https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

بعدما حسم السباق الرئاسي الأميركي لهذا العام بأنه سيكون نسخة معادة لانتخابات 2020، بين الرئيس الديمقراطي جو بايدن ومنافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب، طرح مجدداً التساؤل عن عناصر القوة السياسية والحزبية والجماهيرية التي يراهن عليها الطرفان لتحقيق الفوز في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وفي حين يظل الاستقطاب الحزبي العامل المهيمن – الذي يبدو غير قابل للتغيير في السياسة الأميركية – تشير معظم التحليلات والإحصاءات إلى أن الديمقراطيين والجمهوريين أصبحوا، في المتوسط، متباعدين آيديولوجياً اليوم أكثر من أي وقت مضى في السنوات الخمسين الماضية. وهم حين يتفقون، فغالباً ما يكون ذلك نتيجة للاعتقاد المشترك بأن ليس لديهم سوى القليل من القواسم المشتركة. وكذلك، مع أن الفجوة التي تفصل بينهما تحجب في بعض الأحيان الانقسامات وتنوّع وجهات النظر الموجودة داخل الائتلافين الحزبيين، فإن تلك الفجوة تعود إلى تاريخ يحفر بعيداً منذ بدايات تشكل «الدولة – الأمة»، خلال نقاشات الأميركيين لمسألة دور الدين في سياسة الدولة وهويتها، وعن «التحالف المقدّس» بين الدين والسياسة في أميركا.

منذ الأيام الأولى لقيام الولايات المتحدة، وحتى اليوم، يستمر النقاش حول مسألة دور الدين والجماعات الدينية في سياسة الدولة. ففي عام 1789؛ أي بعد تسلم الرئيس المؤسس جورج واشنطن منصب الرئاسة، أعلن واشنطن تكريس يوم خاص لتقديم الشكر والصلاة؛ «لأن الله أنعم على الولايات المتحدة بحكومة جمهورية»، وهو ما يتطلب من الأمة التعبير عن امتنانها. ولكن، بعد 12 سنة، جاء الرئيس الثالث توماس جفرسون ليلغي هذا الاحتفال، مستنداً إلى التعديل الدستوري الأول الذي عدّه جفرسون «جداراً فاصلاً بين الكنيسة والدولة».

مع هذا، لا يوجد تقريباً اليوم أي مظهر من مظاهر الحياة السياسية إلا ويكاد يتأثر بالدين، وبأن «الله موجود في كل مكان». ذلك أن الشعار الرسمي للدولة هو «نضع ثقتنا في الله»، وجرى طبع هذه العبارة على العملة الورقية الرسمية للبلاد، كما أنها مثبتة خلف منصة رئيس مجلس النواب الأميركي، ومحفورة أيضاً فوق مدخل مبنى مجلس الشيوخ.

أيضاً، لا يزال قَسَمُ الولاء الرسمي أن البلاد هي «في عهدة الله»، لا بل أعيد إحياء «اليوم الوطني للصلاة» مع كل أول يوم خميس من شهر مايو (أيار)، بالإضافة إلى إقامة «صلاة الإفطار الوطنية»، عند كل أول يوم خميس من شهر فبراير (شباط). ثم إنه مع كل خطاب موجه إلى الشعب الأميركي يختتمه رئيس البلاد عادة بالطلب من الله إغداق بركته على أميركا. وعلى الرغم من محاولات إظهار الطابع العلماني، فهذه التقوى ليست كلها مسكونية تماماً؛ إذ أن الغالبية من الأميركيين ما زالوا يرون أن الولايات المتحدة «دولة مسيحية».

سر التقوى الدينية

من جهة ثانية، بمعزل عن توجّه الشعب الأميركي اليوم، من المؤكد أنه لم يكن في نيّة مؤسسي أميركا الأوائل قيام دولة دينية، وكانوا على اتفاق مع اقتناع جفرسون الذي فصل بين الكنيسة والدولة. لكن ما الذي يفسّر كل هذه التقوى الدينية في السياسة الأميركية التي تهيمن راهناً على الحزبين الجمهوري والديمقراطي؟

إذا دققنا في فترات تاريخية طويلة فسنجد أن الدين يكرّر تأثيره على المشهد السياسي الأميركي عن طريق ثلاث خطوات مهمّة:

– الأولى، عندما بادر «المبشّرون» إلى استنكار وشجب ظاهرة اتساع موجة العلمانية والديانات المزيفة، بالإضافة إلى سياسات الحكومة المشجعة لها، وهو ما تسرّب أيضاً إلى التيار السائد في الثقافة العامة والإعلام والتي تنذر الشعب الأميركي بأن عليه أن يغير سلوكه وإلا فسيدفع الثمن في الجحيم.

– الثانية، حين يبادر سياسي متنفذ كالرئيس الأميركي، على سبيل المثال، إلى تلبية الدعوة الدينية والاندفاع نحو قيادة حملة «تبشير» بأفكار المصلحين الدينيين داخل كتلته السياسية. ورغم رؤية كثيرين أن القادة السياسيين نماذج أخلاقية لا يمكن التعويل عليها أو الاعتماد على مصداقيتها، تضطر الكنائس للعودة إلى القول إن الحياة الدينية المكرّسة من أجل المبادئ الأساسية تقبع اليوم في محيط غير ملائم من عالم السلطة والقوة، وتهيمن عليه النفعية السياسية.

– الخطوة الثالثة، تأتي بعد إنجاز بعض الأهداف والإخفاق في تحقيق بعضها الآخر، أو حتى إهمالها، لتبدأ الحركة الدينية الطابع في التفكك، كما هو الحال مع كل ائتلاف. هذا ما جرى مع تكتل «حفلة الشاي» الذي عُد في العقدين الماضيين، الممثل الرسمي للتيار اليميني المتشدّد الذي مهد الطريق للشعبوية المزدهرة في هذه الأيام.
دور الإيفانجيليين

هنا يبرز دور الإيفانجيليين البروتستانت، أكبر جماعة دينية وأكثرها تأثيراً في السياسة الأميركية، الذين جاؤوا إلى «الأرض الجديدة» هرباً من الاضطهاد الديني والمذهبي الذي عانوا منه في دولهم الأوروبية الأصلية.

أساساً «الإنجيلية» في الديانة المسيحية تعني «تعليم الإنجيل ونشره». إلا أنها كلمة باتت في مصطلحها «الإيفانجيلي» الحالي تعبر عن طائفة لها معتقدات وتفسيرات دينية خاصة، ظهرت خلال القرن الثامن عشر، بعد انتشار تبنّي بعض الكنائس والحركات البروتستانتية هذا الاسم لتمييزها بالتزمت الديني عن غيرها. وحقاً، تتمتع هذه الكنائس اليوم بانتشار واسع في الولايات المتحدة، إذ ينتمي إليها أكثر من ربع الأميركيين (80 مليون شخص تقريباً). ومنذ عقود، يدعم الإيفانجيليون عموماً، مرشحي الحزب الجمهوري؛ لكونهم «ملتزمين أكثر دينياً»، وفق الاعتقاد السائد. ووفق مركز «بيو» للأبحاث ظهر هذا جلياً في الدعم الكبير الذي حظي به الرئيس السابق دونالد ترمب في انتخابات عامي 2016 و2020، ويتوقع أن يستمر لصالح الجمهوريين في انتخابات هذا العام أيضاً. وللعلم، بينما حصل الرئيس الأسبق جورج بوش «الابن» على 78 في المائة من أصوات أتباع الطائفة في انتخابات عام 2004، وجون ماكين على 74 في المائة في انتخابات 2008، وميت رومني على 78 في المائة في 2012، حصل ترمب على 81 في المائة.
سر التمسك بترمب

إلا أن أحد أكثر الأشياء الاستثنائية حول السياسة الأميركية الحالية، وأكثر التطورات اللافتة في التاريخ السياسي الحديث، هو التمسك المخلص للمحافظين الدينيين بدونالد ترمب، الذي فاز بأربع أخماس أصوات المسيحيين الإيفانجيليين البيض، بحسب «بيو».

ومع أن خلفية ترمب ومعتقداته هي أبعد من أن تتناسب أو تتفق مع النماذج المسيحية التقليدية للحياة وتأدية الدور القيادي فيها، (إذ كان يؤيد فيما مضى حق المرأة في الإجهاض الجزئي، ويتفاخر بالتحرّش بالنساء، ويواجه اليوم 91 تهمة قضائية في أربع قضايا جنائية)، يتمسك الإيفانجيليون بتأييده بوصفه «رئيساً قوياً» يستطيع تحقيق أهدافهم.

ولقد وجد زعماء الجماعة المتحالفون معه «باباً مفتوحاً» في البيت الأبيض، حيث يحتشدون للدفاع عنه في ظل تزايد دور الجماعات اليمينية المتشددة ضمن التحالف المهيمن على الحزب الجمهوري، وتصاعد المخاوف من تراجع حصة البيض من غالبية السكان.

التحولات الآيديولوجية حدثت مع التحولات الجغرافية والديموغرافية

الائتلاف الجمهوري المحافظ

مركز «بيو» يشرح أن المجموعات الأربع التي تشكّل ما يسمى بـ«الائتلاف الجمهوري» تضم ثلاث مجموعات متشددة من المحافظين هي: محافظو الإيمان والعَلَم، والمحافظون الملتزمون، واليمين الشعبوي، في حين يشكل ما يسمى اليمين المتناقض مجموعة أصغر وأقل محافظة.

المجموعة الأولى – أي محافظو الإيمان والعَلَم – محافظة بشدة في جميع المجالات، وتؤمن بأن على السياسات الحكومية دعم القيَم الدينية، وأن التسوية في السياسة مجرد «بيع ما تؤمن به». أما المجموعة الثانية فتعبّر عن وجهات نظر محافظة في جميع المجالات، ولكنها أقل تشدداً إلى حد ما فيما يتعلق بقضايا الهجرة ومكانة أميركا في العالم. ومن جانبها، تتكون المجموعة الثالثة من اليمينيين الشعبويين التي يعد أفرادها وأتباعها من بين الأقل تعليماً والأكثر احتمالاً للعيش في المناطق الريفية، وهي تنتقد بشدة كل من المهاجرين والشركات الأميركية الكبرى.

بعد هؤلاء، تأتي المجموعة الرابعة – أي ما يسمى اليمين المتناقض – وهذه رغم أن لديها آراء محافظة حول حجم الحكومة والنظام الاقتصادي وقضايا العرق والجنس، فهي أقل محافظة وتشدداً؛ إذ تفضل غالبية فيها الإجهاض القانوني، وتقول إن الماريغوانا يجب أن تكون قانونية للاستخدام الترفيهي والطبي. كذلك، فهي مختلفة أيضاً في وجهة نظرها إزاء دونالد ترمب؛ إذ في حين صوتّت غالبيتها لصالحه في عام 2020، يقول معظم ناخبيها الآن إنهم يفضلون ألا يستمر في كونه شخصية سياسية رئيسة.

في المقابل، ترى غالبية 63 في المائة من المجموعات الثلاث المتشددة أن على الحزب الجمهوري ألا يقبل بالمسؤولين المنتخبين الذين ينتقدون ترمب علانية. كذلك يقول 6 من كل 10 منهم إنهم يحبّون القادة السياسيين الذين يؤكدون أن ترمب هو الفائز الشرعي في انتخابات عام 2020. واليوم، تهيمن هذه المجموعات المتشددة الثلاث على 85 في المائة من البيض غير اللاتينيين، وما يقرب من 6 من كل 10 هم من الرجال، وهم أيضاً من بين الأشخاص الأكثر احتمالاً للعيش في المجتمعات الريفية. ثم إنه قال ما يقرب من 4 من كل 10 منهم إنهم لم يحصلوا على لقاح «كوفيد – 19». وأفادت غالبية كبيرة من هذه المجموعة (74 في المائة) بأنها تحصل على الأخبار السياسية من قناة «فوكس نيوز»، وغيرها من وسائل الإعلام اليمينية.

قواسم مشتركة

مما سبق ذكره، يتّضح أن المجموعات الأربع مع الجمهوريين في التصنيف السياسي، من خلال تفضيلات مشتركة لدور أصغر للحكومة الفيدرالية (خفض الإنفاق الحكومي)، وجيش أميركي قوي، ورفض الرأي القائل بأن البلاد بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لمعالجة اللا مساواة العرقية. ولكن عندما يتعلق الأمر بالعديد من القضايا الأخرى، وخاصة وجهات النظر المتعلقة بالعدالة الاقتصادية والهجرة والسياسة الخارجية، توجد اختلافات صارخة بينها. ومع أن هذه المجموعات متفقة عموماً على أهمية تأمين حدود الولايات المتحدة، تبقى لديها وجهات نظر مختلفة تماماً حول مدى عمق مشكلة الهجرة غير الشرعية في البلاد، وكذلك حول نهج البلاد تجاه الهجرة القانونية.

وبالتالي، مع أن الإيفانجيليين يشكلون القوة الرئيسة لهذا الائتلاف، يصح التساؤل… عن كيف تحوّل هؤلاء من جماعة كان لها اعتبارها النسبي وحركتها المؤثرة، إلى مجموعة تسعى إلى الحماية السياسية تحت جناح رئيس غير تقليدي عبر تاريخ الذاكرة الحية مثل ترمب؟

تحالف رجال الأعمال ورجال الدين

يقول كيفين كروس، مؤلف كتاب «كيف اخترعت الشركات المساهمة أميركا المسيحية؟»، إن جذور هذه المسألة تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي؛ إذ واجه قادة رجال الأعمال المحافظون صعوبة في الرد على برنامج «العقد الجديد» (أو الصفقة الجديدة) الذي وضعه الرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت، لمواجهة أسوأ تدهور اقتصادي كانت تمرّ به الولايات المتحدة في تاريخها. وتضمن ذلك البرنامج إنشاء مؤسسات من قبل الحكومة الفيدرالية مهمتها الرعاية الاجتماعية، وتقديم المعونة إلى المحتاجين وكبار السن. يومذاك، وجد أولئك المحافظون اليمينيون أن القضايا الأخلاقية هي أكثر إثارة لحماسة الجماهير من القضايا الاقتصادية. وتضافرت جهود رجال الأعمال مع رجال الدين اليمينيين واتفقوا على مخطط «الإحياء الروحي» الذي يهدف إلى «تحرير» الأميركيين من زحف مبدأ «مصلحة الجماعة تتقدم على مصلحة الفرد».

وبالفعل، صبّت هذه الجهود في خانة الدفاع عن أرباب العمل معادة أي توجه يدافع عن العدالة الاجتماعية، وأيضاً عملت على «تسييس» الديانة المسيحية أو وضع المؤسسة الدينية في خانة الدفاع عن المؤسسة السياسية.

هذا ما حصل بعد انتخاب الرئيس دوايت أيزنهاور عام 1952، مع أن أيزنهاور أعاد ترتيب هذه الحركة بصيغة مسكونية عالمية تستجيب لإجماع أميركي وتوحيد الأمة إبان «الحرب الباردة» في صراعها مع الاتحاد السوفياتي «الكافر». وكان أيزنهاور هو الذي دفع بالعديد من الرموز المألوفة التي عبّرت عن مثل هذا التوجه الديني في الدولة، مثل التشريعات الملزمة، التي توجب ذكر كلمة الله.

أميركا لم تتخل عن الدين

من جانب آخر، على الرغم من تحول معظم البلدان الغنية منذ زمن بعيد من دول متدينة في غالبيتها إلى دول علمانية، لا يزال 40 في المائة من الأميركيين يتوجهون إلى الكنائس أسبوعياً، و70 في المائة منهم يزورون الكنائس عدة مرات في السنة الواحدة. وهذا واقع يظهر مدى الحيوية التي تتمتع بها «السوق الدينية» في الولايات المتحدة. وبعكس البلدان التي توجد فيها كنائس رسمية مدعومة مالياً من قبل دافعي الضرائب، فإن المشهد الديني الأميركي كان دائماً على استعداد لاستقبال أي شخص يمكنه أن يجذب ويحشد جماعة من المصلين القادرين على المساهمة بتبرعاتهم المالية السخيّة. وهو ما حوّل البلاد إلى ساحة مزدحمة بالجماعات الدينية، مع أن دستورها لا يقرّ بوجود أي دين رسمي.

واليوم، يعكس الدين في الولايات المتحدة حالة استقطاب أكثر مما يعكس حالة إجماع. وعلى سبيل المثال، تجد كنائس الأميركيين التي هي من أصول أفريقية، ومعظمها تدعم الحزب الديمقراطي، تنظّم نقل رعاياها بالحافلات إلى مراكز الاقتراع، بينما يحذر المبشرون الإنجيليون البيض رعاياهم من أنهم سيسقطون في الخطيئة حين يعارضون القدرة الإلهية، إذا هم أعطوا أصواتهم لصالح الديمقراطيين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 + 1 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube