https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

 

زهير حمداني( الجزيرة)

 

في الوقت الذي تخوض فيه القوى العالمية الكبرى صراعا على مصادر الطاقة الأساسية ممثلة في الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) ذات الأهمية الشديدة في الصناعات الثقيلة وإنتاج الكهرباء والطاقة، يبرز صدام آخر أكثر شراسة على معادن الأرض النادرة (rare earth elements) التي باتت عنصرا أساسيا وإستراتيجيا لا غنى عنه في الصناعات التكنولوجية الدقيقة الراهنة والمستقبلية والانتقال إلى ما يعرف بالاقتصاد الأخضر.

 

قبل ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن هذه المواد أو الموارد في دائرة صراع جيو إستراتيجي دولي رغم استعمالها المبكر في قطاع البتروكيميائيات والصناعات الإلكترونية والعسكرية، لكن آفاق التوسع في الصناعات الدقيقة والمنخفضة الكربون ضمن ما يسمى باقتصاد المعرفة فرضتها بقوة على خارطة الاهتمام الدولي، وقد تزامن ذلك مع صعود الصين وهيمنتها على الجزء الأكبر من الإنتاج العالمي للأتربة النادرة.

 

ومع يقظة الصين ودول أخرى، خارجة نسبيا عن الهيمنة الغربية التقليدية، أضحت هذه المعادن سلاحا تجاريا مهما أيقظ هواجس الغرب، مع احتدام التنافس التجاري والاقتصادي مشوبا بالاختلاف الأيديولوجي، وصنفت هذه المعادن لاحقا ضمن مرتكزات الأمن القومي في الولايات المتحدة ودول أخرى. كما أصبحت الصين مع طفرتها الصناعية والتكنولوجية الكبرى أكثرا حرصا في حماية مخزونها الإستراتيجي منها.

 

وكان آخر فصول هذا الصراع إعلان الصين في الرابع من يوليو/تموز 2023 تقييد صادرات معدني “الغاليوم”(Ge) و”الجرمانيوم” (Ga) من الأول من أغسطس/آب “من أجل حماية المصالح القومية”، وهو ما انتقدته بشدة المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة، وتصنف هاتان المادتان ضمن ما يعرف بالمعادن الحرجة (critical minerals) التي تتضمن العشرات من العناصر المعدنية بينها الأتربة النادرة.

 

وتنتج الصين 80% من إمدادات العالم من هاتين المادتين، وفقا لتقرير المفوضية الأوروبية، في حين يستورد الاتحاد الأوروبي 27% من احتياجاته من الغاليوم و17% من الجرمانيوم من الصين.

 

وفي عام 2010، مثلت أزمة المعادن النادرة بين الصين واليابان ثم الدول الغربية مؤشرا على أهمية هذا العنصر الجديد في الاقتصاد العالمي، فعندما أوقفت بكين صادراتها إلى اليابان بسبب نزاع على جزر “سينكاكو/ دياويو” بين البلدين -وكانت خفضت التصدير عام 2006- تعرضت لانتقادات وضغوط شديدة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

 

ورغم رفع الحظر الصيني لاحقا، اتجهت اليابان -التي تعتمد 27 من كبريات شركاتها آنذاك على معادن الصين- إلى تعزيز تعاونها مع فيتنام لاستخراج وتعدين هذه الأتربة، وأصبحت فيتنام حاليا من أهم الدول المنتجة لها.

الندرة التي أججت الصراع؟

 

يصف المعهد البريطاني للمسح الجيولوجي المعادن النادرة بأنها “مجموعة عناصر تستخدم في أكبر قدر من المنتجات الاستهلاكية في العالم”، فمن يتملكها ويسيطر على إنتاجها ومعالجتها سيسيطر عمليا على معظم هذه المنتجات. وتحتكر الصين فعليا معالجة 90% من العناصر الأرضية النادرة و60% من الليثيوم، وفقا لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية (USGS).

وهناك معادن أخرى مهمة جدا في الصناعات التكنولوجية، وتعد بدورها سلعا إستراتيجية، لكنها لا تصنف معادن نادرة بحكم وجود احتياطات مركزة منها في مكان واحد، كما أنها لا تتطلب الكثير من المعالجات الصناعية والكيميائية لفصلها، مثل: الزنك والزئبق واليورانيوم والنيكل والذهب والفضة والبلاتين، وهي تستخدم أيضا في بعض العمليات الصناعية، وتستخرج غالبا من باطن الأرض.

تختلف معادن الأرض النادرة عن المعادن الأساسية التي تتوفر بكثرة في الرواسب (شترستوك)

 

وتختلف المعادن النادرة عن المعادن النفيسة (Precious Metals)، ومنها الذهب والفضة والبلاتين والبالاديوم (pd)، والمعادن الأساسية (Base Metals) التي تتوفر في الأرض بكثرة مقارنة بغيرها، وتُستخدم في المجال الصناعي أساسا ومنها الحديد وأنواعه المختلفة، والنحاس والنيكل والألمنيوم والزنك والرصاص والقصدير والتيتانيوم ومستخرجاتها.

 

عمليا يبدو مصطلح “نادرة” مرواغا إلى حد ما، وهو لا يشير إلى معنى القلة أو الشح، فالواقع أنها قد تكون موجودة بكثرة في القشرة الأرضية وضمن الرواسب الجيولوجية، لكنها موزعة ومتناثرة غالبا وغير مركزة في مكان واحد (عكس المعادن الأخرى المذكورة)، وقد تختلط ضمن مكونات ومعادن أخرى، مما يجعلها صعبة الاستخراج وتتطلب عملية فصل أكثر تعقيدا وكلفة. وتنعكس هذه الندرة وصعوبة الاستخراج والفصل على أسعارها التي تعد مرتفعة.

 

وتعرف هذه العناصر الأرضية أيضا بـ”أكاسيد الأرض النادرة”، بسبب تسويق معظمها كمركّبات أكاسيد (oxides)، إلى جانب كونها جميعا من المعادن الثقيلة والناعمة، وتتميز غالبا باللون الفضي الذي يميل إلى الأبيض.

 

ومن العناصرالموجودة بوفرة نسبية من تلك المعادن “السيريوم” و”النيوديميوم” و”الإيتريوم” و”اللانثانوم”، وأخرى يكون استخراجها واستخلاصها أكثر صعوبة بسبب عدم توافرها بتركيز عال يجعل استخراجها واستثمارها مجديا اقتصاديا، مثل “الثوليوم” و”اللوتيتيوم”، فيما يتواجد جزء كبير من تلك العناصر في المعادن الصناعية المستخدمة بكثرة مثل النيكل والكروم والزنك والقصدير والرصاص.

 

ويشار أيضا إلى عناصر مثل “الليثيوم” (Li) و”الكوبالت” (Co) على أنها معادن أرضية نادرة، نظرا لندرتها النسبية مقارنة بالمعادن الأساسية، ولكنها لا تنتمي إلى هذا التصنيف الكيميائي، وفي المقابل هما لا يقلان أهمية في التحول للطاقة النظيفة، وفي الصراع الدولي على المعادن

)

خصائص فريدة

 

من الناحية التاريخية، تم استخدام العناصر الأرضية النادرة بشكل أساسي في العمليات الصناعية لخصائصها التحفيزية، وتحديدا في صناعة البتروكيميائيات بهدف تفتيت الجزيئات الكبيرة إلى هيدروكربونات أصغر مناسبة للاستخدام في الوقود.

 

وخلال الحرب الباردة (1945 إلى 1991) أدى سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى زيادات هائلة في البحث والتطوير في العديد من المجالات خصوصا العسكرية وصناعات الفضاء منها، بما في ذلك استكشاف واستعمال العناصر الأرضية النادرة. وطوّر مهندسو القوات الجوية الأميركية مغناطيس “السماريوم والكوبلت” في الستينيات، واحتفظت هذه المادة بخصائصها المغناطيسية القوية حتى في درجة حرارة شديدة، مما مكن من استخدامها في تصميم أجهزة رادار أكثر قوة.

 

كما استخدم علماء المعادن السوفيات في الثمانينيات عنصر “السكانديوم” لجعل الألومنيوم أقوى وأخف وزنا في مقاتلة ميغ-29 متعددة الأغراض، مما زاد بشكل مدهش من قدرتها على المناورة في ذلك الوقت. وأدت أبحاث أشعة الليزر إلى تطوير ليزر “الإيتريوم والألمنيوم والعقيق” المستخدم في أجهزة تحديد المدى بالليزر أو للأسلحة الموجهة.

 

أما على الصعيد التجاري والصناعي، فقد أنتج البحث سلعا جديدة للمستهلكين انطلاقا من العناصر الأرضية النادرة. وأدت أبحاث البطاريات في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلى تطوير بطارية “هيدريد النيكل والمعدن”، باستخدام عنصري “اللانثانوم والنيوديميوم”، فأصبح بالإمكان إعادة شحنها بشكل متكرر مع احتفاظها بقدر كبير من الطاقة مقارنة بحجمها الصغير. وأصبحت شائعة الاستخدام في الإلكترونيات وكاميرات الفيديو في التسعينيات، واستخدمت على نطاق واسع في السيارات الهجينة (كانت أولها تويوتا بريوس).

 

في ثمانينيات القرن الماضي، أنتج الباحثون في شركة جنرال موتورز مغناطيس “نيوديميوم-حديد-بورون” واخترعت شركة (Magnequench) الأميركية مغناطيسا خفيفا وقويا ودائما يستخدم في النوافذ الكهربائية وأقفال الأبواب ومحركات مساحات الزجاج الأمامي للعربات، وجهاز تشغيل المحرك الكهربائي. ومغناطيسا آخر صغيرا لمحركات الأقراص الصلبة للكمبيوتر، وساعد ذلك في انتشار أجهزة الكمبيوتر الشخصية في المكاتب والمنازل (بداية بالولايات المتحدة) خلال التسعينيات.

 

وتوسع استخدام العناصر الأرضية النادرة في الإلكترونيات خلال تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن 21. ففي أوائل التسعينيات، طورت شركة (Bell Labs) الأميركية مضخم الألياف المشبع بالإربيوم (Er) لتعزيز الإشارة في كابلات الألياف الضوئية. وأتاحت هذه الأجهزة الصغيرة إمكانية إنشاء شبكة عالمية من كابلات الألياف الضوئية الطويلة، التي طورت وخفّضت سعر المكالمات الهاتفية بعيدة المدى، وتنقل الآن بيانات الإنترنت حول العالم.

 

وأظهر إصدار أول هاتف (iPhone) في عام 2008 مدى التقدم في علم المعادن الأرضية النادرة والتطبيقات. وتستخدم الهواتف الذكية “اللانثانوم” لتقليل التشوه في عدسات الكاميرا الزجاجية الصغيرة، ومغناطيس “النيوديميوم” لتحسين جودة الصوت من مكبرات الصوت الصغيرة، وفوسفور “الإيتريوم والإربيوم” لتوفير ألوان براقة في شاشة صغيرة موفرة للطاقة.

رواسب المستقبل

 

بشكل عام، أصبحت معظم العناصر الأرضية النادرة تستعمل محفزات (Catalysts)، وهي مواد تسرّع عملية التفاعل الكيميائي في صناعة السيارات والبتروكيمياويات، وكذلك مغناطيسا في التقنيات التقليدية والمنخفضة الكربون، وفي إنتاج السبائك المعدنية الخاصة والزجاج والإلكترونيات العالية الأداء.

 

وأمكن مثلا استخدام سبائك النيوديميوم (Nd) والساماريوم (Sm) لإنشاء مغناطيس دائم (Permanent Magnet) عالي الأداء يتحمل درجات حرارة عالية (أقوى مغناطيس معروف هو سبيكة من النيوديميوم مع الحديد والبورون). وباتت هذه المعادن مثالية وأساسية لمجموعة متنوعة من تطبيقات الإلكترونيات والصناعات العسكرية المهمة والتطبيقات العالية التقنية، وفي مكبرات الصوت للهواتف الخلوية والمايكروفونات.

 

ويمكن أن تؤدي إضافة عناصر كيميائية أخرى مثل “الديسبروسيوم” (Dy) و”البراسيوديميوم”(Pr) إلى تغيير أداء وخصائص المغناطيس، لاستخدامات أكثر دقة وتعقيدا. ويعد الليثيوم والنيكل والكوبالت والمنغنيز والغرافيت (وهي لا تصنف ضمن المعادن النادرة) أيضا من العناصر الأساسية في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية.

 

وتستخدم هذه المغناطيسات والعناصر في صناعة محركات السيارات الهجينة والكهربائية والمولدات في توربينات الرياح والأقراص الصلبة والأجهزة الإلكترونية المحمولة والهواتف المحمولة وأجهزة التصوير الطبي.

 

فعلى سبيل المثال، تدخل في صناعة هواتف آيفون سبعة عناصر من المعادن النادرة، إضافة إلى الذهب والفضة. ويتطلب إنتاج ميغاواط واحد من طاقة الرياح 171 كيلوغراما من معادن الأرض النادرة، وتتطلب طائرة مقاتلة أميركية من طراز “إف-35” (F-35) حوالي 427 كيلوغراما من تلك المعادن (وزنها الإجمالي 22 طنا). وتحتوي غواصة نووية أميركية من طراز فرجينيا مثلا ما يقرب من 4.2 أطنان من المعادن النادرة (وزنها الإجمالي نحو 7800 طن).

تتصدر الصين قائمة إنتاج المناجم واحتياطيات العناصر الأرضية النادرة (شترستوك)

 

وتستخدم هذه العناصر الأرضية -بالإضافة إلى معادن أخرى لا تصنف نادرة- في صناعة الألواح الشمسية وأجهزة الرؤية الليلية والأسلحة العالية التوجيه ومعدّات الاتصالات وتحديد المواقع ومنظومات الدفاع الجوي وغيرها من الأجهزة الإلكترونية الدفاعية، كما أنها تعدّ مكونات أساسية لصنع السبائك الشديدة الصلابة المستخدَمة في الدبابات والمدرعات والقذائف والمحركات النفاثة والأقمار الصناعية والسيراميك والعوازل الحرارية للصواريخ، وفي المنتجات الطبية كعقاقير علاج مرض السرطان.

 

وهي أيضا حيوية في إنتاج الفوسفور المستخدم في صناعة المصابيح والشاشات المسطحة، وبطاريات الحالة الصلبة القابلة لإعادة الشحن (Ni-MH) والليزر والألياف البصرية، بجانب أنها عناصر محورية في التقنيات الناشئة، كالتبريد المغناطيسي وخلايا وقود الحالة الصلبة، وتخزين الهيدروجين.

 

وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2028، ستصل نسبة استخدام المعادن النادرة في الصناعات التحويلية إلى 32% في الزجاج، و21% في إنتاج المحفزات، إلى جانب 17% في إنتاج المغناطيس، فيما تذهب المؤشرات إلى ارتفاع استخدامات تلك العناصر النادرة في إنتاج الطاقة النظيفة، ليصل إلى أكثر من 40% خلال عام 2040، صعودا من 20% عام 2010.

 

وتتصدر الصين قائمة إنتاج المناجم ومخزونات العناصر الأرضية النادرة، باحتياطي يبلغ 44 مليون طن و140 ألف طن من الإنتاج السنوي للمناجم. وتأتي كل من فيتنام والبرازيل في المرتبة الثانية والثالثة من حيث الاحتياطيات بـ22 مليون طن و21 مليون طن على التوالي، لكن إنتاج منجميهما يعد الأضعف ين جميع البلدان، حيث يبلغ ألف طن فقط لكل منهما سنويا، وهو ما يحيل إلى أهمية اكتساب الأدوات والقدرة على المعالجة، وقد سبقت فيها الصين بشكل كبير.

صراع جيوسياسي

 

انطلاقا من الأهمية الشديدة لهذه المواد، تشكلت خريطة عالمية لمكامن ومناطق إنتاجها واستهلاكها وتصديرها، وأصبحت الاحتياطات الإستراتيجية منها أهم من الوقود الأحفوري في حد ذاته، فالعالم يتجه -ولو بخطى وئيدة- نحو ما يسمى الاقتصاد الأخضر والرقمي، وتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الملوثة، وتعد هذه العناصر النادرة عاملا مهما في أسباب هذا التحول.

 

وتزامن تزايد الاعتماد على عناصر الأرض النادرة مع اقتراب حقبة طويلة من سيطرة واحتكار الدول الغربية لهذه الموارد من النهاية، فلم تعد سلاسل الاستكشاف والإنتاج والتوريد والمنافسة محصورة على البلدان الغربية (الولايات المتحدة وبدرجة أقل بلدان الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا وأستراليا) بصفتها القوة الاقتصادية العالمية المهيمنة على قواعد التجارة العالمية والاقتصاد العالمي لعقود مضت.

 

لم يعد الابتكار والإنتاج الصناعيان أيضا من الاختصاصات الحصرية لاقتصادات هذه الدول، التي استفادت من مرحلة الاستعمار وما بعدها، فطموحات الصين فيما يتعلق بالتصدير، وسيطرتها على سلاسل الإنتاج والتوريد الرئيسية منذ التسعينيات غيرت اللعبة.

 

وفضلا عن ذلك، فإن مبادرة الحزام والطريق الصينية -وهي خطة استثمار للبنية التحتية والتجارة مع الدول المشاركة في جميع أنحاء أفريقيا وأوراسيا وأميركا الجنوبية- تتحدى النماذج الغربية السابقة للتجارة والاستثمار والتعاون، ويمكن أن نضيف إليها مجموعة بريكس، التي هي في طور التوسع ككتلة اقتصادية وسياسية، أو منظمة شنغهاي للتعاون، والصين عضو أساسي في كلتيهما.

 

 

ولا تنفصل الصراعات الدولية، وخصوصا بين القوى الكبرى، عن المصالح الجيوسياسية والنفوذ الذي يرتبط بمدى توفر موارد الطاقة والتعدين بأنواعها وخطوط إمدادها وسهولة استخراجها ونقلها، وفي هذا السياق جاءت الحملات الاستكشافية ثم الاستعمارية في القرن الـ17، والحروب الأخرى، ولعل آخرها الحرب في أوكرانيا واستعمال سلاح الغاز والنفط، (تم استثناء استيراد اليورانيوم المخصب من روسيا) والحروب التجارية الناشئة مع الصين حول المعادن النادرة وأشباه الموصلات، والتوتر حول تايوان، والبحث عن المجال الحيوي في أفريقيا وغيرها.

 

وفي محاولة التخفيف من حدة هذا السلاح الصيني الناعم، عملت الولايات المتحدة على افتتاح بعض المناجم في دول صديقة مثل أستراليا والأرجنتين وكندا، وتسعى لاستعادة نفوذها في أفريقيا، لكن هذه الأنشطة بالنسبة لها تبدو مكلفة، وتخضع لشروط بيئية صارمة بالمعايير الأميركية، ولا يمكن أن تلبي في النهاية حاجتها الكبيرة والمتزايدة للمعادن النادرة.

 

جاءت أزمة عنصري “الغاليوم” و”الجرمانيوم” الجارية، ردا على الخطوة الأميركية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، بحظر الصادرات أشباه الموصلات المتطورة ومعدات تصنيعها إلى الصين، وحظر شراء خدمات أو منتجات الشركات الصينية كفصل جديد ضمن صراع بأبعاد وأوجه متعددة.

 

ففي عام 2019، هددت الصين بتقليص صادرات المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة ردا على حظر شركة “هواوي” (Huawei)، وفي فبراير/شباط 2021، أطلقت بكين تهديدا مماثلا للضغط على واشنطن وثنيها عن بيع مقاتلات “إف-35” إلى تايوان.

 

وفي أوائل 2021، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن إعطاء الأولوية لتأمين موارد 4 منتجات حيوية، هي أشباه الموصلات وبطاريات السيارات والمكونات الصيدلانية النشطة والمعادن النادرة، وهو قطاع سيستغرق 10 سنوات على الأقل لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ولا تريد الولايات المتحدة أن تبقى رهينة للصين، حيث تعتمد عليها حاليا بنسبة 98% في توفير المعادن النادرة.

 

في اجتماع لمجموعة السبع في أبريل/ نيسان 2023 تم الاتفاق على تخصيص 13 مليار دولار (14.1 مليار دولار) لتمويل مشاريع التعدين الجديدة، في حين تخطط ألمانيا لإنشاء صندوق مماثل بقيمة ملياري يورو (2.17 مليار دولار)، سعيا لتجنب الهيمنة الصينية.

 

وفي وقت يعتمد فيه الاتحاد الأوروبي أيضا بنسبة 98% على المعادن النادرة الصينية، عرضت المفوضية الأوروبية على البرلمان الأوروبي في مارس/آذار 2023 قانون المواد الخام الحرجة، الذي يهدف إلى تسهيل التمويل والسماح بإنشاء مشاريع التعدين والتكرير الجديدة لهذه المواد وإبرام التحالفات التجارية، لتقليل اعتماد الكتلة على الموردين الصينيين، وتقويض الريادة الصينية التي تحولت إلى سلاح يخشاه الغرب.

ريادة الصين المقلقة

 

في صناعة عناصر الأرض النادرة، لم تكن هيمنة الصين مصادفة، فقد أدت سنوات من البحث والتطوير الصناعي ضمن إصلاحات اقتصادية إلى تطوير مكانة متميزة لها في السوق العالمية، وباتت لدى جمهورية الصين الشعبية الآن القدرة على التحكم في الإنتاج والمعالجة والتوريد العالمي لهذه المعادن القيمة، كما أضحت قطبا صناعيا وتكنولوجيا، وتبوّأت المركز الثاني في الاقتصادات العالمية. فكيف سيطرت الصين على سوق المعادن النادرة؟

 

بحلول أواخر السبعينيات، بدأت الحكومة الصينية في تطوير قدراتها التصنيعية والتجارية العالمية كوسيلة لتأمين الاستقرار السياسي، والتغلب على الأزمة التي أعقبت ما عرف بسياسة “القفزة الكبرى إلى الأمام” التي قادها الزعيم ماو تسي تونغ (1893-1976)، بهدف التحول السريع من الاقتصاد الزراعي إلى الصناعي (1958-1960) والثورة الثقافية (1966-1976) التي كانت تهدف إلى اجتثاث الطبقة البورجوازية في الحزب الشيوعي.

 

وفي عام 1976، أصبح دينغ شياو بينغ زعيما للحزب الشيوعي الصيني ثم رئيسا (1978-1989)، ونفذ مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي هدفت إلى جعل الصين قوة اقتصادية دولية والعودة بقوة إلى التجارة الدولية، مما أتاح فسحة من الحرية الاقتصادية، دون أن إلغاء تحكم الدولة وسيطرة الحزب الشيوعي الحاكم، وكان تطوير صناعة العناصر الأرضية النادرة من العناصر المهمة في هذا النهج.

 

الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ استشرف المستقبل عندما قال قبل رحيله عام 1997 إن الأتربة النادرة ستصبح أكثر أهمية من نفط الشرق الأوسط، وستمنح الصين مكانة كبرى.

 

وبين عامي 1978 و1995، زاد إنتاج الصين السنوي من العناصر الأرضية النادرة بمعدل 40% سنويا، وزادت صادراتها كذلك بشكل سريع، وتسبب ذلك في انخفاض حاد في أسعار هذه المعادن عالميا، وتوقف المنتجون المنافسون عن العمل أو خفضوا إنتاجهم بشكل حاد غير قادرين على منافسة الأسعار الصينية، ونقلت بعض الشركات لاحقا أعمالها إلى الصين، وهو ما جعل الصين تتزعم سوق الإنتاج والمعالجة والتصدير.

 

وبدءا من تسعينيات القرن الماضي، سعت الشركات المملوكة للحكومة الصينية (6 شركات) إلى شراء أسهم مسيطرة في شركات تعدين عناصر الأرض النادرة الموجودة في بلدان أخرى. ففي عام 1995، انضمت شركتان صينيتان إلى مستثمرين أميركيين لشراء شركة (Magnequench) الأميركية الرائدة، وسمحت الحكومة الأميركية بالشراء مقابل الاحتفاظ بعملياتها في الولايات المتحدة لمدة خمس سنوات على الأقل، وبعد خمس سنوات ويوم واحد تم نقل المصنع إلى الصين.

 

لاحقا، سعت الشركات الصينية لشراء حصص مسيطرة في مناجم معادن الأرض النادرة في كل من الولايات المتحدة (منجم موليكورب ماونتين باس في 2005) وأستراليا (ماونت ويلد ماين التابع لشركة ليناس عام 2009)، لكن هذه المقترحات رُفضت من قبل هيئات الاستثمار الأجنبي في كلا البلدين، فقد كانت حرب المعادن النادرة والحرجة قد بدأت.

 

وفي ضوء التوترات الجيوسياسية المتزايدة والطلب المرتفع على معظم العناصر النادرة والمعادن الحرجة، بدأت الولايات المتحدة وأستراليا وكندا السعي لتقليل اعتمادها على الصين كمصدر للإنتاج والمعالجة، والبحث عن إمدادات خاصة. ففي عام 2021، بلغ الطلب العالمي على المعادن النادرة 125 مليون طن، وبحلول عام 2030 من المتوقع أن يصل إلى 315 مليون طن، ولدى الصين 60% من الإنتاج العالمي و85% من القدرة على المعالجة.

 

ورغم السيطرة الصينية على سوق المعادن النادرة والحرجة الضرورية للتكنولوجيا فائقة التطور، وسعيها الحثيث لاكتساب الريادة في إنتاج وتصدير المنتجات “عالية التقنية”، مازالت تعتمد على التقنيات الأجنبية للوصول إلى الأسواق. وقد عبر الرئيس الصيني عن قلقه بهذا الخصوص بقوله:

 

الاعتماد الشديد على التكنولوجيا الأساسية المستوردة يشبه بناء منزلنا فوق جدران شخص آخر، بغض النظر عن حجمه ومدى جماله، فلن يظل قائما أثناء عاصفة.

 

بواسطة شي جين بينغ

 

وفي المقابل، ارتفعت موازنات الدول الغربية الموجهة بدرجة أولى إلى استكشاف تلك المعادن على أساس سنوي. ففي كندا، زادت بنسبة 62%، تليها أستراليا بنسبة 39%، والولايات المتحدة بنسبة 37%. وفي أميركا اللاتينية (خصوصا البرازيل) ارتفعت بنسبة 29%، مقابل 12% في أفريقيا التي تزخر بأنواع عديدة من هذه المعادن، وأضحت حاليا مجالا للصراع الجيوسياسي بين القوى الكبرى في هذا الإطار، مع سبق صيني واضح.

 

قد يجد الاتحاد الأوروبي بعض الراحة في إعلان شركة “نورج مايننغ” (Norge Mining) اكتشاف منجم من الفوسفات يضاهي المخزون العالمي (71 مليار طن)، وهو ما يكفي لتغطية صناعة الألواح الشمسية وبطاريات السيارات الكهربائية عالميا خلال الأعوام المئة المقبلة، وفقا لما نشره موقع يوراكتيف.

 

كما أعلنت شركة التعدين السويدية “إل كيه إيه بي” (LKAB) اكتشاف أكثر من مليون طن متري من أكاسيد المعادن الأرضية النادرة في مدينة كيرونا شمالي البلاد، لكن استغلال هذه الثروات يتطلب وقتا واكتساب القدرة الكاملة على معالجة وتكرير المعادن الأرضية النادرة وتصنيع المنتجات الوسيطة.

 

ومع بدء عمليات التعدين في البلدان الأخرى، انخفضت حصة الصين من الإنتاج العالمي من 92% عام 2010 إلى 58% عام 2020. ومع ذلك، ما زالت الصين تتمتع بموطئ قدم قوي في سلسلة التوريد والمعالجة، وأنتجت 85% من التربة النادرة المكررة في العالم عام 2020. كما أنها ما زالت تحتكر قرابة نصف الاحتياطي العالمي للمعادن الأرضية النادرة، وتمتلك أكبر المصانع لمعالجتها.

 

وعلى عكس الدول الغربية، لا تحتكم الصين إلى معايير بيئية صارمة في عمليات التعدين، رغم أنها أن أكدت طموحها في التحول إلى “صفر انبعاثات كربونية” في 2060، وهو ما يجعلها كثر قدرة على المنافسة مقارنة بالولايات المتحدة، وتستفيد الصين من أيضا من أن معادنها موجودة في الرواسب الطينية مما يسهل استخراجها، إضافة إلى توفر اليد العاملة الرخيصة

)

مستقبل عناصر الأرض النادرة

 

من المرجّح أن تظل العناصر الأرضية النادرة -المكتشفة والتي سيجري اكتشافها- جزءا أساسيا من مستقبل البشر وتغيّر نمط حياتهم في علوم المواد إلى التطبيقات الطبية والتقدم في التكنولوجيا الخضراء والذكاء الاصطناعي، وفي المساعي للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

 

ومن المنتظر أن ينمو الطلب على “النيوديميوم” و”الديسبروسيوم” المستخدم في محركات توربينات الرياح بوتيرة أسرع، كما سيؤدي الانتقال المستمر بعيدا عن السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي إلى السيارات الكهربائية إلى زيادة الطلب على المغناطيسيات والبطاريات، كما ستعزز صناعات الدفاع والفضاء المتطورة الطلب على المعادن النادرة، وهو ما سيبقي الصراع مفتوحا بين القوى العظمى، وقد يعيد تشكيل التوازنات الدولية الاقتصادية والسياسية.

 

لتلبية الطلب المستقبلي، تتجه شركات التعدين إلى فتح مناجم أخرى وبناء مصانع معالجة جديدة في أجزاء كثيرة من العالم، ولا سيما في أفريقيا. وتتصدر القارة الإنتاج العالمي لسبعة من عشرة معادن ضرورية للانتقال العالمي نحو الاقتصاد الأخضر، بما في ذلك الكوبالت والليثيوم والبلاتين، بالإضافة إلى المعادن الأرضية النادرة. وتم العثور على العديد من الرواسب الغنية بالمعادن النادرة في ملاوي عام 2022 عبر شركة (Mkango Resources) الكندية، ومن المتوقع أن يبدأ إنتاج منجمها (Songwe Hill) عام 2025.

 

كما أعلنت شركة “بانرمان إنرجي” (Bannerman Energy) الأسترالية أنها استحوذت على حصة 41.8% في شركة “كريتيكال ميتالز” (Critical Metals) في ناميبيا التي تمتلك 95% من عمليات منجم “لودفال” (Lofdal) للأتربة النادرة الثقيلة، والذي ينتج نحو ألفي طن سنويا ويحتوي على رواسب غنية لاثنين من أثمن المعادن الأرضية النادرة الثقيلة، وهما “الديسبروسيوم” و”التيربيوم”.

 

وفي جنوب أفريقيا، يتم التوسع في استغلال منجم “ستينكامبسكرال” (Steenkampskraal) الذي يحتوي على 15 عنصرا وحوالي 87 ألف طن من إجمالي أكاسيد الأرض النادرة، مع ترسبات كبيرة من عنصري “النيوديميوم” و”البراسيوديميوم”. وحصلت شركة أنغولية تابعة لشركة “بينسانا رار إيرث” (Pensana Rare Earths) البريطانية عام 2020 على حقوق تعدين حصرية لمنجم (Longonjo) لمدة 35 عاما، ويتضمن احتياطات مركزة من هذه المعادن.

 

وتحاول هذه الشركات الغربية العودة بقوة ومنافسة النفوذ الصيني المتزايد في أفريقيا، حيث تعدّ بكين الشريك التجاري الأول للقارة ومستثمرا رئيسيا في التعدين ومشاريع البنية التحتية. ووصل حجم التجارة بين الصين وبلدان القارة عام 2022 إلى 282 مليار دولار، مع نمو سنوي يقدر بأكثر من 11%، مقابل تراجع فرنسي وأميركي.

 

وتستثمر شركة “زيمين” الصينية العملاقة للتعدين (Xiamen Tungsten Corporation) وشركات صينية أخرى في مناجم عديدة بالدول الأفريقية، في أنغولا وزيمبابوي وناميبيا ومالايو وجمهورية الكونغو الديمقراطية وروندا، بالإضافة على حضورها الكبير في إندونيسيا ولاوس المجاورة وميانمار، حيث الاحتياطات الكبيرة من المعادن النادرة، وتسعى إلى التعدين في أفغانستان حيث تم اكتشاف احتياطات كبيرة خصوصا من الليثيوم

 

وبالنظر إلى أن الطلب على المعادن النادرة وشبه النادرة سيزداد سبعة أضعاف بحلول سنة 2050، وفق تقديرات البنك الدولي تبعا للتوسع في الاقتصاد الرقمي، يتسارع السباق نحو حيازتها ليشمل التعدين في أعماق البحار (أو القمر كما تخطط الصين مستقبلا، وكذلك الولايات المتحدة، أو استخراجها من المياه الحمضية التي يتم تصريفها من المناجم المهجورة.

 

كما تسعى الدول إلى تصميم تقنيات أفضل لتقليص أو إعادة استخدام كميات أقل من المعادن الأرضية النادرة داخلها، ففي أعقاب أزمة عام 2010 مع الصين، اتجه صانعو السيارات لاستخدام كميات أقل من المعادن الأرضية النادرة. وتسعى شركات أخرى إلى تصميم الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية بحيث يسهل إصلاحها بما فيها من مواد نادرة بدلا من التخلص منها ببساطة.

 

وتتوسع الصين مثلا في استعادة العناصر الأرضية النادرة من النفايات الإلكترونية عبر استيرادها بشكل واسع من جميع أنحاء العالم ومعالجتها وإعادة تدويرها وتعدينها واستثمارها، وبالتالي التقليل من الأضرار التي تسببها للبيئة في حالتها الطبيعية.

 

ليس التنافس على الأتربة النادرة إلا جزءا من صراع عالمي أشمل على الريادة، يراوح بين التكنولوجي والسياسي والعسكري، قد يزداد مع تعدد الأقطاب الدولية، والانتقال الحثيث إلى اقتصاد المعرفة. وستعتمد الموازين الدولية والريادة العالمية مستقبلا على مدى التحكم في اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا الفائقة التطور المدعومة بثروات طبيعية هائلة من المعادن النادرة والكفاءات البشرية.

 

وفيما أصبحت الكفة تميل قليلا إلى الجانب الصيني في هذا السياق، لا تظهر السياقات الدولية أي علامة على التراجع، بما قد ينقل الصراع مستقبلا إلى حالة الصدام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

15 + 16 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube