ويرى محمود أمين العالم أن العولمة مفهوم مركب: سياسي إقتصادي ثقافي، يصبح معها الاستتباع كليا والسيطرة عامة: اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا وإعلاميا وإيديولوجيا ولغويا وثقافيا وحضاري .اولعل أحسن تعريف للعولمة ما يذكره عابد الجابري من أنها: ” تعميم الشئ وتوسيع دائرته يشمل الكل، وجعله على مستوى التسخير العالمي، بحيث ينقل من الحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن المراقبة. ويذهب الكثير من الدارسين إلى أن العولمة تعني هيمنة دول المركز وسيطرتها – في ظل نظام عالمي- على بقية الدول الأخرى في جميع المجالات الحيوية كوحدة سيبيرنية موجهة.
ومن هذا المنظور، العولمة تعني سيطرة اللغة القوية على اللغات الأخرى الضعيفة وتهميشها في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، حيث تحل محلها اللغات الأقوى وبصورة خاصة اللغة الإنجليزية .
العولمة هي سلاح ذو حدين، فإما أن تتيح فرصة نوعية لانفتاح الشعوب والثقافات على بعضها البعض لغاية التعريف بالتراث الحضاري والفكري واللغوي والروحي للشعوب، مما يؤدي إلى احترام الحق في الاختلاف والتنوع والاعتراف لكل ثقافة بإسهاماتها في الحضارة الإنسانية الواحدة، أو أنها تؤدي إلى تدمير الثقافات، إذا كانت غايتها إلغاء الآخر بفرض التجانس، مما يؤدي إلى تحويل النتاجات الثقافية إلى سلع تتحكم فيها قوانين السوق.
إن العولمة بمفهومها السلبي هذا إنما تؤدي إلى تطويق الإبداع الأدبي والفني لدى الشعوب ذات الهويات الثقافية المتميزة، كما تهمش الثقافة الوطنية واللغة القومية من خلال فرض لغة وثقافة القطب الاقتصادي الذي ينتج وحده ويفرض لغته وثقافته عبر وسائل الاتصال التي يملكها، وأخيرا فإنها تؤدي إلى تقليص العلاقة بين المثقف والخبرة المباشرة بعمله وبالحياة من حوله، من خلال تقديم كل ما كان يختبره العالم والمثقف بنفسه، جاهزا موثقا فتغنيه عن الانتقال والبحث فيصبح إنسان المستقبل نسخا متطابقة.
مظاهر عولمة اللغات
لقد ظهرت جذور عولمة اللغات مع موجات الاستعمار الإستيطاني في العالم الثالث عامة، وفي العالم العربي خاصة. وقد برزت تلك الهجمات في المظاهر التالية:
– محاولة إلغاء اللسان العربي واستبداله باللسان الإنجليزي، في المشرق العربي، وباللسان الفرنسي في المغرب العربي. ومن أمثلة ذلك القرار الفرنسي لسنة 1949 ونص ترجمته ” لا ننسى أن لغتنا الفرنسية هي اللغة الحاكمة، فإن قضاءنا المدني والجزائي يصدر أحكامه على العرب الذين يقفون في ساحته بهذه اللغة، وبهذه اللغة يجب أن تصدر بأعظم ما يمكن عن السرعة جميع البلاغات الرسمية، وبها يجب أن تكتب جميع القيود، وليس لنا أن نتنازل عن حقوق لغتنا.
-محاولة استبدال اللغة العربية الفصحى باللهجات المحلية،أو كتابتها بالحروف اللاتينية، كماحدث في تركيا والفلبين مع تشجيع أكثر من لهجة في القطر الواحد.
-السعي إلى التقليل من أهمية اللسان العربي باعتباره لغة ثانية في الأقطار المستعمرة آنذاك كما حدث في مصر على لسان المستشرق(وليم ولكوكس) الذي ذهب إلى القول بأن المصري يقرأ بالعربية ثم يترجم ما قرأه إلى العامية، وأن عليه في هذه الحالة أن يرسم العامية بالحروف اللاتينية أو يتبنى اللسان الانجليزي. وكان الهدف من وراء ذلك هو محاولة تشتيت اللسان العربي بين اللهجات الجهوية.
تحديات العصر الحاضر للغة العربية
البحث في تحديات العصر الحاضر للغة العربية له أهمية قصوى،وذلك بأسباب تالية:
-السبب الأول يعود إلى الدين الحنيف، فهذه اللغة وعاء للفكر الإسلامي عبر خمسة عشر قرنا من الزمان، وهي الوسيلة لأداء العبادات وبخاصة الصلوات الخمس وتلاوة القرآن الكريم.
-والسبب الثاني يعود الى أن اللغة العربية لها وظيفة اجتماعية، فهي التي نتواصل بواسطتها من المحيط إلى الخليج، والحفاظ عليها هو السبيل لبقاء التلاحم القومي بين الناطقين بها.
-والسبب الثالث يرجع إلى تراثنا الأدبي المتنوع الذي هو مفخرة لنا، ولا نستطيع التواصل معه إلا من خلال اللغة العربية.
-والسبب الرابع هو سبب إنساني، فاللغة العربية ثروة ثقافية للإنسانية قاطبة،وقد استفادت منها اللغات الأخرى كالعبرية والفرنسية والإنجليزية، واندثار هذه اللغة أو اضمحلالها معناه ذهاب أحد أهم الموارد المغذية للغات الإنسانية.
اللغة العربية دائما واجهت من التحديات والصراعات إما من العوامل الخارجية أو من الداخلية، ولكن أحيانا طبيعة المواجهة تكون شديدة وأخرى تلين. وبناء على ذلك فإن اللغة العربية واجهت في تاريخها أربع محاولات قاتلة، ولكنها خرجت منها أشد شكيمة وأقوى عزيمة، وهذه المواجهات التاريخية هي:
المواجهة الأولى: ظلت اللغة العربية في تصاعد وتفتح مستمرين إلى نهايات العصر العباسي الأول، إذ بدأ الانحلال العام وغياب السلطة العربية فعليا لا اسميا، فلما غابت السلطة بعد ذلك اسميا وفعليا وتحولت بعد غزوالمغول والتتر إلى غير العرب أصاب اللغة ما أصاب الإنسان العربي من ذل وهوان، ودخلت اللغة في نفق مظلم لا يودي إلا إلى الموت. وبرزت الموضوعات الهزيلة، كالبرذونيات مثلا، وصار الشكل جسدا بلا روح وحياة،وانتشرت العامية العربية وسواها في بنية اللغة.
المواجهة الثانية (التتريك): كانت الخلافة العثمانية استمرارا ولو اسميا للخلافة العربية الإسلامية، فحكمت البلاد والعباد في بدء الخلافة على أنهم أصحاب الرسالة السماوية الإسلامية، ولكن الأتراك كانوا يخفون أحقادهم على هذه الأمة، وخاصة في عصر الطورانيين الجدد أصحاب جمعية (الاتحاد والترقي).
المواجهة الثالثة (المستعمر الغربي واللغة العربية): لم تكن حال اللغة العربية مع المستعمر الجديد (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا) بأفضل مما كانت عليه، وإنما كان هذا المستعمر أبعد صبرا وأكثر حنكة وعلما ومعرفة، فسعى إلى هدم اللغة العربية للقضاء على القومية بوساطة اتجاهين: الأول اتجاه المستشرقين المسخرين لهذه الغاية وقد قاموا بدراسة اللهجات وبث السموم والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد،وشجعوا بعض الأقليات بالبحث عن لغات بديلة .
والثاني أن المستعمرين وجدوا من يتعاون معهم من النخبة لهذه الغاية، فقربوهم وأغروهم بالمناصب والمال.
وتعد قصيدة حافظ إبراهيم صورة صادقة عن حالة اللغة العربية في هذا العصر، ومنها قوله :
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
وكم عز أقوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا
فيا ليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي بوادي في ربيع حياتي؟
المواجهة الرابعة (العربية في عصر العولمة): تواجه العربية حالا فريدة، وهي معرضة لهجوم عاصف ومواجهة لم تشهد مثيلا لها من قبل فإما الصمود وإما السقوط، ونحن في حال لا نحسد عليها، ومن صورها الانقسام والتناحر وإقامة الدولة القطرية بديلا من الدولة القومية ذات اللسان العربي، ومما يعزز ذلك كله أن الإحساس القومي بدأ بالتراجع السريع بدلا من التضامن والتعاون للوقوف إزاء الهجمة الضارية التي نتعرض لها من الاستعمارالجديد المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية التي جعل الشرق الأوسط مسرحا لعملياتها، وعسكرت علماءها لضرب الاقتصاد العربي بحجة العولمة. أما اللغة العربية فكان لها النصيب الأكبر من توجيه السهام للقضاء عليها اجتماعيا وبنية، فعلى الصعيد الاجتماعي تراجع اهتمام المجتع والأهل باللغة العربية لمصلحة اللغة الإنكليزية على أساس أنها الضامن الوحيد لمستقبل أفضل لأولادهم.
نعم، التحديات للغة العربية أصبحت خطيرة في ظلال العولمة،وتزداد يوما بعد يوم، فكيف لا؟ إذ العولمة تسعى الى جعل العالم المتعدد والمتمايز والمختلف في إطاره الجغرافي ولغته وثقافته في كتلة واحدة. واللغة العربية كادت تنهار بسبب الهجمة الشرسة من قبل وسائل الإعلام ليلا ونهارا في العالم الذي يتوجه نحو حرب حضارية تكون فيها القيم الثقافية والرمزية هي الحدود القتالية .
أما النوع الأول من التحديات فهي تحديات داخلية وتتمثل في الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة العربية، حيث وجدنا من يدعو إلى هجر هذه اللغة الفصحى واستبدال العاميات المحكية بها، أو مزجها بالعاميات بدعوى التسهيل والتيسير، أو الاعتماد على اللغات الأجنبية بديلا عنها، وكأن التطور لا يكون إلا بالانسلاخ من اللغة العربية، علما أن هنا لك أمما كثيرة قد تطورت مع حفاظها على لغتها القومية كاليابان والصين وروسياوإسرائيل وسائر الدول الأوروبية. فليست اللغة إلا أداة للتعبير ووسيلة من وسائل التفكير وليست هي التفكير بنفسه، ولا يمكن أن نحملها مسؤولية الفوضى والتقهقر الحضاري الذي تعيشه الأمة على مختلف الأصعدة. فالأزمة الحقيقية هي ليست أزمة اللغة العربية نفسها، بل هي أزمة التعامل مع هذه اللغة .
ومن المهم أن لا نغفل بأن اللغة العربية تواجه أكبر خطورة في صورة التحديات الداخلية. وهذه التحديات تأتي من عامة الناس يعيشون فيما بيننا، ويتحدثون باللغة العربية، ولكنهم يطالبون بنبذها ويستبدلون بالعاميات تحت شعار الواقعية ويرغبون بشدة في استخدام اللغة الإنجليزية في حياتهم العادية .
ولا يمكن لنا أن ننسى بأن اللغة العربية هي لغة كل موضوع وعلم وفن، وهذه هي ميزتها الكبرى لا تتضمنها أي لغة أخرى. وهي لغة المدن والتمدن وفي الوقت نفسه لغة الصحراء، أفهل نسيتم دارالحكمة في بغداد؟ وهل نسيتم ما كتبه الجاحظ في فنون عديدة لم يكتشفها الغرب إلا بعد ألف سنة؟ والطب والصيدلة والرياضيات وشروح أرسطو وعلم الفلك وعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ…. الخ.
ألم تكن تكتب بالعربية التي أوجدت لها التعابير المناسبة؟ واليوم لقد أوجدت أسماء عديدة لاختراعات كثيرة. إن أمثال كلمات النفاثة، والصاروخ، والدبابة، والغواصة، والهاتف، والمحرك، والطائرة، والطاقة الكهربائية، والطاقة النووية وغيرها. أليست هذه بكلمات عربية مائة بالمائة؟.
وقد عرض الدكتور محمد محمد حسين ما تشمل التحديات الداخلية، وهي عنده ثلاثة:
-منها ما يتعلق بإصلاح النحو والقواعد
-ومنها ما يتعلق بالخط العربي
. ومنها ما يتعلق بالأدب العربي-
يقول الدكتور: فلنعد إلى عرض هذه الدعوات الهدامة التي تستهدف قتل العربية الفصيحة في شئ من التفصيل. نستطيع أن نحصر هذه الدعوات في شعب ثلاث: تتناول أولاها اللغة، فيطالب بعضها بإصلاحها، ويطالب بعضها الآخر بالتحول عنها إلى العامية. وتتناول ثانيتها الكتابة، فيدعو بعضها إلى إصلاح قواعدها، ويدعو بعضها الآخر للتحول عنها إلى الحروف اللاتينية. وتتناول الشعبة الثالثة: الأدب، فيدعو بعضها إلى العناية بالآداب الحديثة، وما يتصل منها بالقومية خاصة، ويدعو بعضها الآخر إلى العناية بما يسمونه (الأدب الشعبي) ويقصدون به كل ما هو متداول بغير العربية الفصيحة، مما يختلف في البلد الواحد باختلاف القرى وبتعدد البيئات.”
والنوع الثاني: تحديات خارجية وتتمثل في مزاحمة اللغات الأخرى لها، والغزو الفكري الوافد من الأمم الأخرى، والمتمثل أخير بالعولمة التي تريد ابتلاع ثقافات الأمم والشعوب، والقضاء على هذا التنوع اللساني في العالم، حتى وجدنا دولة عظمى كفرنسا تضج من زحف العولمة، ويقرر زعماؤها بأن التنوع ضرورة، وذلك حفاظا على لغتهم من الانحسار والضياع بعدذلك، فما بالك باللغة العربية التي لا يروج لها أحد، بل صرت تمشي في مدن العرب وأسواقها فلا تجد إلا إعلانات ملحونة بالعربية، وربما لا تجد العربية أصيلا فوق بعض الحوانيت، وكأن اللغة العربية قد انفرضت من واقعنا الاجتماعي.
ومما لا شك فيه أن العولمة هي من أخطر التحديات التي تواجه العالم العربي والإسلامي في العصر الراهن باعتبارها تؤثر في ثقافة الشعوب وهويتها وحضارتها بواسطة مختلف الوسائل والطرق. وبما أن اللغة عنصر مهم من عناصر الثقافة ولا داعي هنا أن نقول بأن اللغة العربية ما تأثرت بالعولمة الثقافية، بل امتدت جذورها في عدة جوانب على جميع الأصعدة بدءأ بالنشر العلمي وتبادل الخبرات التكنولوجية مرورا بالتعليم العالي والتجارة والصناعة وغيرها،ومن مظاهر هذا التأثير على سبيل المثال لا الحصر:
دخول مصطلحات دخيلة في اللغة العربية، وتعريب المصطلحات الأجنبية كي تواكب اللغة العربية التطور التقني والعلمي الذي يشهد العالم اليوم، وتأثير التراكيب والأساليب اللغوية الجديدة الغربية على اللغة العربية نتيجة الترجمة من الانجليزية، وازدواجية اللغة بين العامية والفصحى، والتحدي الإعلامي والعلمي والتقني وغيرها.
والخطر الأكبر للغة العربية في ظلال العولمة يأتي من تهميشها تدريجيا حيث تحل محلها اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة عمل وتواصل وأنها تمتلك مقومات القوة والهيمنة والسيطرة على اللغات الأخرى. وهذه العولمة اللغوية تروم نشر اللغة الإنجليزية لغة القطب الواحد وهيمنتها في التعليم والتواصل. وأما بمحاربة اللغة العربية الفصيحة فقد اتخذت أشكالا متعددة منها: وصم لغتنا بالتخلف وعدم مواكبة روح العصر والتفجر المعرفي، باعتبارها لغة البداوة وليست لغة العلم. وجانب أخرى وصمها بالصعوبة والتعقيد بسبب نحوها وصرفها وكثرة الحركات فيها. وهذا ما أدى الى ابتعاد كثير من الناس عن اللغة العربية حيث أنهم يعتبرونها لغة القرآن، ولغة الفقه والعبادة، وهو ما منحها لونا من القداسة،وليس كلغة حياة يومية، تطورت عبر التاريخ، وهو ما أدى إلى أن تنزع عنها سمة الحيوية وإمكان دخولها في الحياة العامة للأفراد. ومن اللافت هنا، أن الغرب قد شجع اللهجات العامية في اللغة العربية حتى إن بعض الجامعات الأمريكية قامت بإلغاء تدريس اللغة العربية والاستعاضة عنها باللهجات العربية مثل الشامية والمصرية والمغربية والعراقية وغيرها. وبسبب هذه الفجوة الهائلة بين العامية والفصحى، وتزايد الاهتمام على العامية في الدول العربية قد قلل شأن اللغة العربية الفصحى في الأوساط العلمية، حتى بلغ الأمر الى أن هناك توجه إلى إلغاء اللغة العربية من بين اللغات العالمية الرسمية في منظمة الأمم المتحدة لأسباب منها:
• عدم وفاء معظم الدول العربية بالتزامها المتعلقة بدفع نفقات استعمال العربية في المنظمة.
• عدم استعمال ممثلي الدول العربية للغة العربية في الأمم المتحدة،حيث أنهم يستعملون الإنجليزية أو الفرنسية في إلقاء كلماتهم ومناقشاتهم.
• عدم وجود مترجمين عرب أكفياء يجيدون اللغة العربية.
ولقد ضغطت الدول الكبرى على منظمة اليونسكو بخصوص حقوق التنوع اللغوي، مما جعل هذه المنظمة أخيرا تعلن أن الحقوق اللغوية تنحصر في ثلاثة:
1. الحق في لغة الأم وليس اللغة الأم
2. الحق في لغة التواصل في المجتمع.
3. الحق في لغة المعرفة.
وتعني هذه الحقوق فيما يتعلق ببلادنا العربية:
1. لغة الأم هي اللهجة العامية أو إحدى اللغات الوطنية غير العربية.
2. لغة التواصل هي اللهجة العربية الدارجة.
3. لغة المعرفة العالمية هي الانجليزية أو الفرنسية.
وفي ظل هذه العولمة الثقافية ذات القطب الواحد، تنشر وسائل الإعلام العربي برامجها مصبغة بصبغة الثقافة واللغة الغربية،مثل برنامج الأجندة المفتوحة،وبانوراما،والشارع الدبلوماسي وغيرها،وتروج الدوائر المعادية لبعض المصطلحات، ومن بين هذه المصطلحات ” منطقة الشرق الأوسط” إذ أن هذا المصطلح يشمل منطقة لا هوية لها، لإزالة الهوية العربية، وليحل هذا المصطلح مكان ” الوطن العربي” أو ” البلاد العربية”.فأخطر التحديات تواجه اللغة العربية توجد على صعيد الأكاديمي والتعليم حيث تم تفريغ المناهج والكتب من النماذج التأصيلية والنصوص التأسيسية للغة العربية وثقافتها، فيفرغ عقل الدارس ووجدانه من كل ما هو أصيل يصله بحقيقة لغته وثقافة أمته. ويضاف إلى ذلك كله ضعف نسبة ما ينشر باللغة العربية على شبكة الإنترنت، إذ إن %80 من صفحات الموقع المتوفرة على شبكة “الويب” مكتوبة بالإنجليزية، وثمة نقص رقمي على الشبكة بالعربية وعدم اعتماد مواصفات محارف اللغة العربية وهذا يسبب الكثير من الإشكالات.
ومن الملاحظ أن اللغة هي تؤدي دورا بارزا في ازدهار الأمم وانحسارها بدون أدنى شك، فالشواهد التاريخية تؤكد على أن فناء الأمم والحضارات نادرا ما يكون بسبب الإبادة الجسدية عسكريا، أو بسبب الانتماء السياسي أو اختلاف الأجناس، وإنما يكون بسبب اختفاء لغاتهم. ومن الثابت أيضا أن القوة المادية تكون نتيجة للقوة الرمزية، فالقوى الإقتصادية والعسكرية والسياسية كثيرا ما تكون عرضة للانهيار، إن لم تمتلك كيانا ثقافيا وقيما حضارية تصونها، وأكثر ما تتجلى هذه القيم في اللسان المتكلم، ولذلك تحرص كل أمة تطويره وصيانته ونشره بشتى الوسائل والطرائق.
مواجهة التحديات
أول شروط الاستجابة لهذه التحديات أن نعمل معا لمواجهتها، متكافلين ومتعاضدين،بإعادة صياغة السياسة الثقافية والتنموية لنبدع نهضة ثقافية في عصر العولمة. فلا بد من استجابة ترقى إلى مستوى ما يواجهه الوطن العربي من تحديات لنضمن للأمة العربية حضورها الفاعل بين الأمم في خارطة الغد الإنساني.
الخطوة التي نحتاج اليها في سبيل الحفاظ على اللغة العربية من خطرات العولمة يتخلص في تعريب سوق العمل والتعليم والإدارة والإعلام وجميع المؤسسات الوطنية والعربية، وسد الفجوة الهائلة بين اللغة العربية والمعارف والعلوم والتقنية والصناعة في جميع المجالات، وربط اللغة العربية بجميع معطيات العصر وتطوراته في الميادين كافة. وتوفير الكتاب الجامعي في جميع التخصصات العلمية في الجامعات العربية، بالاضافة إلى التواصل المستمر والآني مع مراكز البحث ودور النشر العلمية والجامعات في دول العالم المختلفة أمور في غاية الأهمية في سبيل التحديات للغة العربية. ويضاف إلى ذلك كله، الاطلاع على أحدث المخترعات والمكتشفات ونقلها للغة العربية، والنهوض بالترجمة على مستوى الكوادر البشرية والتجهيزات التقنية. وفي المجال الأكاديمي، الحاجة تلح على دعم المكتبة العربية بالمؤلفات الحديثة في جميع التخصصات، وزيادة تدريب المترجمين والمعجميين والتقنيين في مجال اللسانيات، بالاضافة إلى دعم الأبحاث والدراسات اللغوية المرتبطة بالتقنية والصناعات الحديثة، وربط الجامعات العربية ببعضها البعض علميا ومعرفيا وبحثيا وتقنيا.
وهذا هو في الحقيقة مشروع لو تمكنت المؤسسات العربية المختصة، والحكومات العربية من دعمه لأمكن بالفعل تحقيق نقلة مهمة لتعزيز مكانة اللغة العربية في أوطانها.
من سبل مواجهات التحديات في ظل العولمة ما يلي:
• ترجمة آداب الأمم الأخرى والاستفادة منها: يقول الأستاذ عمر الدسوقي: ” وهذا هو البستاني ينقل إلينا إلياذة هوميروس شعرا في مستهل هذا القرن….. وقد أعطى البستاني بإخراجه الإلياذة شعرا نموذجا قوي الأسلوب مشرق الديباجة للشعراء الذين يحاولون نظم الملاحم، أو نظم المسرحيات، وكيف يتصرفون ويتحللون من نظام القصيدة، ونحن لا يعنينا الآن الخوض في قيمة الإلياذة وأثر نقلها في اللغة العربية، بقدر ما يعنينا تلك الطريقة التي ترجمت بها، والمقدمة التي كتبت لها، فقد كانت درسا جديدا في مستهل هذا القرن لدراسة الأدب والنقد الأدبي، على غير ما ألف نقاد ذلك الوقت من الاهتمام بالألفاظ والمعاني”.
هنا، الاستفادة لا تعني تطبيق على اللغة العربية كل ما ناخذ من الآداب الأخرى، بل الأمر ينحصر على طبيعة اللغة.
• تعزيز الانتماء: إن الحفاظ على الهوية والذاتية الثقافية للأمة واجب مقدس في عصر العولمة،ولغتنا هي رمز كياننا وعنوان شخصيتنا العربية وهويتنا الثقافية، إلا أن ذلك كله لا ينفي أهمية الانفتاح على الثقافات الأخرى في جو من العقلنة، وذلك لأن الحفاظ على الهوية لا يعني الجمود بل هو عملية تتيح للمجتمع أن يتطور ويتغير دون أن يفقد هويته الأصلية، وأن يقبل التغيير دون أن يغترب فيه.فإكتساب اللغة الأجنبية مع الاعتزاز باللغة العربية أمر يتطلب الجانب الإيجابي للعولمة حيث نجد ما ورد في تراثنا من حث على تعلم اللغات الأجنبية:
بقدر لغات المرء يكثر نفعه وتلك له عند الشدائد أعوان
فبادر إلى حفظ اللغات مسارعا فكل لسان بالحقيقة إنسان
• تنشيط اللغة العربية في الإنترنت: من المعلوم أن المحتوى العربي على الإنترنت ضئيل جدا، إذ لا يتجاوز مواقع الويب %1 من المواقع العالمية. إذ إن %80 من صفحات الموقع المتوافرة على شبكة الويب مكتوبة باللغة الإنجليزية. وهذا يظهر عدم اهتمام اللغة العربية على شبكة الإنترنت.فالحاجة ماسة الى ازدياد المحتوى العربي الرقمي على الإنترنت مثل المواقع التعليمية والإعلامية والثقافية والمكتبات الإلكترونية بالعربية وغيرها.
• الحفاظ على صفاء اللغة العربية والعمل على سيرورتها وانتشارها: من الواجب للإمة العربية الحفاظ على صفاء اللغة العربية الأم وسيرورتها وإنتشارها وتيسير استخدام اللغة العربية في عمليات التواصل اللغوي. فكيف لا يكون هذا الاهتمام، إذ اللغة العربية لغة القرآن الكريم والرابطة التي توحد بينهم فكرا وقيما ومشاعر.
• نشر روائع الثقافة العربية وقيمها الإنسانية: في عصر التكنولوجيا والمعلومات، الحاجة تزداد لنشر ثقافتنا بمختلف الوسائل والسبل وتعريف الآخرين بها، وإزالة الضباب والتعتيم عن قيمنا الأصيلة. وهذا كله في اللغة العربية الأم الفصيحة.
• الاهتمام على مسيرة التعريب: يقول الأستاذ عمر الدسوقي:” إن اللغة العربية في حاجة إلى نهضة وتجديد وإحياء وتعريب كثير من العلماء، حيث انتشرت الحضارة ووجدوا أنفسهم إزاء آلاف من الكلمات والتعبيرات الأجنبية لا يستطيعون نقلها إلى اللغة العربية”. ليس هناك حاجة الى تذكير بأن الفكر لا يتم إلا في لغة ذاتية ولا علم دون لغة تعبير ذاتية. فيتطلب الفكر العربي القراءة والكتابة في اللغة العربية وإلا يصبح ناقصا وغريبا.
قضية التعريب لها مستويات متعددة، منها الجانب القومي لأن اللغة مقوم أساسي من مقومات الوحدة، والجانب التربوي حيث إنه ضرورة حياتية وعلمية لأن المرأ يفهم بلغته الأم أكثر مما يفهم بأي لغة أخرى، وزاوية الأمن الثقافي باعتباره ضرورة لإيقاظ الوعي بالغزو الفكري والتبعية الأجنبية المتزايدة، وناحية الإبداع والإبتكار ضرورة للانتقال من استهلاك الأشياء إلى صنعها ومن ثم منحها الاسم العربي.
• الحفاظ على اللغة العربية الفصحى واهتمامها في كل مجال: قد جاءت العولمة للغة العربية آفة حيث بدأ المثقفون والأكاديميون يستخدمون العامية في الدراسات والندوات والمؤتمرات. وهذا ما أدى الى الانتشار والفوضى اللغوي وتعددية اللهجات في مختلف الدول العربية. فيتطلب الوضع الحالي للغة العربية اللجوء على الفور الى استخدام الفصحى في كل مجال وعلى كل المستوى.
• إغناء المكتبة العربية بالكتب العلمية تأليفا وترجمة، استعدادا لا ستكمال تعريب التعليم العالي بجميع شعبه.
• التعامل بشجاعة حضارية وثقة تامة مع الألسن الأخرى، ومنح اللسان العربي حقه لإظهار عبقريته في احتواء المجالات التكنولوجية والطبية والمعلوماتية وشبكات الانترنت.
وحينما نحن على وشك انتهاء المقالة، نخص بالذكر بأن اللغة العربية دائما واجهت التحديات من أول يومها إلى يومنا هذا، فالتحديات تختلف في شكلها وصورتها، ولكن المواجهة كانت قوية في كل عصر. فكيف لا؟ إذ اللغة العربية بحر في أحشائه الدر كامن:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
أما اليوم، في عصر العولمة ،تقع المسوؤلية على أرباب اللغة ومستخدميها أن يتعلموا من تجارب الأمم المتقدمة لغة وثقافة وأوجدوا سبلا ووسيلة للغة العربية أن تنال مكانتها الحقيقية من خلال التمسك بثوابتهم الثقافية وقيمهم الدينية وشخصيهم القومية وخصائصهم النفسية والإجتماعية حيث لا يمكن اقتلاع جذورهم.
وفي الختام يحلو لي أن أختم مقالتي بكلمات ما قالها الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي: ” لا أريد أن يكون منزلي محاطا بالجدران من جميع الجوانب ونوافذي مسدودة، أريد أن تهب ثقافات كل الأرض بمحاذاة منزلي وبكل حرية، لكني أرفض أن يقتلعني أحد من جذوري”.
المراجع والمصادر
1-أمين, جلال. العولمة والتنمية العربية, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, 1999م .
2- الجندي, أنور. اللغة العربية بين حماتها وخصومها, د. ت. لا يوجد اسم الناشر ولا مكان النشر .
3- الحمود, موضي, العرب والعولمة,مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, 1998م .
4- بكر, السيد يعقوب. العربية لغة عالمية, جامعة الدول العربية, القاهرة, 1966م .
5- بلخوجة, محمد. العولمة والهوية, مطبوعات أكاديمية, المملكة المغربية, الرباط, 1997م .
6- بن سهو, محمد. العولمة, دار البيارق, عمان, 1998م .
7- بوزيد، بومدين، العربية متعبة بأهلها، جريدة الخبر/ الجزائر.
8- بكار، عبد الكريم، العولمة، طبيعتها- وسائلها-تحدياتها- التعامل معها، عمان، دارالاعلام، ط1، 2000م.
9- حلام الجيلاني، اللسان العربي وتحديات العولمة، مجلة المعرفة العدد رقم 451، أبريل 2011.
10- خليل الموسى، اللغة العربية مواجهة وحلول، مجلة المعرفة العدد رقم 579، ديسمبر 2011.
11- د. سليمان ابراهيم العسكري، لغتنا وتحديات العصر الثقافة المعاصرة، مجلة العربي، العدد:656، يوليو، 2013.
12- عقله فرسان/ثقافة العولمة، الأسبوع الأدبي، سوريا، عدد 5/5/1998.
13- عمردسوقي، في الأدب الحديث، دارالفكر العربي، الطبعة السادسة.
14- محمود عابد الجابري، العولمة في الساحة الفكرية الراهنة، جريدة الرأي، عدد مارس 1999م/ وهران الجزائر.
15- محمد رفعت زنجبير، التحديات التي تواجه اللغة العربية في العصر الحديث، الألوكة.
16- محمود أحمد السيد، اللغة العربية وتحديات العصر،2008.
17- نجيب الغزاوي، العولمة والخطر على الهوية والكيان، مجلة المعرفة العدد رقم 433، أكتوبر