يحاول كتاب “الصين تتجه كونيا، القوة غير المكتملة” الإجابة على تساؤل قد يبدو بسيطا في شكله لكنه عميق في جوهره من ناحية تناوله لتحولات القوى الكونية وطبيعة القوى الصاعدة فيه: هل تشكل الصين قوة عظمى في القريب العاجل بما يمكنها من إزاحة الولايات المتحدة الأميركية المتربعة على عرش قيادة العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن؟ وهو تساؤل يتناغم مع العديد من الدراسات والمقالات التي تتناول وضعية الولايات المتحدة الراهنة، وما إذا كان زمن هيمنتها وقيادتها للعالم قد ولى.
ومؤلف الكتاب هو “ديفيد شامباو” أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ومدير ومؤسس برنامج السياسات الحكومية الصينية بجامعة جورج واشنطن، وهو على صلة ممتدة بالصين سواء من خلال الزيارة أو العيش بها منذ عام 1979 بما سمح له بمعايشة تحولات الصين المختلفة منذ نهاية الثورة الثقافية وحتى الوضع الراهن الذي وجدت فيه الصين نفسها تحتل مكانا متميزا في تدرج القوى الكونية.
وتعود أهمية هذا الكتاب إلى أنه تأسس على لقاءات بين المؤلف وبين صانعي السياسات العامة في الصين، إضافة إلى ملاحظاته الشخصية النابعة من معرفته بالصين وإلمامه بتحولاتها السياسية والاقتصادية والثقافية المختلفة.
الصين بين التقدير والانتقاص
رغم ما تفرضه الصين كونيا من قدرات اقتصادية هائلة فإن النظرة لها مازالت نظرة ملتبسة ومحمولة بما يمكن أن نطلق عليه “أيديولوجيا الإنتقاص والتحقير”. كما أن العديد ممن يتعاملون مع الصين يجتزأونها، ومن ثم يتناولونها من خلال رؤية ضيقة لا تسمح لهم بالفهم العميق لهذا المجتمع المعقد. كما أن الكثيرين يتناولون الصين من خلال النظريات المسبقة التي تضعها في إطار هيمنة الاقتصاد التقليدي عليها، وفي ضوء رغبتهم في فرض التصورات التحليلية الليبرالية الأقرب للمجتمعات الغربية.
ويتعامل البعض مع الصين بوصفها أقرب للحضارات القديمة منها للدولة الحديثة المتعارف عليها، مع ما تحمله كلمة حضارة من ارتباط بمنتجات الماضي دون القدرة على الإبداع والتجديد. فما زالت نظرة العالم للصين تعود لعقود عديدة ماضية؛ تلك النظرة التي ترى الصين بوصفها دولة زراعية منعزلة منكفئة على نفسها، ومروجة للشيوعية والنهج الاشتراكي.
وفي هذا السياق، إن النظرة للصين كحضارة يفارق بينها وبين أطر الحداثة التي صنعتها اليابان، ومن بعدها كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة وغيرها من الجارات الآسيويات الملاصقات لها حدوديا وثقافيا. فالصين لم تصنع حداثتها، بل ورغم طفرة التصنيع الهائلة بها، فإنها لم تنتج بعد مضامين الحداثة الثقافية والفكرية والعقلية العميقة والمتواشجة مع عولمة الكون وأطره شبه المستقرة.
وينظر إلى الصين عموما على أنها دولة مراوغة غير واضحة التوجهات في مجال التواصل الكوني مع الآخرين، والتعامل معهم، وهى مسألة ترتبط بالشخصية الصينية والخصائص المشكلة لها. وهو أمر ينعكس على التصور العالمي للصين بوصفها دولة مهددة لأميركا، ومُربكة للسياق الكوني ككل. ومن هنا فإن تناول الصين والحديث عن مستقبلها، يشتمل بدرجة أو بأخرى، وبالضرورة، على الحديث عن الولايات المتحدة الأميركية، القوة العظمى الأكثر تأثرا بصعود الصين. كما يشتمل على الحديث عن العلاقات الدولية بمعناها الكوني، والتهديدات التي تكتنفها إبان الصعود الصيني المرتقب. فالحديث عن الصين ليس فقط حديثا عن الاقتصاد والزعامة الكونية له بقدر ما يمثل حديثا عن تهديدات الاستقرار التي تواجه الكون من خلال صعود قوة وتراجع أخرى والتبعات المترتبة على ذلك.
ولا يقف الأمر فقط عند نظرة الآخرين للصين، لكنه يرتبط أيضا بنظرتها هي لنفسها، وتأثيرات التاريخ وأوجاعه عليها، فالصين تعاني كقوة صاعدة، من الشعور بعدم الإحساس بالأمان فيما يتعلق بأمنها القومي، كما أنها تشعر دائما بأن العالم لا يتعامل معها بما يليق بمكانتها الكونية الحالية. وفي هذا السياق، لا ترى بكين ذاتها كقوة كونية مهددة لأحد، ولا تسعى لقلب النظام العالمي رأسا على عقب، بقدر ما تبغي أن يراعي هذا النظام نفوذها المتنامي، وأهمية عملتها مقارنة بوضع الدولار الآن، وضرورة الإيمان بالدعوة للتعددية الكونية وتمكين الدول النامية بديلا عن هيمنة علاقات القطب الواحد على شؤون الكون.
أسباب محدودية التأثير الصيني
رغم أن الكتاب الراهن يستند لفكرة مسبقة وشائعة تتعلق بكون الصين قوة عظمى جديدة من المتوقع أن تقود العالم اقتصاديا بحلول عام 2025، فإن ديفيد شامباو يكشف أنه فوجئ، رغم كافة المؤشرات التي تكشف عن قوة الصين، أنها لا يمكن أن تكون قوة عظمى، ناهيك عن إمكانية قيادتها للعالم. فهي وفقا للمؤلف، مجرد قوة متوسطة، أو بشكل أكثر تحديدا قوة غير مكتملة.
ولإيضاح هذا التصور لا بد من الوقوف أولا على عناصر قوة الصين، ثم لاحقا التعرف على الأسباب التي لا تجعل منها قوة عظمى حقيقية، وليس مجرد قوة غير مكتملة. فالصين تنطوي على مصادر القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والثقافية لكن بشكل لا تستطيع من خلاله التأثير الكوني بما يمنحها صفة القوة العظمى. وبشكل عام، فإن عناصر قوتها تتسم بالضعف كما أنها غير متجانسة فيما بينها؛ فأحد مشكلات الصين أنها غير متسقة في توجهاتها وفي مكوناتها المختلفة، الأمر الذي يجعلنا نجد أنفسنا في مواجهة أكثر من صين وليست صين واحدة مثل بقية الدول الأخرى. إضافة إلى ذلك فإن بكين، في التحليل النهائي، تتمتع بتأثير كوني أقل بكثير مما نعتقد أو نتصور.
لا يمكن تجاهل القوة الاقتصادية الهائلة التي تمتلكها الصين الآن، والتي تجعل منها “ورشة العالم”، ومنذ ثلاثة عقود لم تكن تمثل قوة اقتصادية وسط محيطها الآسيوي الذي يلامس حدودا مشتركة مع 15 دولة أخرى. أما الآن فما لا تخطأه العين هو ذلك التوسع الاقتصادي الصيني الهائل الذي يشتمل على مناطق وأنشطة عديدة بدءا من مناجم التعدين في أفريقيا، مرورا بأسواق العملات في الغرب، وحقول النفط في الشرق الأوسط، والأعمال التجارية الزراعية في أميركا اللاتينية، وحتى المصانع في شرق آسيا. ويلفت النظر هنا ارتباط الصين بالصفة “أكبر”؛ ففي العقدين الماضيين استأثرت الصين وحدها بأكبر نسبة من إجمالي النمو الكوني حيث بلغت 40%، كما أنها اليوم أكبر مستهلك للطاقة، وأكبر مُصدر للعالم، وأكبر حائز لإحتياطيات النقد الأجنبي.
ويمثل الازدهار الاقتصادي المتصاعد في الصين منذ بداية الألفية الثالثة وحتى الآن نموذجا لافتا للنظر في ظل تراجع الاقتصاديات المهيمنة كونيا مثل اقتصاد أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، وهو أمر ساعد من خلال تزايد أعداد السائحين الصينيين على إنقاذ سوق سلع الرفاهية أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008. ففي ظل هذه الأزمة واجهت المنتجات العالمية الراقية صعوبات جمة في السوق العالمية، لكن تم إنقاذها في ضوء ارتفاع نسبة السائحين الصينيين حول العالم وارتفاع نسبة مشترياتهم لهذه السلع الراقية غالية الثمن.
ورغم ذلك، يكشف تهافت السائحين الصينيين على سلع الرفاهية عن ضعف كبير في الإبتكار الكوني الصيني، فما نسبته 94% من السلع الصينية المصدرة إلى الخارج سلع منخفضة التكنولوجيا، ولم تصل للمستوى المطلوب لكى تنشدها الصفوات العالمية من البشر؛ فما زالت المنتجات والسلع الصينية هى منتجات وسلع للبشر العاديين ممن ينتمون للطبقات الوسطى ومحدودي الدخل. وهو أمر يتكشف من خلال عدم وجود علامات تجارية صينية معروفة على المستوى الكوني. ويميل الاقتصاد الصيني إلى العمل داخل الصين وعدم الخروج منها إلى العالم الخارجي. وتضم قائمة فوربيس لأهم 500 شركة عالمية 71 شركة صينية ثلاثة منها فقط تحصل على 50% من عائداتها من مصادر خارج الصين.
ويكشف الكتاب عن مسألة هامة تتعلق بالقوة الدبلوماسية الصينية المعاصرة ألا وهى أن الصين تأخذ دائما موقفا آمنا في القضايا الدولية المقلقة؛ فهى تنتظر مواقف الدول الأخرى قبل أن تعلن موقفها من القضايا المطروحة، وتمثل “دولة المقاعد الخلفية” ولا تسعى إلى صدارة المقاعد الأمامية فيما يتعلق بالدبلوماسية الكونية. فالصين لا تتمتع بقيادة دبلوماسية للعالم مثل الولايات المتحدة الأميركية، كما لا توضع قوتها الناعمة في الحسبان. وعموما فإن مواقف بكين من القضايا الدولية تتسم عادة بالسلبية، وما زالت منغمسة في شؤونها الداخلية، وعلى رأسها التنمية الاقتصادية وصورة وطول عمر الحزب الشيوعي الصيني، وهو أمر جعلها لا تتدخل في الشأن الكوني، بل وجعلها لا تشعر بالراحة فيما يتعلق بالتوجهات الليبرالية المرتبطة بالمجتمعات الغربية.
وتتسم الدبلوماسية الصينية بالحزم فقط عندما يتعلق الأمر بمصالح صينية وطنية مباشرة مثل القضايا المتعلقة بالتبت، وإقليم شينجيانغ(تركستان الشرقية) ذات الأغلبية المسلمة من اليغور، وما يتعلق بحقوق الإنسان في الصين، وأخيرا النزاعات الإقليمية البحرية في المياه الإقليمية المحيطة بها. فهى دبلوماسية منغلقة لا يهمها سوى مصالحها الضيقة المتعلقة بشأنها الداخلي، أما ما يتعلق بالمشكلات الكونية فهو خارج حسابات هذه الدبلوماسية. ففي عام 2012 أنفقت الصين ما يبلغ 111 مليار دولار على الأمن الداخلي مقابل ما قيمته 107 مليار دولار على الأمن الخارجي، وهو أمر يرتبط برؤية القيادة الصينية التي تولي أهمية كبيرة لما يتعلق بوحدة التراب الصيني وضمان عدم حدوث أية توترات داخلية.
وتثير الدبلوماسية الصينية مجموعة من التساؤلات الهامة تشمل: لماذا تتخذ الصين موقفا سلبيا فيما يتعلق بالقضايا الكونية التي لا تمثل مصلحة مباشرة بالنسبة لها؟ هل يعود ذلك إلى أنها لا تمتلك تصورا دبلوماسيا واضحا عن هذه القضايا؟ أم لكون الصين وافد جديد على الساحة الكونية، مازال يتحسس خطاه، ولا يريد أن ينزلق للمخاطر المتعلقة باتخاذ موقف واضح وصارم؟ أم لأن الصين ذاتها اختارت هذا الموقف منذ البداية بما يجنبها أية مشكلات هى بمنأى عنها؟
تظل هذه التساؤلات غير واضحة المعالم كما الصين ذاتها التي حينما نطالعها فإننا نعرف دائما ما لا تريد، لكننا لا نعرف أبدا ماذا تريد. ولا تختلف نظرة الصينيين أنفسهم تجاه القضايا الكونية عن موقف حكومتهم؛ فبعضهم يؤكد على صحة ما تقوم به دولتهم في شأن عدم تدخلها في الأمور الكونية وتفسيرهم لما يندرج تحت “نظرية المسئولية” على أنه خضوع لرغبات الولايات المتحدة الأميركية، بينما يرى البعض الآخر أنه من الأفضل التركيز على المشكلات والقضايا الداخلية بديلا عن الإنغماس في القضايا الكونية التي لن تفيد الصين شيئا.
ويرجع ذلك التضارب والتعارض إلى أن الصين متناقضة تجاه ما تريد، أو هى غير محددة بشكل رئيسي تجاه هويتها العالمية، وما تريده على المستوى الكوني. والشيء المحدد بالنسبة لهوية الصين الكونية الآن هو الثروة؛ فالصين تريد الثروة والمكاسب والأرباح، وهى الأشياء الأكثر تحديدا ورغبة بالنسبة للهوية الصينية الخارجية. ويتأسس ذلك على افتراض من قبل الحكومة الصينية مؤداه أن الثروة سوف يتم ترجمتها مباشرة إلى القوة.
وربما يمكن العودة إلى التاريخ الصيني لفهم الأسباب التي تجعل الحكومة الصينية لا تعرف ماذا تريد. فمن الواضح أن أزمة الهوية الصينية وفهم الأبعاد والمؤثرات المرتبطة بها يعود بالأساس إلى أزمة الهوية التي تعاني منها الصين عبر التاريخ، والصعوبات المختلفة التي جعلتها لا تدرك ماهيتها والكيفية التي تتعامل بها مع الآخرين سواء مع جيرانها في المحيط الآسيوي أو مع باقي التكتلات العالمية الأخرى وعلى رأسها أوروبا التي لم تعرف منها سوى الغزوات والاحتلال.
إضافة إلى ما سبق، فإن الغرب يريد من الصين أن تشارك في الحكم العالمي، وقيادة الكون حتى تصبح من أصحاب المصلحة الكونية المطلوب منهم الحفاظ عليه واتخاذ قرارات ناجعة في القضايا الكونية الشائكة، لا بل المطلوب منها الإشتراك والمساهمة في القضايا الكونية ذات المردود الواقعي المباشر مثل المشاركة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ومكافحة القرصنة، ومواجهة الإرهاب، والمساهمة في الحد من إنبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، والمساعدة في تنمية الدول النامية، وما يتعلق بالصحة العامة.
وربما تكشف الأرقام هنا عن غياب كبير من جانب الصين في مثل هذه الأنشطة المختلفة ذات المردود المباشر كونيا، والتي تعود بالفائدة على البشرية ككل، وتبدو مفارقة الأرقام حينما نعلم أن الصين هى صاحبة ثاني أكبر اقتصاد على المستوى الكوني بعد الولايات المتحدة الأميركية. فمساهمة الصين في عمليات الأمم المتحدة تأتي في المرتبة السابعة على مستوى العالم، كما أن مساهمتها في قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة الدولية تأتي في المرتبة السادسة عشر، وأخيرا فإن مساعداتها للعالم الخارجي لا تأتي بين أكبر عشرين دولة من حيث المساعدات الخارجية.
ويظهر ضعف الصين أيضا في تراجع حضورها الأمني حول العالم، والذي يمثل أبرز مظاهر القوة الكونية، فعلى الرغم من أن الجيش الصيني يمثل ثاني أكبر ميزانية عسكرية في العالم، فإنه لا يتمتع بأى حضور عالمي، على العكس تماما مما عليه واقع الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من القوى الأوروبية النافذة مثل بريطانيا وفرنسا.
كما لا تقوم الصين بأدوارها بقدر ما تستطيع، ولا كما يجب أن يكون، كم أنها لا تتصرف حتى الآن بعقلية الدولة الكبيرة التي يُعمل لها حساب على المستوى الكوني، بقدر ما تتصرف بعقلية رجل الأعمال الباحث فقط عن حسابات المكسب والخسارة. ومن الغريب أن دولة بحجم الصين لا تتحلى بالقيم المتعارف عليها منذ القدم وحتى الآن والتي ترتبط بالرغبة في التوسع وفرض السيطرة والهمينة على الآخرين. كما أن الصين تمثل قوة وحيدة منعزلة ومنغلقة ومكتفية بذاتها، على عكس الولايات المتحدة التي تمثل قوة متضافرة كونيا مع غيرها من القوى الأخرى والعديد من الدول. فالصين لديها بعض العلاقات مع بعض جيرانها، وهى علاقات أقل ما توصف به أنها علاقات ليست جيدة جدا مثل كوريا الشمالية وروسيا وباكستان وكمبوديا. ورغم أن هذه الدول ذات حدود مشتركة مع الصين، فإنهم جميعا لا يشكلون مع بعضهم البعض شبكة من العلاقات الجيو استراتيجية مثلما نجد الحال في علاقات الولايات المتحدة بكندا أو علاقاتها بأميركا اللاتينية.
هل تتحول الصين لقوة عظمي؟
رغم التوسع الهائل في البنية التحتية المالية للصين حول العالم، فإن افتقاد الصين لما يسميه المؤلف بالقوة الناعمة يجعل قوتها الاقتصادية غير مؤثرة كونيا، رغم صعوبة إنكار انتشارها وأهميتها. فعلى الرغم من النشاط الثقافي العالمي للصين فإنها لم تستطع، على العكس من النفوذ الأميركي، أن تحفر لنفسها تيارات كونية مرتبطة بالمنتجات الثقافية. ويعود ذلك بالأساس إلى عدم فهم العالم للغة الصينية، كما أن الميديا الصينية تستخدم مفردات وشعارات قديمة لا يفهمها العالم المعاصر الآن، ولا يهتم بها وباستخداماتها. فكل شيء يعمل من أجل الصين فقط، المنتجات الصينية موجهة بالأساس للصينيين، كما أن النظام السياسي يعمل فقط من أجل الصينيين.
يأتي ذلك في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة السياح الصينيين حول العالم، بما يجعل الصين الأولى في مجال تصدير السياح حول العالم. كما أن ما نسبته 40% من شراء المنتجات الفنية التي تطرح عبر صالات البيع حول العالم يتم شرائها من قبل الصينيين. إضافة إلى ذلك إن التحولات الخاصة بالتعليم وخلق مسارات وعى جديدة تنبأ عن تحولات عميقة في بنية القوة الناعمة الصينية مستقبلا، وبشكل خاص فيما يتعلق بالتواصل مع الولايات المتحدة والتفاعل العلمي واللغوي والثقافي معها. وتوضح الإحصاءات وجود 9000 مسافر يوميا بين الدولتين، كما تشير الإحصاءات في عام 2001-2012 إلى وجود 160000 طالب صيني يدرسون في أميركا مقابل 20000 طالب أميركي يدرسون في الصين، كما أنه يوجد 300 مليون طالب صيني يتعلمون الإنكليزية مقابل 200000 طالب أميركي يتعلمون الصينية. كما يوجد 1,2 مليون طالب صيني يتلقون تعليمهم في الخارج، منهم ما نسبته 93% يتعلمون على حسابهم الخاص. وبالطبع فإن هذا التواصل والتعامل بين الأميريكيين والصينيين سوف يدعم من حجم التأثير الأميركي على الصينيين، وبشكل خاص ما يتعلق بخلق أنماط ثقافية جديدة سوف تجد مساراتها ضمن الوعي الجمعي الصيني في السنوات القادمة، وهو أمر سوف يكشف عن العديد من التبعات العديدة، السياسية والثقافية منها على وجه الخصوص.
والخلاصة أن الصين فاعل كوني أكثر منه قوة عظمى، والفارق بين الإثنين كبير؛ فبينما يشارك الأول الآخرين شؤون الكون، يؤثر الثاني على الدول والحكومات ويرسم مسيرة الكون بأكمله، وهو أمر مازال بينه وبين الصين عقود طويلة وجهود عديدة في ظل تركيزها على مصالحها الوطنية وإبعاد نفسها عن السياسات الكونية والمشكلات المرتبطة بها. ورغم كل ما سبق فإن الشيء الموثوق منه أن الصين سوف تتغير. واللافت للنظر هنا مدى التشابه بين وضعية الصين الآن ووضعية الولايات المتحدة عام 1913 حينما كانت قوة اقتصادية هائلة، وقوة ناعمة هامشية، وقوة دبلوماسية مزدوجة بين الداخل والخارج ينظر إليها العالم منتظرا رد فعلها نحو القضايا الكونية.
من هنا يبقى السؤال الهام: متى تتغير الصين من قوة غير مكتملة إلى قوة عظمي مثلها في ذلك مثل الولايات المتحدة الأميركية؟ وهل سوف ينتظر العالم طويلا حتى تغير الصين من مواقفها، وتتدخل في الشؤون الكونية، ومن ثم تتحدى الولايات المتحدة الأميركية؟ وما هى النتائج المترتبة على ذلك؟ هل سيشهد العالم من جديد حربا باردة طويلة الأمد؟ أم يحسم أمره في مواجهات عسكرية مباشرة؟
إن اقتصار قوة الصين الآن على الجوانب الاقتصادية لا يعني أن الصين سوف تظل قوة غير مكتملة؛ فالصين سوف تتحول في القريب العاجل إلى قوة مكتملة، قوة عظمى، سواء تم ذلك برغبتها أو برغبة الآخرين ودفعهم لذلك. كما أن قوة المسار الاقتصادي سوف تدفع المسارات الأخرى السياسية والدبلوماسية والثقافية للحاق بها، وتشكيل توجه جديد يليق بالصين كقوة عظمى، وساعتها سوف نرى شكل وطبيعة تأثير الشعوب الصفراء على الحضارة الإنسانية، ونقارنها بالهيمنة الأميركية الراهنة