في هذا الكتاب تُحلِّل مجموعة واسعة من الباحثين الفرنسيين المختصين في متابعة تطورات الشرق الأوسط وأهميته كرقعة مصغرة لاستراتيجيات القوى الكبرى الإقليمية والدولية، ومن الكُتَّاب ذوي الأصول شرق الأوسطية، في دراسات مقتضبة، مختلفَ القضايا التي تفور بها منطقة من أنشط المجالات الاستراتيجية التي يتضافر فيها العمق التاريخي والحضاري المحفز لمرجعيات قومية ودينية متنافسة غالبًا، أو متعايشة حتى إشعار آخر، مع الأهمية الجيواقتصادية التي يجسِّد النفط أهم مكوناتها، وتُؤجِّج استقطابًا دوليًّا وإقليميًّا مزمنًا، ناهيك عن ديناميات تحوُّل مجتمعي سياسي عسيرة تتصارع فيها قوى الدَّمَقْرَطَة مع السلطوية والحداثة مع الأصولية.
ورغم تنوع مشارب المساهمين في الكتاب، فإن أهم الأسماء المتخصصة منذ زمن طويل في الحقل العلمي والإعلامي الفرنسي معروفة بحسها البحثي المناهض للنزعة التدخلية الأميركية والمدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني. ويجدر التوقف في هذا الباب مثلًا عند منسقَي الكتاب، برتران بادي ودومينيك فيدال، ومعهما آلان غريش (Alain Gresh)، الذين نجدهم يجتمعون في التوقيع على بيان ضد القمع الإسرائيلي لمسيرات العودة في مايو/أيار 2018، تحت عنوان “حياة الفلسطينيين مهمة”. بادي هو أحد وجوه مدرسة اللغات والحضارات الشرقية في باريس، التي أنتجت أسماء مهمة تخصصت في قضايا الشرق الأوسط، ودومينيك فيدال الذي يُوصف بأنه حليف للفلسطينيين، سليل عائلة يهودية، وهو يعتبر الصهيونية تلطيخًا لليهودية، وآلان غريش، رأى النور في مصر، وهو من أعمدة “لوموند ديبلوماتيك” وأحد أكثر الأقلام انتقادًا للسياسات الإسرائيلية والأميركية.
وفضلًا عن هذه الأسماء، نلاحظ أن معظم المساهمين في الكتاب ينتمون إلى دوائر بحثية وإعلامية ذات نَفَسٍ تَقَدُّمي إنساني، بعضهم مستعربون من خريجي مدرسة اللغات والحضارات الشرقية، وآخرون من محرري “لوموند ديبلوماتيك” ذات النزعة اليسارية المناهضة لسياسات الهيمنة والنيوليبرالية، وبعضهم من أسرة موقع “أوريون” (الشرق) الذي يُدِيره آلان غريش. كان الرهان على القرب واضحًا أيضًا من خلال استكتاب باحثين ينحدرون من المنطقة (لبنان، وتركيا، وأفغانستان…).
والواقع أن منطقة الشرق الأوسط احتلَّت دائمًا موقعًا مميزًا في دائرة الاهتمامات الأكاديمية بالحقل المعرفي الفرنسي، من مقتربات مختلفة تاريخية وأنثروبولوجية وأدبية واستراتيجية وغيرها. ولعل هذا الاهتمام جزء من تقليد موصول تبلور بالتزامن مع الحملات الاستعمارية لفرنسا بالمنطقة وما ارتبط بها من صلات ذات طابع ديني واقتصادي وسياسي. فالشرق الأوسط تبلور في العقل السياسي الفرنسي وجودًا مسيحيًّا يتطلب الحماية ومصالح اقتصادية ينبغي رعايتها، ونخبًا تابعة يتعيَّن ضمان استمرار ولائها، ومجال إشعاع ثقافي فرانكفوني يقتضي تَثْمِينَه دفاعًا عن “مجال محفوظ” في زمن احتدام التنافس الدولي بين النماذج الحضارية والتنموية.
والكتاب الذي نقوم بمراجعته يتوزَّع على ثلاثة محاور كبرى، ويُسْتَهَلُّ بورقة تقديمية تحليلية عامة. ويركز المحور الأول على الجذور التاريخية التي تصنع الواقع السياسي والاستراتيجي المعقد اليوم، من تعاقب الإمبراطوريات القديمة وتمركز الديانات التوحيدية الثلاثة إلى تداعيات الحملات الاستعمارية واللحظة المفصلية لزرع الكيان الإسرائيلي وديناميات تشكيل المجتمعات السياسية القومية. وحيث تبدو هذه العناصر في تطورها التاريخي المقارن مضيئة لجانب مهم من الإشكاليات والرهانات القائمة، فإن المحور الثاني ينكبُّ على مقاربة حركة الفاعلين في الساحة شرق الأوسطية؛ حيث ترسم الدراسات صورة مشهد انقسامي حاد الاستقطاب تتواتر فيه أسباب التنافس والصراع المتجددة وتتقاطع فيه مطامح الهيمنة إقليميًّا ودوليًّا. وسيرًا على منطق تحليلي ينطلق من العام إلى الخاص، ينفتح المحور الثالث على دراسات حالة تُولِي اهتمامًا مركزًا لقضايا محددة وفاعلين ومجالات استراتيجية بعينها داخل الخريطة شرق الأوسطية المركَّبة.
جذور الانقسام وبذور الصراع
في المحور الأول، يُقدِّم الكتاب قراءة في الدينامية التي فجَّرتها الصدمة الاستعمارية بعد تفكُّك الإمبراطورية العثمانية على مستوى تَشَكُّل نخب حاملة لِهَمِّ الإصلاح سواء بمرجعيات دينية أو قومية. فتَحْتَ عنوان “من النهضة إلى اليوم: القومية، واليسار، والإسلاموية العربية في مواجهة الغرب”، يلاحظ حميد بوز أرسلان (Hamit Bozarslan)، الباحث بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس، والمختص في الشؤون التركية والكردية، أن هذه الدينامية ستعرف تسارعًا وتجذرًا أكبر مع زرع الكيان الإسرائيلي منذ وعد بلفور. وجاءت نكبة 1948 لِتُوَجِّه صفعة مدوية حملت النخب على القيام بوقفة أليمة تجاه الحاضر والماضي أيضًا(1). وبموازاة مع الاختراق الإسرائيلي، كانت الحرب الباردة قد بدأت تمدُّ مجال تحقُّقها الاستراتيجي في المنطقة لِتَزُجَّ بها في لعبة التحالفات القسرية تجاه المعسكرين، الأميركي والسوفيتي، قبل أن تندلع الثورة الإيرانية واجتياح أفغانستان لتنطلق دينامية أخرى وتفتح أفقًا آخر على مستوى الاختيار الأيديولوجي والهوياتي في دول العالم العربي الإسلامي.
ويقترح آلان غريش في ورقة بعنوان: “الشرق الأوسط في الحرب الباردة” قراءة لمسار دخول الشرق الأوسط أجواء الاستقطاب الأيديولوجي الدولي متوقفًا عند إنشاء حلف بغداد 1955، وردِّ فعل الناصرية الذي تجسَّد في تأميم قناة السويس، عام 1956، وما تبعها من حملة فرنسية بريطانية إسرائيلية على مصر دشَّنت أُفُول النفوذ الأوروبي ودخول الاتحاد السوفيتي بقوة. غير أن هذا القوس لم يدم طويلًا؛ حيث انتكست القومية الاشتراكية بهزيمة 1967، ثم رحيل عبد الناصر، عام 1970، ليبدأ مسار جديد ازداد فيه نفوذ الدول الخليجية تزامنًا مع ارتفاع أسعار النفط. واختفى الاتحاد السوفيتي لكن الولايات المتحدة لم تصبح القوة المطلقة أمام تَعَقُّد الأوراق وتشابك حركة اللاعبين وطبيعة التحديات الجديدة.
في هذا السياق، يقارب دينيس بوشارد (Denis Bouchard)، المستشار لدى المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في شؤون الشرق الأوسط، والذي صدر له، عام 2012، كتاب حول “العالم العربي الجديد: رهانات واضطرابات”، حركة التَّمَوْقُع الإقليمي في سياسات إيران وتركيا سعيًا إلى الزعامة، منذ بداية الألفية الجديدة، مستثمرين انحسار الحضور الغربي في المنطقة. ويرصد الباحث المحطة المفصلية لهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي وضعت بعض الدول الخليجية تحت ضغط الإدارة الأميركية، وهو ما توطَّد في عهد أوباما. في ذات السياق، تعاظم التهديد الذي يُشَكِّلُه البرنامج النووي الإيراني؛ حيث لم يُبَدِّد اتفاق 2015 بين إيران والدول الكبرى (5+1) مخاوف هذه الدول. وانضاف إلى هذا التهديد التقليدي، أُفُق مسار تحوُّلٍ سياسيٍّ جديد مع حلول 2011، وتباشير “الربيع العربي” الذي نظرت إليه بعض الدول الخليجية بريبة، فقادت على إثر ذلك ما أسماه الكاتب “حلفًا مقدسًا”، في مماثلة تستلهم الذاكرة الأوروبية للحلف المقدس الذي جمع روسيا وبروسيا والنمسا، عام 1815، لقمع أي حركات ثورية في القارة العجوز.
بالنسبة لإيران، ينطلق الباحث من غزو العراق، عام 2003، والذي يراه هدية مزدوجة لطهران بتخليصها من صدام حسين عدوها اللدود وبمنحها السلطة لأنصارها الشيعة. وفي 2011، وضعت طهران قَدَمَها في سوريا دعمًا لنظام بشار الأسد، وفي 2014، قدَّمت الدعم للحوثيين في مواجهة الحرب، وفي 2017، مدَّت يدها إلى قطر في مواجهة الحصار.
توقف الكاتب بوشارد عند هذه المحطات لتجسيد الحركية الاستراتيجية والنشطة لإيران دفاعًا عن مواقعها أو منع قوى منافسة من ربح أوراق تفاوضية، لكنه يعود إلى القول: إن النفوذ الإيراني يبقى محدودًا بسبب محدودية الإمكانيات المالية والعسكرية للاضطلاع بهذه الطموحات الإقليمية، خصوصًا أنها تزاحم قوى دولية على غرار روسيا في سوريا وأميركا وإسرائيل.
وتُشكِّل تركيا الضلع الآخر لهذا الثالوث التنافسي في المنطقة، وقد وجدت في ربيع 2011 فرصة لتوسيع مجال حضورها الإقليمي، فأصبحت القاعدة الخلفية للجيش السوري الحر، ودشَّنت سياسات قُرْب من مصر في عهد الرئيس الراحل، محمد مرسي، وتونس مع النهضة، ودعمت الحكومة الشرعية في ليبيا ضد اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، وتتعاون على نحو وثيق مع قطر. ويرى الكاتب في ذلك عنوان سياسة لزعامة العالم السُّنِّي، وترويج نموذجها للإسلام السياسي الذي يناهض نماذج أخرى في المنطقة. رغم ذلك، فإن نهجها يبقى محدود النتائج، خصوصًا في العالم العربي؛ حيث الذاكرة العثمانية ليست إرثًا مستساغًا لدى نخب تخشى من موجة إمبراطورية عثمانية جديدة.
وفي رصد تطورات المشهد والتفاعلات الاستراتيجية سواء داخل الإقليم أو خارجه، لا يمكن القفز على اللحظة النفطية التي تصنع عامل استقطاب مزمن في المنطقة؛ فعن “دور نفط الخليج في النظام الدولي منذ الخمسينات”، يوجز ماثيو أوزانو (Matthieu Auzanneau) أهم المنعطفات في مسار بؤرة رئيسة للتنافس الإقليمي والدولي، منذ إبرام ميثاق “النفط مقابل الأمن”. ويتعلق الأمر بتدشين مرحلة إنزال استراتيجي للقوى الغربية، وخصوصًا أميركا، من أجل السيطرة على الذهب الأسود وإرساء هيمنة شركاتها “الأخوات السبع”.
ويرى الكاتب أوزانو، المتخصص في اقتصاد النفط والانتقال الطاقي، أن الصدمة النفطية وعمليات التأميم لم تُشكِّل تغييرًا جذريًّا في مشهد الهيمنة الغربية. فحتى تدفقات البترودولار الناجمة عن طفرة 1973 توجَّهت نحو تغذية الصناعات والبنوك الغربية أحيانًا من خلال اتفاقات ظلت تفاصيلها سرية على غرار اتفاق 1974 بواشنطن. ويلاحظ أوزانو أن الهاجس النفطي لم يكن بعيدًا عن السياسات الإقليمية والدولية تجاه الساحة السورية منذ اندلاع الحرب الأهلية في 2011. لقد بدت بعض الدول قلقة من تطلع دمشق وطهران وبغداد إلى بناء أنبوب لنقل الغاز نحو الفضاء المتوسطي، بمباركة “يقظة” من روسيا. وفي المقابل، ليس التدخل الأميركي لاستعادة مدينة الموصل من تنظيم “الدولة الإسلامية” بين 2016 و2017 ببعيد عن الثروات التي يزخر بها الإقليم. وباستثناء ذلك، فإن الفراغ الذي خلَّفته أميركا في العراق اجتذب شركات النفط الروسية والصينية، التي تتجه لتصبح رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية للقوة والريادة.
وبرؤية أوسع للحركة في رقعة الشطرنج، وتحت عنوان “القوى في الشرق الأوسط: لعبة كبرى جديدة خطرة”، يُحلِّل فريديريك شاريون (Frédéric Charillon)، أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية في كلية العلوم السياسية بباريس، ومؤلِّف كتاب “شمال إفريقيا والشرق الأوسط”، تفاعلات اللاعبين الكبار التي أعقبت المسار المفاجئ للانسحاب الأميركي والأوروبي (ولو النسبي) من المشهد بعد الإنزال العسكري الذي رافق عاصفة الصحراء 1990-1991. هذا الانسحاب لا يخص الغرب فقط، بل الدبلوماسيات العربية أيضًا التي انمحى وزنها أمام أجندة القوى الإقليمية غير العربية (إسرائيل، تركيا، إيران)، وهو فراغ نفوذ في منطقة تكره الفراغ.
ويرى الباحث شاريون أن الربيع العربي، رغم إحباطاته، أطاح برؤساء تابعين للغرب من قبيل زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر. وجاءت الأزمة السورية لتكرس الانمحاء الغربي الذي تعزَّز في عهد دونالد ترامب بعد إعلان نيته الانسحاب من العراق. وتكتسي الصورة التي التقطها قادة إيران وتركيا وروسيا، في أستانة، عام 2017، دلالة رمزية على التَّحكُّم في دفة المفاوضات حول مستقبل سوريا وترتيبات المنطقة ذات الصلة بها؛ حيث تمدُّ إيران مجال نفوذها من أفغانستان حتى المتوسط (عبر العراق وسوريا ولبنان) مع توابع في اليمن والبحرين. وتستفيد إسرائيل من تقارب أنظمة خليجية في مواجهة طهران، ومن دعم أميركي أكثر قوة، أما تركيا فتتدخل عسكريًّا في سوريا وتُلقِي بثقلها في ليبيا ضد خليفة حفتر، وفي شمال العراق.
إن هذا الفراغ الاستراتيجي الذي شجع بروز قوى إقليمية مُتَوَثِّبَة للزعامة لا ينفصل عن مسار في السياسة الخارجية الأميركية لَخَّصَه عنوان مساهمة الصحافي، سيلفان سيبيل (Sylvain Cypel)، الذي عَمِل بصحيفة “لوموند” و”لوكوريي إنترناسيونال” ويشارك آلان غريش تحرير موقع “أوريون”، “المحافظون الجدد في أميركا: تحلُّل أيديولوجي”. وينطلق الكاتب، الذي نشأ في إسرائيل وانتمى لسنوات إلى حزب يساري متطرف وظل مناهضًا للصهيونية، من أن توقيع واشنطن وحركة طالبان، في فبراير/شباط 2020، لاتفاق يقضي بسحب 40 في المئة من جنودها من أفغانستان قبل الانسحاب التام في أبريل/نيسان 2021، يطوي صفحة أيديولوجية في التاريخ الأميركي؛ ذلك أن اجتياح أفغانستان لم يكن مجرد ردٍّ على هجمات 11 سبتمبر/أيلول بل تطبيقًا لرؤية المحافظين الجدد المتطلعين إلى صناعة “قرن أميركي جديد” تفرض فيه واشنطن هيمنتها الكاسحة. ويرى هؤلاء في الشرق الأوسط منطلقًا للتهديدات التي تواجه أميركا، وفي مقدمتها الجهادية الراديكالية. لقد أرادوا اعتماد سياسة تَدَخُّلِيَّة، أحادية إِنْ لزم الأمر، تُشكِّل النظام العالمي، ولا تدع مجالًا لتمدد قوى جديدة من قبيل الصين. لذلك بدا الشرق الأوسط حقل تجريب لهذه الرؤية الشرسة التي وجدت في إيران خصمها الإقليمي الرئيسي. وحيث حدَّدت واشنطن العراق مجالًا للوقوف في مواجهة القوة الإيرانية، فإن العكس هو الذي حصل؛ إذ أتاح الوجود الأميركي مجالًا خصبًا لغرس النفوذ الإيراني في العراق. أكثر من ذلك، سمح انهيار سلطة الدولة بانبثاق تهديد تنظيم الدولة الذي استنزف الكثير من المقدرات الأميركية.
رهانات الزعامة والتموقع في حركة اللاعبين
في المحور الثاني، يتناول الكاتب، كريم إيميل بيطار (Karim Emile Bitar)، المشهد الاقتصادي شرق الأوسطي الذي يَسِمُه بـ”تعايش الدول النفطية الغنية مع أخرى تواجه أوضاعًا مالية صعبة”. ويلاحظ الباحث المشارك في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بباريس وأستاذ العلوم السياسية بجامعة سان جوزيف ببيروت، أن أزمة كوفيد-19 كشفت عمق الهشاشة الاقتصادية في معظم بلدان المنطقة. وهو يتتبع أبعاد هذه الهشاشة في انعكاساتها الاجتماعية والسياسية الوخيمة وتأجيجها للتوترات التي اتخذت أحيانًا طابع انتفاضات عربية تحمل شعار المطالبة بالعمل والكرامة. ويُعَدُّ انحسار جانب كبير من النسيج الاقتصادي، في تصدير الخامات النفطية والمعدنية، خاصية أخرى تُعمِّق هشاشة الاقتصاد في عدد من بلدان المنطقة، وهي تواجه (الهشاشة) ضربة مزدوجة: انخفاض أسعار النفط، وأزمة كوفيد-19.
ويجد انسداد الآفاق الاقتصادية صدى مباشرًا له على الصعيد الاجتماعي، يُلَخِّصُه جان بول شانيولو (Jean-Paul Chagnollaud)، رئيس معهد الأبحاث والدراسات حول المتوسط والشرق الأوسط، بعنوان ورقته “يقظة المجتمعات”. فبعد أن يستعيد الكاتب، الذي شارك في تأليف كتاب “فلسطين: سلب أرض”، مسار الحراكات التي أفضت إلى مصائر متفاوتة بين تغيير النظام أو زعزعته أو الانحدار إلى أهوال حروب أهلية…إلخ، يتأمَّل في طبيعة التشكيلات المساهمة في الانتفاضات ليرى أن انقسامها وتشتت رؤاها عامل مجهض، بل إن الحراك وإِنْ اتخذ ظاهريًّا شكل احتجاج مدني ديمقراطي فإنه كثيرًا ما انطوى على تموقعات قبلية وطائفية مما يعقِّد مسار التغيير ويُقلِّل حظوظ نجاحه. لذلك، كانت النتيجة دراماتيكية كما يلاحظ الكاتب؛ حيث “يجد الفرد نفسه في مواجهة الدولة”، لكنه يحرص على ألا يُنهي ورقته بحتمية الفشل. فعلى ضوء مظاهرات 2019 التي شملت لبنان والعراق والسودان والجزائر، يبقى الشارع منجمًا واعدًا بالغضب(2).
وثمة منحى يستخلصه فيليب دروز فانسان (Philippe Droz-Vincent) من اختبار الربيع العربي للسلطات الحاكمة الحريصة على استمرار الوضع القائم، وهو تعزيز التعاون العسكري وزيادة مبيعات السلاح، من منطلق أن العَسْكَرَة والسلطوية ديناميتان مترافقتان. ولعل ارتفاع واردات السلاح في الشرق الأوسط بين 2015 و2019 بنسبة 61 في المئة مؤشر بالغ الدلالة.
ويصف مُؤَلِّف كتاب “الشرق الأوسط: دول سلطوية، مجتمعات محاصرة” بعض عمليات استيراد السلاح بالعبثية على غرار ترسانة مصر من الدبابات الحديثة وامتلاكها الأسطول الرابع من المقاتلات الأميركية (إف- 16)، دون أن تُلبِّي حاجاتها الميدانية. كذلك الشأن بالنسبة لدول الخليج التي اقتنت معدات فائقة التطور مقابل قدرات عملياتية ضعيفة. ويربط الباحث هذا الاستثمار المتنامي في العَسْكَرَة بالتخوف من مفعول الانسحاب الأميركي، وهو ما تُجسِّده الإمارات التي تلقت أكبر كمية من الأسلحة الأميركية في الألفية الجديدة، لتصبح رابع مستورد للسلاح في العالم سنة 2009.
وفي سياق تحليل تداعيات صعود التهديد الإرهابي الجهادي على البنيات الداخلية والسياسية للدول، يكتب ريان حداد (Rayan Haddad)، الباحث في الشؤون اللبنانية، عن وضع المسيحيين في منطقة متقلبة، ومعاناتهم من تعاظم قدرة الإسلام الراديكالي، دون رعاية حقيقية لمصالحهم من قبل القوى الغربية، بل يرى الكاتب أن الخطاب المُشْبَع بالإحالات الدينية لجورج بوش الابن، في حربه على الإرهاب، أَجَّج نزعة الحركات الجهادية المسلحة لاستهداف المسيحيين.
وعن موقع الأجهزة السرية في قلب الدولة، تلاحظ أنييس لوفالوا (Agnès Levallois)، وهي مستعربة من خريجي معهد اللغات والحضارات الشرقية، ومُؤَلِّفَة كتاب “دول الخليج العربية: عقدان من التقلبات”، أن هذه الأجهزة تتموقع كحامية للنظام لا للمجتمع(3)، مُحَلِّلَة تموقعها في الواجهة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول؛ حيث عرضت خدماتها على القوى الكبرى في حربها على الإرهاب. وقد أسهمت هذه اللحظة الاستراتيجية إذن في تعزيز القبضة الأمنية على المجتمع والحريات العامة.
“كيف تعيد إسرائيل بناء تحالفاتها في المشهد شرق الأوسطي الراهن؟”، في هذه الورقة يستعيد دومينيك فيدال (Dominique Vidal) اللحظة التي خسر فيها الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لعبة ليِّ الأذرع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في هجمته الاستيطانية، قبل أن يَحُلَّ دونالد ترامب، في إدارة البيت الأبيض، ليُطلق يد إسرائيل في مخططاتها التوسعية بما فيها الاعتراف بالقدس عاصمة لها، وضم الجولان، فضلًا عن الضغط السياسي والاقتصادي لفرض “صفقة القرن”.
ويرصد رفيق درب آلان غريش، في مناهضة الصهيونية ومُؤَلِّف كتاب “فلسطين: لعبة الأقوياء”، كيف دفعت إسرائيل أميركا للمواجهة مع إيران وفرض عقوبات مشددة عليها، والانسحاب من الاتفاق النووي، والملاحظ أن التحالف مع دونالد ترامب لم يمنع إسرائيل من تعزيز الصلة بروسيا بوتين الذي يحاول قيادة بلاده للعب بروح الزعامة في المنطقة. وبالإضافة إلى روسيا، يحاول بنيامين نتنياهو الالتفاف على بعض الصعوبات والانتقادات التي يواجهها في الاتحاد الأوروبي بالمرور عبر بعض دول وسط وشرق أوروبا التي يحكمها قادة من اليمين الشعبوي (بولندا، المجر، التشيك…). وفي سياق تنويع الشركاء، تواصل إسرائيل تغلغلها في القارة الإفريقية.
بالطبع، لم تظل الصين بعيدة عن المشهد الإقليمي؛ حيث تواصل تمديد شبكة شركائها تزامنًا مع تعاظم قوتها الصناعية والتجارية. إنه “الرهان الصيني” الذي يكتب عنه دومينيك باري (Dominique Bari)، أحد المتخصصين البارزين في العلاقات الدولية للصين على ضوء اعتبار بيجين المنطقة “مجالًا حيويًّا، ضروريًّا وحاسمًا”. فهي تلبي احتياجاتها الطاقية وتُشكِّل أسواقًا جديدة لمنتجاتها، فضلًا عن دورها المنشود في تحقيق تطلعاتها الجيو-اقتصادية من خلال مشروع “الحزام والطريق”. ويسجِّل الكاتب أن الصين نجحت في نسج شراكات استراتيجية مع دول شرق أوسطية تُعَدُّ حليفًا تقليديًّا لأميركا. وتحاول رفع أي عوائق أيديولوجية وعدم التموقع في النزاعات والاختلافات البينية؛ حيث تخطط لمشاريع تعاون مع السعودية السُّنِّية وإيران الشيعية ومع إسرائيل وتركيا… في سياق شراكات مرنة ومفتوحة. غير أن الصين تظل منشغلة بالرهانات الأمنية على البحر الأحمر وبحر عُمان من حيث تداعياتها على أمن شبكة المبادلات.
وعلى غرار الصين، يقتفي إيغور دولانوي (Igor Delanoë)، المدير المساعد للمرصد الفرنسي الروسي، المختص بقضايا السياسة الخارجية، عودة روسيا إلى الشرق الأوسط كمنطقة تعتبرها مفتاحًا للزعامة؛ حيث يُعَدُّ تموقعها الإقليمي جزءًا من سياستها لبلوغ الريادة العالمية في وجه المجموعة الأورو-أطلسية والغرب عمومًا.
ويرى أن روسيا تنبَّهت إلى ضرورة استغلال تآكل القبضة الأميركية بعد حروبها في العراق وأفغانستان. ويلاحظ أن روسيا تنهج سياسة محافظة تجاه ما تعتبره مغامرات التغيير، وهو ما يفسر دعمها للنظام السوري وسياستها في ليبيا. وتواصل موسكو تعزيز علاقاتها مع مصر وإيران وتركيا، ويشكِّل الثلاثة زبائن للمركَّب العسكري الصناعي الروسي. وخارج تجارة السلاح، تُعَدُّ روسيا موردًا رئيسيًّا لبلدان الشرق الأوسط بالحبوب: تركيا، وإيران، ومصر، والسعودية، والإمارات.
واستكمالًا لمدارات التفاعل بين المنطقة وباقي العالم، يتوقَّف حجي بوبا نوهو (Alhadji Bouba Nouhou)، الباحث في العلوم السياسية ومُؤَلِّف كتاب “إسرائيل وإفريقيا: علاقة مضطربة”، عند العلاقات مع إفريقيا، ملاحظًا أنه بعد مراحل طبعتها الروابط الدينية والمساعدات المالية، انفتح عهد أكثر براغماتية يجمع بين التدخل العسكري والاستثمار الاقتصادي. ويحلِّل الباحث تحركات الإمارات على الساحل اليمني لإبعاد طهران عن البحر الأحمر وباب المندب الذي تمرُّ عبره 50 في المئة من نفطها المصدَّر ونفس النسبة من وارداتها المختلفة، وهو مجال ينشط فيه الإسرائيليون أيضًا بشكل خاص، في تقاطع مع مرامي الإمارات.
تركيا من جهتها، لم تقف متفرجة على التحرك في مجال استراتيجي واعد بالفرص. وفضلًا عن القرن الإفريقي، ألقت أنقرة بثقلها من أجل التموقع في قلب مسارات التسوية على صعيد الأزمة الليبية. ويرى الكاتب أن الاستثمارات التركية تندرج في حرب نفوذ جيوسياسي مع باقي الدول السُّنِّية.
هذه السياسة الخارجية ينتقدها الباحث التركي في الشؤون الاقتصادية والسياسية، أحمد إنسيل (Ahmet Insel) في مقاربته لـ”تركيا أردوغان” كوجه آخر لسياسته الداخلية “القومية الشعبوية”. وهو يرى أنه منذ دُفِنَت آمال الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، تخبَّطت السياسة الخارجية في الفوضى بتقلبات في كل اتجاه، نحو القوى الأوراسية أحيانًا، ثم نحو الفضاء العربي الإسلامي أحيانًا أخرى، مع الإبقاء على علاقة عاصفة مع الاتحاد الأوروبي. أما التمدد التركي في المنطقة، فيراه الباحث تجسيدًا لنوستالجيا الإمبراطورية العثمانية(4)؛ مما يفسر مشاعر الارتياب لدى الجيران تجاه التهديد التركي.
واستكمالًا لرصد مواقع القوى الدولية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، تتساءل الصحافية، إيزابيل أفران (Isabelle Avran)، “هل سيمتلك الاتحاد الأوروبي وسائل فرض احترام القانون في الشرق الأوسط؟”. تبدو عناصر الإجابة سلبية في المجمل، حسب الكاتبة التي تنتمي إلى أسرة موقع “أوريون” المناهض لسياسة الاحتلال الإسرائيلية، فمنذ عقدين من الزمن، لم يُفْلِح الاتحاد في فرض أي عقوبة ضد الاستيطان غير الشرعي ولا ضد الجدار العازل الذي أدانته محكمة العدل الدولية، ولا ضد حصار غزة وقمع مسيرات العودة ولا ضد هدم المنشآت في الضفة الغربية، ومنها منشآت أوروبية. وكما ورد سابقًا، فإن نتنياهو فضَّل توطيد العلاقات مع دول مجموعة “فيشغراد” وتعرف اختصارًا بـ(V4) (بولندا، المجر، التشيك، سلوفاكيا) ومع منظمات اليمين المتطرف في أوروبا، بهدف التأثير على أوروبا منقسمة.
أما بالنسبة للقوة العظمى، فإن فيليب غوليب (Philip Golub)، أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية بباريس، يكتب عن “فك الارتباط الأميركي” الذي بدأ مع الرئيس باراك أوباما وتسارع مع دونالد ترامب الذي “احتقر القانون الدولي في اعترافه بالقدس” عاصمة لإسرائيل وضرب حصارًا شاملًا على إيران، منتقلًا بأولوياته إلى آسيا في مسعى لاحتواء الصين. ورغم اختلافات الأسلوب، فإن الكلفة المادية والرمزية لتدبير شؤون الشرق الأوسط أصبحت، بحسب الكاتب، عبئًا تَوَدُّ أميركا التحرُّر منه.
فهل يتحقق ذلك مع الإبقاء على ثلاثة ثوابت في السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة، بعد الحرب الباردة: النفط، وإسرائيل، ومنع بروز قوة إقليمية مهيمنة. في إطار هذه السياسة، يستدعي الباحث فكرة المؤرخ الأميركي، بروس كامينغز (Bruce Cumings)، الذي يرى أن هاجس الدَّمَقْرَطَة أخلى مكانه لتفضيل السلطوية التي تحمي مصالح أميركا، وتنسجم مع المقولات الاستشراقية المتجددة حول عدم جاهزية الشعوب ما بعد الاستعمار لحكم أنفسهم بأنفسهم؛ إذ باتت أميركا تخشى من أن تفضي الدَّمَقْرَطَة إلى فقدان السيطرة. ولعل هذا التحليل يُضيء جانبًا من العتمة حول موقف أميركا من الربيع العربي، الذي كان اختبارًا عمليًّا لمصداقية الخطاب الغربي حول الديمقراطية.
مسارات سياسية بين الأزمة والتجاوز
يتضمن المحور الثالث، في كتاب “الشرق الأوسط والعالم”، مجموعة من دراسات الحالة التي تتناول أساسًا تهميش القضية الفلسطينية، وترى ساندرين منصور ميريان (Sandrine Mansour-Mérien) منطلق هذا التهميش في أحداث 11 سبتمبر/أيلول التي صعدت بمكافحة الإرهاب إلى أولوية الأولويات، وهو ما انتهزته إسرائيل والتقطه رئيس الوزراء الأسبق، أرييل شارون، بقوله: “عرفات هو ابن لادن بالنسبة لنا”، فكان انطلاق هجمة متعددة الأبعاد من الاحتلال العسكري إلى الاستيطان والضم وانتهاك الاتفاقات.
وترى الباحثة المختصة في تاريخ الشرق الأوسط، وخصوصًا فلسطين، أن حروب الحراك العربي في سوريا واليمن زادت من تهميش القضية الفلسطينية. بل إن مؤتمر أنابوليس الذي انعقد في الولايات المتحدة الأميركية، عام 2007، بين الدول العربية وإسرائيل لإيجاد تسوية للنزاع العربي-الإسرائيلي كان في الواقع يُعبِّئ لجبهة موحدة ضد إيران التي أصبحت العدو الأول(5). ومع دونالد ترامب، تضيف الباحثة، تأسَّس منعطف جديد في السياسة الأميركية التي تخلت عن عناصر الحذر وخيار تفضيل المفاوضات لصالح انخراط كلي وراء إسرائيل، وسط صمت دولي.
مقابل إطلاق يد إسرائيل في فلسطين، كتب كريم بكزاد (Karim Bakzad)، من معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بباريس والمختص بشؤون أفغانستان وإيران والعراق، عن انخراط أميركا في تسوية الأزمة الأفغانية بعد فشل سنوات من محاولة فرض السلام الأميركي. ويرى الباحث أن الاتفاق الموقع مع طالبان، في فبراير/شباط 2020، تكريس لانتصار الحركة ومن شأنه إضعاف الحكومة. وقد اعتبر كثير من المعارضين في أميركا، ومنهم ديفيد بتريوس، القائد السابق للقوات الأميركية في العراق وأفغانستان، أن الاتفاق يضر بمصالح واشنطن المتمثلة في منع توجيه هجمات إرهابية ضدها. ويتساءل البعض: هل تغادر أميركا بلدًا ذا ثقل جيوستراتيجي بين إيران وروسيا، عبر آسيا الوسطى، باكستان والصين، وبالتالي قد يكون ورقة في سياسة احتواء الصين؟
أما في سوريا، فتُشكِّل “لعبة القوى الإقليمية والدولية في النزاع السوري” موضوع ورقة الباحثة، مانون نور طنوس (Manon-Nour Tannous)، صاحبة كتاب “شيراك، الأسد والآخرون: العلاقات الفرنسية السورية منذ 1946″، والتي تربط بين تخاذل القوى الغربية، وفي مقدمتها أميركا، والتدخل الروسي لإنقاذ نظام بشار الأسد وإسقاط حلب، عام 2016.
وفي الجوار، تسهم أوريلي ظاهر (Aurélie Daher)، أستاذة العلوم السياسية في باريس والمهتمة بالإسلام السياسي الشيعي، بورقة حول ما تسميه “الحركة الاجتماعية المستحيلة في لبنان”؛ حيث تعرض منحنى شبه حتمي يفضي بشكل متكرر إلى إجهاض كل تعبير احتجاجي ضد الواقع السياسي والاقتصادي. وحتى إن اتخذ التعبير الاجتماعي في البداية أفقًا عابرًا للانتماءات السياسية والطائفية، فإنه لا يلبث أن يسقط في يد قادة المجموعات الطائفية والأيديولوجية التقليدية، في غياب القدرة على اقتراح بديل منسجم وتلمُّس مدارات لتطبيق هذا البديل. ولا تلبث هذه الانسدادات مهما كانت طبيعتها أن تندرج في لعبة التوازنات والتحالفات الإقليمية والدولية من خلال شبكة الولاءات.
ومن جهتها، تتناول الباحثة سيلفي جان (Sylvie Jan)، رئيسة جمعية “فرنسا كردستان” والتي تناضل دعمًا للنساء الكرديات، تطورات القضية الكردية التي ترى أنها عملة تبادل في معترك الدول الكبرى. فالولايات المتحدة الأميركية، في عهد دونالد ترامب، أطلقت يد تركيا في شمالي سوريا، بينما روسيا حددت أولويتها في الإبقاء على الأسد، وأوروبا لم تحوِّل نواياها في دعم الأكراد إلى وقائع.
أما “إيران، بين اللعبة الإقليمية واللعبة الدولية” فكانت موضوع مساهمة تيري كوفيل (Thierry Coville)، الباحث المختص بالشأن الإيراني، الذي ينطلق من لحظة خروج واشنطن من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018. ويربط كوفيل بين هذا المأزق وانخراط إيران بشكل أعمق في الجوار، وخصوصًا الحرب الأهلية في سوريا والتدخل ضد تنظيم الدولة في العراق ودعم الحوثيين في اليمن. واختارت إيران البقاء في الاتفاق مع محاولة رفع كلفة السياسة الأميركية لترامب، لكن ذلك أدى إلى رفع خطر المواجهة. وتخدم مواصلة إيران تغلغلها في مناطق التوتر سياسة القوة تجاه واشنطن، والتي تنبني على الالتفاف على انعدام التوازن العسكري المباشر بامتلاك القدرة على توسيع نطاق النزاع ليشمل المنطقة برمتها.
ويبدو العراق معنيًّا بهذا المعطى الذي يجسد تقاطع السياستين، الأميركية والإيرانية. وترى مريم بن رعد، الخبيرة في الشؤون العراقية ومؤلِّفة كتاب “العراق: ثأر التاريخ”، أن الدولة المركزية في بغداد مدعوة إلى إطلاق عملية إعادة بناء في ظل لعبة دقيقة للمساومة مع فاعلين أقوياء، ومنهم حلفاء إيران الشيعة. فعدم رفع تحدي إعادة بناء الدولة على أُسُس المواطنة يجعل العراق دائمًا تحت غيوم العنف.
وفي اليمن أيضًا، “ميدان احتكاك الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين”، يلاحظ لوران بونفوي (Laurent Bonnefoy)، الباحث في مركز الأبحاث الدولية في باريس، أن الحرب في اليمن تمثِّل صراعًا بالوكالة، وفي مقابل استثمار إيراني محدود إلى جانب الحوثيين، فإن كلفة الحرب كانت باهظة. وأكثر من ذلك، يقف الباحث على تبلور نوع من التنافر بين أهداف أطراف الصراع. فبينما تحتفظ دول بثقتها في الحكومة المعترف بها دوليًّا بالرغم من ضعف دعمها الشعبي، فإن دولًا أخرى تقيم علاقات معمقة مع المجلس الانتقالي الذي يسعى إلى الانفصال.
ويتناول الكتاب قضايا أخرى تُشكِّل امتدادات لأزمات الشرق الأوسط وأبعادًا جديدة لبؤر النزاعات السياسية. وهنا يكتب فرانك فريكوسي (Franck Fregosi)، الباحث بالمركز الوطني للبحث العلمي في باريس ومؤلِّف كتاب “التفكير في الإسلام داخل العلمانية”، عن الإسلام في فرنسا على ضوء أزمات الشرق الأوسط؛ حيث يوضع المسلمون ومنظماتهم في دائرة الاتهام باستيراد نزاعات المنطقة، وخصوصًا الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، حتى إن مجرد انتقاد سياسة الاستيطان الإسرائيلي يُكَيَّف بأنه يصدر عن رفض وجودي لليهود. وتُخَيِّم نزاعات الشرق الأوسط بظلها على يوميات مسلمي فرنسا، بل إن بعض المحللين يرى أن منظِّري الحركات الجهادية يستثمرون في تأزيم وضع هؤلاء من خلال هجماتهم في أوروبا، وهو ما يدفع السلطات الفرنسية إلى سَنِّ سياسات تُضَيِّق على المسلمين وتستفزهم بما يخدم أهداف الجهاديين.
ويكتب رومان آبي (Romain Aby)، وهو باحث مختص في شؤون الخليج، عن “الأمن السيبراني والتحكُّم في المنطقة” انطلاقًا من انفجار التواصل الاجتماعي خلال الربيع العربي. فهذا الفوران حمل عددًا من الدول العربية على الاستثمار بشكل مكثف في تكنولوجيا مراقبة الحركات الاجتماعية. ويُقدِّم نموذجًا لذلك استثمارات الإمارات في هذا الباب. ففي منطقة تُخيِّم عليها سياسات نزاعية ويسودها التوجس وسباق الاستراتيجيات، بادرت بعض الدول إلى تعزيز قدراتها الهجومية (هجمات سيبرانية) والدفاعية (حماية البنيات الاستراتيجية) وخوض صراع نفوذ أيديولوجي في العالم السيبراني العربي (حرب المعلومات). وسجلت بلدان المنطقة واردات ضخمة في استيراد تقنيات المراقبة التي تنطوي على انتهاكات لحقوق الإنسان وتدمير الحياة الخاصة.
وتكتب آن-سيسيل روبير ((Anne-Cécile Robert، المتخصصة في المؤسسات الأوروبية وإفريقيا، عن الأمم المتحدة “تحت رحمة القوى الكبرى”، في إشارة إلى تهميشها ضمن مسارات التسوية السياسية للحرب السورية، بينما يجري تركيز نشاطها في التخفيف من الأوضاع الإنسانية المتدهورة. ولا تخرج الباحثة عن تأكيد التشخيص الراسخ الذي يفيد بأنه طالما ظلت القوى المكوِّنة لمجلس الأمن متباينة الرؤى بشأن قواعد اللعب ودور القانون الدولي، فإن مساعي المنظمة ستكون محدودة النتائج، خصوصًا في منطقة شرق أوسطية بقدر عال من التعقيد وتناقض المصالح والسياسات.
ويختتم هذا المحور بورقة للدبلوماسي والمحلل السياسي الفرنسي، فرانسوا نيكولو (François Nicoullaud)، عن انعكاسات نسف الاتفاق النووي بعد تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، وهو الذي كان وصف الاتفاق بـ”الأسوأ من نوعه الذي تُبْرِمُه أميركا في تاريخها”. كان مطمح ترامب تركيع إيران بالعقوبات الاقتصادية وعزلها أكثر، لكن طهران تبنَّت سياسة “الصبر الاستراتيجي” مفضِّلة الإبقاء على حدود دنيا للتعاون تحت مظلة الاتفاق، وبالتالي الحيلولة دون ارتماء أوروبا في أحضان واشنطن. ويضع الكاتب انتخابات الرئاسة الأميركية سقفًا لسيناريوهاته، من منطلق أن الأوضاع الجديدة توفر فرصًا أفضل لنزع فتيل الأزمات. لعل ذلك قد يصدقه انتخاب جون بايدن رئيسًا للولايات المتحدة.
خاتمة
كما يبدو جليًّا، فإن تصميم المحاور الثلاثة التي انتظمت فيها الدراسات يبقى إجرائيًّا فقط، بالنظر إلى تشتت العناصر والطابع المركَّب للمجال المدروس، من حيث تعدُّد الفاعلين فيه من الداخل والخارج، وتشعُّب العلاقات العابرة للمجال من كل الاتجاهات، سواء من داخل الجغرافيات القومية، أو عبر البلدان المشكِّلة للإقليم أو في سياق التفاعل مع حركات اللاعبين الكبار من خارج الإقليم. ولعل ذلك ما يُفسِّر تكرار مقاربة بعض الملفات الطاغية من محور لآخر على غرار الدور التركي والملف الإيراني والتنافس الإيراني-السعودي…
وفضلًا عن ذلك، ينطوي الكتاب، شأن الكثير من الكتب الجماعية، على تفاوت واضح في القيمة العلمية والعمق التحليلي للدراسات التي لا يتجاوز بعضها مستوى مقالات عامة، أو أوراق كرونولوجية وصفية. والواقع أن المسألة ترتبط أيضًا بسؤال تلقي الكتاب الذي يبدو متأرجحًا بين دراسات جزئية تفصيلية أقرب إلى مخاطبة قارئ متخصص وأخرى ذات طابع بيداغوجي تحاول تقريب قارئ عام من قضايا منطقة ساخنة في العالم. كما أن الاستعانة بكتَّاب ينحدرون من الشرق الأوسط في المساهمة بمقالات حول بلدانهم، بقدر ما تبررها الرغبة في تحليلات تكتسي طابع القرب والمعرفة المتفاعلة مع واقعها، بقدر ما قد تأخذ القارئ إلى مسارات تتدخل فيها ذاتية هذا الكاتب أو ذاك، خصوصًا بالنسبة لتحليل أوضاع مجتمعات متعددة الطوائف أو الديانات؛ مما يكون فيه الباحث مائلًا إلى الفئة التي ينحدر منها. ولعل هذه النقطة كانت بارزة بصدد تحليل موقع المسيحيين من التقلبات الاستراتيجية والتهديد الذي يواجهونه كجزء من النسيج الاجتماعي؛ حيث انطلق الكاتب من فرضية تمجيدية لدور المسيحيين في الشرق الأوسط بوصفهم نخبة متعالية ورافعة للحداثة. كما تَجَسَّد هذا النَّفَس الانحيازي في مقاربة المسألة الكردية على يد باحثة هي في نفس الوقت مناضلة من أجل هذه القضية، وبالتالي مناهضة للسياسة التركية. وهو أمر يجدد طرح سؤال الموضوعية في العلوم الاجتماعية؛ حيث الباحثُ ذاتٌ حاملةٌ لموقف وعلى مسافة تقترب أو تبعد من الموضوع.
ومع تشعب التحليلات بتشتت قضايا الشرق الأوسط واتساع نطاق التفاعل بين وحداته الداخلية أو بينه وبين المحيط الإقليمي والدولي، فإن مقارنة زوايا الرؤية بالنسبة لعدد من الأوراق المكوِّنة للكتاب تشير إلى انتقال مركز ثقل التأثير إلى خارج المجال العربي في الشرق الأوسط، لاسيما بروز قوتين بمطامح استراتيجية كبرى من قبيل تركيا الأردوغانية وإيران. ويتعلق الأمر بجدلية طرفاها نزول قوى إقليمية بثقلها مقابل النزعة الانسحابية لترامب التي تجسدت في العراق وأفغانستان.
“بين شرق أدنى في الطريق إلى الاندماج وشرق أقصى مؤهَّل ليكون خصمًا لغرب مهيمن، يبدو الشرق الأوسط بمنزلة صلة وصل متمردة، هامش وفضاء مواجهة دائمة”(6).. هذه الفقرة من استهلال الكتاب تكشف الزاوية الرئيسة التي يُقارِب منها هذا المجال الاستراتيجي، وهي زاوية تحليل بؤر الصدام وتفاعلات اللاعبين في بحث كل منهم عن مواقع امتياز وتفوق على حساب الآخرين. ولذلك، فإنه من المفهوم غياب بُعد استشرافي يتطلع إلى عكس هذا المنحى الصدامي واستكشاف إمكانيات الانتقال من الصراع على المواقع إلى بناء مجال تعاون وسلام. فعبر مقالات الكتاب، ترتسم صورة الشرق الأوسط أسيرًا للعبة دولية تخترقه منذ قرون، باسم العقائد ومطامح الغزاة والنفط واستراتيجيات التموقع والريادة في ظل يقظة قوى إقليمية ودولية تستند على ذاكرة الهيمنة والتصدر.
كما ينبثق اتجاه متحفظ تجاه توقع مآلات الواقع الاستراتيجي، وهو ما يُفسِّره زمن إعداد الكتاب في فترة سابقة على الانتخابات الأميركية وسط غموض بشأن حظوظ إعادة انتخاب دونالد ترامب؛ ذلك أن معظم التحليلات قائمة على نقطة النزعة الانسحابية الأميركية التي تبنتها الإدارة الحالية تكريسًا لما دشنه المحافظون الجدد، وهو واقع مرشح اليوم ليتزحزح ولو بشكل بطيء في الإدارة الديمقراطية الجديدة لجون بايدن.
من جهة أخرى، ولأن أي كتاب -ذا طابع تركيبي وتلخيصي من هذا النوع- لا يمكنه الإحاطة بكل القضايا والفاعلين ضمن الإطار الجيوسياسي موضوع البحث، فإنه يمكن ملاحظة غياب مقاربات حول بعض الأدوار من قبيل الدور المصري. وإن كان من المفهوم أن الأمر يبدو مبرَّرًا جزئيًّا بانحسار هذا الدور الذي توارى خلف القوة التمويلية للإمارات من جهة، وأمام التغلغل التركي والإيراني من جهة ثانية
مراجعة: نزار الفراوي