تأليف : بيير بيرنيس ـ (الحلقة الرابعة) نشر في البيان 2003ستصبح الصين في القرن الواحد والعشرين في قلب شئون العالم، أكثر بكثير من أميركا التي تهيمن اليوم على هذه الشئون وستظل الى حين. ولن يقل سعي الصين في ذلك عن سعي أوروبا التي قررت بعد الكثير من التريث ان تستعيد التحكم في مصيرها وأن تؤثر هي الأخرى من جديد على مجرى التاريخ. وسيكون شأنها في ذلك أعظم من شأن روسيا والهند واليابان التي ألزمت نفسها بالأهداف والمقاصد نفسها على المدى البعيد. فالصين التي يزيد عدد سكانها على المليار ومئتي مليون نسمة ـ أي خمس البشرية ـ والمعتمدة على اقتصاد في تطور مستمر وعلى قوة عسكرية ـ نووية وتقليدية تتوطد سنة بعد سنة ـ هي اليوم بصدد استعادة مكانتها المرموقة التي كانت لها في الماضي على الساحة الدولية. فهي تسعى أولاً الى ان تصبح من جديد أول قوة عسكرية واقتصادية في قارة آسيا والى ان توسع مرة أخرى وربما الى الأبد حدودها ومن ثم ـ كما قال تشانغ كاي تشيك عام 1950 ـ الى تمديد تأثيرها الثقافي المهيمن الى «حدود ثقافتها العريقة الممتدة عبر آلاف عديدة من السنين». ومع ذلك تظل الصين غامضة حتى في أعين أكثر المترصدين لها يقظة وتنبهاً، ولكننا لو اكتفينا بأهم ما يجري فيها من تطور، فسندرك ان الخطوط العريضة لهذه النهضة الصينية الجديدة ومحركاتها القوية ليست في واقع الأمر سراً خفياً. ففي التصور الصيني القديم ينتظم العالم الى دوائر متحدة المركز قائمة وفق تدرّج ثقافي محكم. في مركز هذا العالم تأتي الصين المتحضرة المشعة في حدود مناطق نفوذها. أما باقي الكون الهمجي فهو يشكل المحيط الدائري لامبراطورية الصين المركزية هذه التي تقوم أسطورتها الأساسية على اعتقاد راسخ مطلق بتفوقها الثقافي الكوني. والواقع ان هذه الرؤية الصينية المركزية عن العالم ليست في طبيعتها مختلفة عن الرؤية الأوروبية المركزية للغرب المسيحي اليهودي المسيحي وللدائرين في فلكه من العلمانيين المعاصرين. لكن كل ما يفرق بينهما ان هذه وتلك متضادتان تضاداً جوهرياً. فقد أحدث اللقاء العنيف مع الغرب في القرن الماضي صدمة قوية في نفوس الصينيين. ولذلك كان الاذلال الذي أحدثته تلك الصدمة التي ترسخت فيها أعمق جذور رغبتهم في الثأر والانتقام وارادتهم في تحديث بلادهم وعصرنتها. ولهذا كان السعي الى محو كل النتائج والعواقب المترتبة عن تخلف مركزها التاريخي. واستعادة قوة ومجد امبراطوريتها الغابرة هو كل ما تطمح اليه الصين المعاصرة منذ ثورة سن يات سن عام 1911. وهو الطموح ذاته الذي أخذه على عاتقهم فيما بعد تشانغ كاي تشيك والشيوعيون مع ماوتسي تونغ، ثم من بعده دينغ شياو. وليس لخلف هؤلاء أي مبرّر لكي يتخلوا عن هذا الطموح الأساسي بأي حال من الأحوال، على الرغم مما يحدث من تطورات في المجتمع الصيني ومن تحولات سياسية داخلية ناتجة عن تلك التطورات.ومما لا شك فيه ان باقي دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة لن تجد بداً من ان تحسب لكل ذلك ما يستحقه من حساب. «الصين واقفة على رجليها». ذلك هو ما صرح به ماوتسي تونغ وهو يعلن عن ميلاد جمهورية الصين الشعبية يوم أول أكتوبر 1949 في بكين غداة انتصاره على الكومينتانغ، بينما كان خصمه اللدود تشانغ كاي تشيك يحاول اللجوء الى فورموزا مع حفنة من الأنصار الأوفياء وممن نجا من جيشه المهزوم. فالصين واقفة، تتطلع نحو مستقبل عظيم، يحدوها الأمل في ان تصبح في حدود منتصف القرن الواحد والعشرين واحدة من الدول العظمى الأولى في العالم أو حتى الأولى لم لا؟ ومع ذلك يظل قادتها راسخين في هذا القرن من التاريخ الذي كان من 1840 الى 1945، من حرب الأفيون الأولى الى هزيمة اليابان، تاريخ شتى أنواع الاهانات والاذلال (اقتحام المدينة المحظورة، حرق القصر الصيفي على يد الجيش الفرنسي الانجليزي) كل أولئك المغامرين البيض المتعجرفين الذين كانوا يحظرون دخول بيوتهم على «الكلاب والصينيين»، هذا القرن كان أيضاً عصر تجزئة بلادهم على يد قوى أجنبية قادمة من كل الأنحاء: الروس الذين حيّدوا مناطقهم السيبيرية وحاصروها في آسيا الوسطى، والانجليز الذين فعلوا بالمثل من خلال زحفهم الاستعماري عبر جبال الهيمالايا، ثم الانجليز أيضاً وكذلك الفرنسيون والألمان والأميركيون هؤلاء الوحوش الذين أكرهوهم بقوة السلاح على توقيع «معاهدات ظالمة» فرضوا بموجبها هيمنتهم على مقاطعاتهم البحرية، ثم اليابانيون في الأخير الذين استولوا على مقاطعاتهم الكبرى في منشوريا وفرموزا وكثير من أقاليمهم العريقة. كيف يمكن للصينيين ان ينسوا كل هذا وأن ينسوا أيضاً كل ما كان سبباً في ذلك ان انحطاط امبراطورية ماندمثو القديمة، ثم بعد ذلك انحطاط نظام الكومينتانغ الذي كان يدعي الوطنية، ثم أيضاً تلك المواجهات العشائرية التي كان يشعلها سادة حرب مدمنون فقدوا كل حس ازاء المصلحة العليا لوطنهم أمام المحتلين الأجانب؟ أجل كيف يمكن نسيان كل ذلك؟ في بكين تحديداً لا أحد ينسى ذلك.
مخاطر الانفجار الداخلي مما لا شك فيه ان الامبراطوريات من قوتها أو ضعفها المعنوي أولاً تستمد أو تفقد القدرة التي تفرض بها نفسها على الآخرين، حتى وان كانت هذه القدرة مرهونة أيضاً بعوامل آخرى ديموغرافية واقتصادية أو عسكرية. ويفسر فقدان سيطرتها على «قومياتها» من قبل الأسر التي لم تعد تملك لا مزايا ولا ثقة مؤسسيها تفكك الامبراطوريات الأوستروهنغارية والعثمانية عند بداية القرن العشرين. ذلك لأن لا أحد على الاطلاق في موسكو وفي كامل الاتحاد كان يعتقد حقاً بأن الاتحاد السوفييتي قد تفجر من الداخل في الثمانينيات. وفي مقابل ذلك فلأنهم لا يزالون يؤمنون ايماناً لا حد له بتفوق حضارتهم التي تمنحهم القدرة على فرضها على الآخرين. يسعى الأميركيون اليوم الى فرض سيطرتهم على كامل الكرة الأرضية، مدعين أنهم سوف يحققون ذلك الى أبعد الحدود. لذلك اذن صارت أزمة الصين الثقافية المتعددة الأشكال موجبة للعناية والاهتمام. وعلى العكس من ذلك فلأن هزيمتها في الحرب العالمية الثانية قد أفقدتها مثل ذلك الايمان وتلك الثقة لا تستطيع اليابان اليوم، أبعد من السياق الاستراتيجي الذي هو سياق خاص بها فضلاً عن انه ليس في صالحها، ان تصبح حتى وان كانت جد غنية وقوةً سياسية اقليمية، قوة عالمية فاعلة. وبالمثل فلأن العديد من قادتها لا يملكون بعد الارادة الكافية في ان يروا قارتهم القديمة وقد استعادت التحكم في مصيرها تبذل أوروبا اليوم قصارى جهودها في تحقيق ودعم وحدتها التي لا تستطيع بدونها ان تفرض نفسها من جديد على المسرح الدولي. ولأنها أيضاً لا تزال مكبلة في متناقضات تراثها الاجتماعي والثقافي. رغم عظمته وغناه لا تزال الهند تعاني هي الأخرى من أجل ان تصبح أمة عصرية عظمى. فأين موقع الصين اذن من وجهة النظر هذه؟على مدى عشرين عاماً من 1976 الى 1996 اجتازت الصين تحت قيادة دين شياو بينغ فترة انتقالية طويلة أعقبت عصر الماوية الأيديولوجي، فترة سوف تنتهي وقد رحل رئيس دفة السفينة الصغير حتى يعطيها أقصى ما يملك من قوة ودفع ويضبط وتيرتها، الى عصر جديد سوف يدخلها نهائياً في القرن الواحد والعشرين. لكن هذا التحول الجديد يبدو بعد مرور أعوام على موت دينغ متعثراً في الوصول الى هدفه النهائي مذهبياً وعملياً. ويبدو ان القادة الصينيين قد أدركوا ان طريق الحداثة والعصرنة لا يمكن ان يكون الاّ طريقاً رأسمالياً، طريقاً خطت فيه البلاد شوطاً بعيداً. ولكنهم رغم ذلك لم يتمكنوا الى الآن من تقبله رسمياً لأنهم لم يجدوا الى الآن مذهباً بديلاً عن الشيوعية حتى يستمروا في تبرير ممارسة سلطتهم الاستبدادية لصالحهم الشخصي، طبعاً، ولكن أيضاً، وهذا هو الأهم، لمصلحة بلادهم العليا أو بالأحرى لصالح الفكرة التي لديهم عن هذه المصلحة العليا. فبعد ان قبلوا بمواصلة السير على نهج تحرير الاقتصاد الذي رسمه دينغ شياو بينغ فهم مترددون، مثل قائدهم الراحل تماماً في المضي أبعد من ذلك، أو بالأحرى على الانطلاق في الطريق الموازي لليبرالية السياسية طالما ان طريق الليبرالية الاقتصادية قد أدى الى نمو متناقضات اجتماعية باتت تهدّد في رأيهم الحفاظ على الوحدة الوطنية التي تعد شرطاً أساسياً لاستمرار صعود قوة بلادهم على المسرح الدولي. فهم لا يرغبون في ان تنتهي بلادهم الى ما انتهى اليه الاتحاد السوفييتي الذي دفع ثمن اصلاحات ميخائيل غورباتشوف الفوضوية. منذ العام 1979 ارتفع المنتوج الداخلي الخام بمعدل 10% سنوياً بينما زاد انتاجها الصناعي وصادراتها بنسبة 15%. وحتى وان كان بعض الخبراء يقدرون بأن هذه الأرقام أقل من ذلك فان الأداء الاقتصادي أداء ملحوظ لا شك في ذلك. لقد بدأت هذه الطفرة في شهر يوليو من ذلك العام نفسه عندما أعلن دينغ شياو بينغ بعد ان أمسك نهائياً بزمام الأمور عن افتتاح أولى منطقتين اقتصاديتين خاصتين تخضع فيها المؤسسات لقوانين السوق بحيث لا تخضع لمعظم التشريعات السارية في باقي البلاد، وترخص فيهما الاستثمارات الأجنبية بالاشتراك مع رؤوس الأموال الصينية العمومية أو الخاصة. وقد أعقب هذه الخطوة بعد مضي أشهر معدودة افتتاح منطقتين جديدتين وأربع عشرة مدينة ساحلية. وبعد سنوات قليلة صارت كل المقاطعات البحرية تتمتع بهذا النظام الجدد، بينما ظل نظام الدولة مهيمناً على باقي المقاطعات الداخلية للبلاد. ففي هذه المناطق والمدن، وبداية في مناطق ومدن مقاطعات الجنوب (جزيرة هاينين وهونغ كونغ وكانتون وغوانغدونغ وفوجيان وشنغهاي وننكين وجينغسو) لم يكن النمو السنوي في الواقع بمعدل 10% ولكن من 15 الى 20% بل وأكثر، مما يعني ان هذا النمو كان أضعف من ذلك بكثير في الأماكن الأخرى، وتحديداً في وسط البلاد كلما زادت المسافة بالنسبة لبحر الصين الشرقي والجنوبي. ويطرح هذا التفاوت الذي ما فتئ يكبر ويتسع مشكلة خطيرة في وجه الصين السائرة قدماً على طريق النمو الرأسمالي.
اقتصاد ثنائي
فقد صارت الصين في خلال عشرين عاماً قوة تجارية عظمى باتت تستقطب رؤوس أموال أجنبية هائلة. فقد جاوزت حصة المبادلات في نشوء منتوجها الداخلي الخام 40% في 1995 وهي نسبة عالية جداً اذ تمثل ضعف نسبة الهند وثلاثة أضعاف نسبة البرازيل. وبذلك يبدو اقتصاد الصين متفتحاً للغاية. لكن الحقيقة في واقع الأمر جد مختلفة. ويعود هذا التطور في المبادلات التجارية والمالية الدولية اجمالاً الى حركة واسعة في نقل مواقع المصانع الآسيوية المقامة أصلاً في هونغ كونغ وتايوان وفي أهم بلدان جنوب شرق آسيا، وتعود 90% من رؤوس أموال هذه المصانع الى الجاليات الصينية المهاجرة التي تعود أصولها لهذه المقاطعات البحرية والتي يجذبها الى تلك المناطق انخفاض تكلفة اليد العاملة فيها وكذلك سوء التنظيمات التي تسمح لها باستغلال تلك اليد العاملة بشكل أفضل مما هو متاح لها في تايلاندا وأندونيسيا أو ماليزيا. غير انه على الرغم من هذا التدفق من رؤوس الأموال فان معظم السوق الصينية تظل مغلقة. ذلك بالفعل ان الاقتصاد الصيني بدلاً من ان يكون اقتصاداً منفتحاً صار اقتصاداً ثنائياً يتعايش في داخله كيفما اتفق اقتصاد تقليدي بال ريفي وفقير الى جانب اقتصاد عصري في صالح الصينيين المقيمين فيما وراء البحر وشركائهم في داخل القارة، القريبين جداً من السلطة ان لم يكونوا أهم زعمائها وشخصياتها وأبناءهم وأحفادهم. تنقسم الصين اجمالاً الى صين الشمال والوسط والغرب ذات المناخ القاري القاسي، «الصين الصفراء» صفراء مثل طمي أراضيها ان لم تكن مثل تربة مناطقها شبه القاحلة الزراعية المحافظة المنطوية على ذاتها، ثم الصين الجنوبية والبحرية، «الصين الزرقاء» مثل زرقة البحر الواسع، المزروعة المنجذبة نحو التقدم، بلد التجديد الذي كان سابقاً مخبراً للمهاجرين والثوريين. فقد صارت الصين الزرقاء اليوم بلداً غنياً يزداد غناه يوماً بعد يوم حتى وان كانت الرواتب والأجور فيه ضعيفة بل وضعيفة جداً، بينما تظل الصين الصفراء تتخبط في فقرها ولا سبيل لها للخروج منه حتى وان استفادت قليلاً من نتائج النمو الكلي للبلاد طالما نجحت السلطة كيفما اتفق في توزيع جزء صغير من ثروة غواندونغ وفوجيان أوجيانسو أو شنغهاي. ولا شك ان هذا التباين الكبير ما بين هاتين الصينين ذاتي النمو المختلف يعكس في الواقع الضعف النسبي للسلطة المركزية. وهذا الوضع بالذات هو الذي صار موضع جدل من كل الذين يتوقعون انفجاراً في امبراطورية الوسط التي عرفت بالفعل انفجارات أخرى عديدة عبر تاريخها الطويل. واستناداً الى تقديراتهم الغامضة يكشف هؤلاء المراقبون أنفسهم من ناحية أخرى عن حزمة من الظواهر الأخرى باتت هي الأخرى تشغل رأي القادة الصينيين وتقلقهم. فالتباينات المتفاقمة في النمو وفي الموارد ما بين المقاطعات وبصورة أعم ما بين المدن والأرياف تحدث هجرة ريفية تقليدية للغاية ولكن على صعيد الصين برمتها، أي زحفاً عظيماً، فقد ألقى هذا الزحف على المدن خلال السنوات الأخيرة أكثر من مئة مليون من القرويين المزارعين الفقراء الذين يبحثون عن أي عمل مأجور. ولما كان هؤلاء المهاجرون لا يملكون أي خبرة أو كفاءة فانهم كثيراً ما ينتهون الى التشرد والتسكع. ولذلك فانّ هذه الكتلة من البطالين الهائمين على وجه الأرض تشكل طبقة اجتماعية خطيرة على استعداد لكل شيء، وهي تشكل أرضية خصبة للجريمة التي ما فتئت تنمو يوماً بعد يوم رغم ما تلاقيه من قمع لا رحمة فيه تطيعه كل سنة آلاف الأحكام بالاعدام سريعة التنفيذ. ويستمد الهيجان الاجتماعي الفوضوي العنيف والاجرام جذورهما أيضاً من غياب منظمات نقابية فاعلة قادرة على توجيه وترشيد مظاهر السخط وعدم الرضا وسط التباين الكبير في المداخيل الذي يفصل الكتلة الكبيرة من المأجورين عن بضع مئات الألوف من الأثرياء الجدد الذين يعرضون دون حياء ثورتهم التي يعلم الله كيف حصلوا عليها، وما بين الفئتين الملايين العديدة من الموظفين الجشعين المرتشين على كل المستويات، وعلى رأسهم عناصر الشرطة والعسكريون. وقد انتعشت من جديد الدعارة والمخدرات وكل آفات الماضي، من الفظة المبتذلة الى أكثرها افراطاً في الترف والأبهة. وفي هذا المجال استعادت شبكات التجارة غير المشروعة كامل قوتها. وفي المقابل فقد عادت الديانات التقليدية مثل الطاوية والبوذية والكونفوشيوسية التي تدفع الى التطرف والتعصب والتي تدعو الى احترام النظام القائم، بقوة هي الأخرى، فضلاً عن عودة عدد كبير من الطوائف ـ اللوتس البيضاء ـ طريق الوحدة ـ الطريق نحو السلام الأكبر ـ أو بوابة المولى الأعلى أو أيضاً الديانات المسيحية المستوردة والمذاهب التوفيقية العديدة المشتقة عنها. «ان السلطة الصينية لغز يلفه أسرار خفية» هكذا يقال في غالب الأحيان ـ واذا جاز لنا الجزم بأن هذا النظام متميز منذ القدم بصراعات عشائرية قوية ومنافسات عنيفة ما بين الأشخاص الذين يحسدون هم أنفسهم على مستوى القمة صراعات المصالح المهمة القائمة ما بين قطاعات الحياة الوطنية الكبرى، فانه من الصعوبة بمكان معرفة مواقع أهم القادة الصينيين بعضهم بالنسبة للبعض الآخر في فترة خلافة ما بعد دينغ لشياو بينغ. فقد قدّر معظم خبراء الشئون الصينية عشية انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الخامس عشر الذي انعقد في بكين من 12 الى 18 سبتمبر 1997 ان رئيس الوزراء لي بينغ يمثل قائد المحافظين وبأن رئيس الجمعية الوطنية الشعبية كياوشي المدعم بنائب رئيس الوزراء للشئون الخارجية زهو رونجي يمثل الاصلاحيين وبأن رئيس الدولة زيانغ زيمين يحتل بالتحديد وسط هذه القوى المتعارضة. وقد بُنيت هذه المزاعم ـ التي أكدتها الى حد كبير أشغال المؤتمر التي انتهت باقصاء كياوشي الذي استبدل بلي بينغ على رأس الجمعية الوطنية وبتثبيت زيانغ زيمين على رأس الدولة وزهو رونجي رئيساً للوزراء ـ على ماضي هؤلاء الزعماء. لكن هذا الماضي كان بالنسبة لكل واحد منهم جد مختلف بل ومتناقضاً ولذلك لا يمكن ان ينبئ بالمستقبل الذي سوف يظل مرهوناً بالظروف على الخصوص. والحاصل ان هؤلاء القادة لا يملكون الاعتبار والهيبة والنفوذ التاريخية التي كانت لسلفهم الكبار الذين صنعوا الثورة. وحتى وان كانوا يتمتعون بدرجة كبيرة من المهارة والذكاء فانهم مع ذلك رجال باهتون. ولكن عوض ان نحاول التنبؤ بالمصير الذي ينتظر كل واحد منهم قبل انسحابه النهائي من على المسرح السياسي فالأجدر بكل باحث ان يحصي المشكلات الكبرى التي تواجه هؤلاء في الوقت الحالي ثم دراسة الحلول التي يمكن طرحها لتجاوز هذه المشكلات خلال السنوات المقبلة. فهل سيواصلون تحرير الاقتصاد الصيني أبعد من المرحلة التي وصل اليها؟ اذا كانت الاجابة بنعم ـ وهو ما قرره المؤتمر على ما يبدو ـ عليهم في هذه الحالة ان يفككوا قطاع الدولة الضخم البالي المفلس الذي ظل قائماً بعد الاصلاحات والذي بات يشكل عبئاً ثقيلاً على المالية العامة بحيث يحدث عجزاً سنوياً هائلاً يزيد على 200 مليار من يوان أي ما يعادل 33 مليار دولار، وهو ما لا يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية. لكن تقويم هذا القطاع يستدعي القيام بعمليات خصخصة مكثفة سوف تؤدي الى تسريح عشرات الملايين من العمال الذين سوف يوسّعون دائرة البطالين. ومن ناحية أخرى فان العديد من مؤسسات الدولة المفلسة هذه يديرها أعضاء من النمونكلاتورا (أي أصحاب الامتيازات الاستثنائية) وكل هؤلاء «الأمراء الحمر» متشبثون بكراسيهم وبما يتقاضونه من مكافآت. ويظل التفكيك المحتمل لقطاع الدولة مرتبطاً من ناحية أخرى بانفتاح أكبر للسوق الصينية على المتعاملين الاقتصاديين الأجانب، وهو تحديداً ما يشترطه الغربيون ولا سيما الأميركيون لقبول الصين في المنظمة العالمية للتجارة ـ لكن بكين لا تزال مترددة في القيام بهذه الخطوة وازالة الحواجز القانونية الواقية لهذا الاقتصاد الذي لا يزال خاضعاً لارادة الدولة على نطاق واسع. ومن ناحية أخرى تشكل هذه الخطوة التحدي الثاني الذي سوف يواجهه القادة الصينيون لأن تحرير الاقتصاد هذا الذي ينطوي على مخاطر اجتماعية كبيرة يتطلب على الأقل في مرحلة أولى دعماً مسبقاً للسلطة المركزية على قطاعات واسعة في الادارة يتصرف رؤساؤها على هواهم حيث يشكلون جماعات ضغط جد قوية ومنها لوبيات الجيش والشرطة المتورطة بقوة في القطاع الصناعي والتجاري شبه العمومي. ولا بد من اجراءات مماثلة للتحكم في النظام الضريبي للمقاطعات البحرية الغنية التي صارت ترفض أكثر فأكثر دفع جزء معقول من مداخيلها الضريبية الى بكين لتقوم بدورها باعادة توزيعها توزيعاً عادلاً على المقاطعات الداخلية الفقيرة. ويكتسي هذا المشكل هو الآخر طابعاً سياسياً ومتفجراً خطيراً طالما ان قادة هذه المقاطعات الغنية التي باتت تميل الى الانطواء على نفسها أكثر فأكثر هم في غالب الأحيان أعضاء بارزون في الادارة العليا المركزية للبلاد أو قريبون منهم . ان «حزب الشنغهائيين» مثلاً الذي يتولى رئاسته رئيس الجمهورية زيانغ زيمين نفسه ليس الا مثالاً شائعاً عن هؤلاء الذين يلعبون على الحبلين وعن هؤلاء «المتعدّدي الوظائف». فن النهايات السعيدة أمام هذه المشكلات العصيبة التي تواجه مستقبل الصين اضافة الى المشكلات التي يطرحها دعاة انضمام كسينجيانغ والتيبت حتى وان كانت هذه المشكلات أقل خطورة مقارنة مع المشكلات الأولى لا يستطيع القادة الصينيون الاستجابة الى طموحات النخبة المثقفة الى قدر أكبر من الحرية السياسية الا بصعوبة جمة. وتلك هي القضية الثالثة المطروحة على هؤلاء القادة، ومن الصعب معرفة كيف سيتمكنون من الحفاظ على الوضع القائم في هذا المجال. غير انه من السهولة ان نفهم السبب الذي يجعلهم يرفضون الى الآن المجازفة كما جازف من قبلهم غورباتشيف في الاتحاد السوفييتي. فالتعرض في مثل هذه القضايا يعني المساس بمركز سلطتهم وبما لديهم من تصور عن مستقبل بلادهم. فهؤلاء القادة لم ينسوا الرد الذي ألقاه خروتشوف يوماً على الرئيس كندي: «لماذا تريدون ان تشككونا بأنفسنا؟». «سوف تتحرر الصين من دون ان تمر بالبيريسترويكا».. هكذا قال الكسندر أدلر في عدد ابريل 1997 من مجلة «كوريي انترناشيونال». لقد قال اجمالاً ان الصين قد اجتازت حتى الآن كل المراحل التي مرّ بها الاتحاد السوفييتي. ولكنها كانت تجتهد دوماً في اختلاق نهايات سعيدة لفصول كانت تنتهي بشكل مأساوي في روسيا. مع «الأزهار المئة» عام 1957 والحملات المضادة لليمين التي تلتها عرفت الصين نظير تصفية أصدقاء بوخارين عام 1930 في موسكو. وكانت «الوثبة الكبرى الى الأمام» لعام 1958 نظراً طبق الأصل لتأميم الأرياف من قبل ستالين، والثورة الثقافية نظير القمع الجماهيري وما تلاه من أحكام في موسكو، وتذكر زيارة نيكسون وكيسنجر الى ماو تسي تونغ عام 1972 بالتحالف الكبير ما بين ستالين وروزفلت وتشرشل قبل ذلك بثلاثين عاماً ضد ألمانيا الهتلرية واليابان. وقد قام دينغ شياو بينغ بمحو الماوية كما قام خروتشوف بمحو الستالينية تماماً. وما بين زيانغ زيمين وليونيد برجنيف تشابهات كبيرة. غير انه على خلاف روسيا تملك الصين فن ممارسة «النهاية السعيدة». فاذا كان بوخارين قد أعدم رمياً بالرصاص فقد أفلت زهو زونجي من ذلك الاعدام بقضائه بعض الوقت في معاهد اعادة التربية. وقد تم تصفية الحرس البولشفي القديم ولكن باستثناء عصابة الأربعة التي دفعت ثمن التغيير فقد استمر قادة المسيرة الكبرى في الحكم بعد رحيل ماو بل ولقد قاموا تحت قيادة «قائد دفة السفينة الصغيرة» بتقويض المؤسسات الدوغماتية التي شيدها لهم سيدهم. ولما استلم مقاليد الحكم لم يشنع دينغ بماو كما شنع خروتشوف بستالين، فلقد نصبه وحنطه على ساحة السلام السماوي كما نصب وحنط أب الشعوب الصغيرة في ضريح الساحة الحمراء فترة من الزمن، لكن دينغ مع ذلك لم يتردد في تغيير وجه الصين تغييراً جذرياً. وعندما رحل في فبراير عام 1996 لم يكن قد أنهى ما بدأه من تغيير وتحديث. ويمكننا ان نراهن بأن من خلفوه سوف يواصلون العمل على النهج نفسه آجلاً أم عاجلاً رغم ما قد يصيبهم من كبوات مفاجئة. وسوف يظل الاجماع يوحدهم حول أهم القضايا. فنادراً ما كانت النكبات دامية ونهائية في بكين ولا سيما في قمة الدولة، ونحن نراهن بأن هذا الوضع سوف يستمر. ان تطور الصين مستقبلاً سوف يكون بطيئاً ودون انزلاقات خطيرة بما في ذلك تطور مسألة حقوق الانسان والحريات العامة