محمد الأمين موسى( الجزيرة )
أعادت الحرب الروسية-الأوكرانية للأذهان الحروب العظمى التي شهدها العالم، والتي تنشب لأسباب تختلف عن أسباب نشوب الحروب في دول العالم الثالث، وتستخدم فيها وسائل وأساليب تختلف عن تلك المستخدمة في حروب الدول الأقل نموًّا. أعلنت روسيا النووية الحرب على جارتها، أوكرانيا، وهي مستندة إلى إرث تاريخي وحاضر في التحدي والمواجهة في جميع الأصعدة العسكرية والاقتصادية والقانونية والتواصلية. وهو إرث يجعل الحرب ذات تأثير متعدٍّ لا يمكن تجاهله طالما بقيت كافة الاحتمالات قائمة، بما فيها الحرب النووية.
هذه الحرب تجري بين مكوِّنين رئيسين من مكونات الاتحاد السوفيتي سابقًا، الذي شارك في الحرب العالمية الثانية، ثم أصبح أحد قطبي الحرب الباردة وما عرفته من استخدام مكثَّف ومتطور للدعاية التي استخدمت فيها كافة مستويات التواصل الإنساني. وهنا، تبرز الدعاية الروسية -باعتبار أن روسيا تشكِّل الجانب الأقوى في هذه الحرب- منظومةً حربيةً موازيةً تشتمل على خطاب استراتيجي وسرديات تكتيكية وأفعال تواصلية تتمظهر عبر كافة الوسائط وتنهمر على الوسائل التقليدية منها والجديدة.
لعل أجواء الحروب هي الأكثر ملاءمة لازدهار الخطاب الدعائي، خاصة عندما يحتاج الأمر لتقديم المبررات للداخل والخارج، وإضفاء القيم الإيجابية على الأفعال والممارسات المصاحبة للحرب. وهذا ما يسعى الباحث لمقاربته عند النظر في التواصل الدعائي الروسي، لاسيما أن روسيا هي من ابتدرت الحرب بعد أن حشدت لها إعلاميًّا وعسكريًّا ودبلوماسيًّا واقتصاديًّا.
لقد شهدت الحرب الروسية-الأوكرانية تواصلًا دعائيًّا شاملًا -خاصة من الجانب الروسي- استدعته طبيعة الحرب وخصائصها: فهي بين طرفين غير متكافئين من حيث العُدَّة والعتاد والقوى السياسية والاقتصادية والجغرافية، وهي حرب الرادع الأكبر فيها عقوبات اقتصادية، وهي بعيدة عن الصور النمطية التي تُرسَم للإرهاب؛ ذلك أنها حرب بين دولتين يجمع بينهما الكثير حضاريًّا وثقافيًّا ودينيًّا وإثنيًّا. كل ذلك استدعى إنتاج خطاب دعائي يسعى لخلق بيئة تواصلية عولمية جدلية في الخارج لا يحصل فيها الإجماع على الإدانة، وفي الداخل حتى يحدث الالتفاف وتحمُّل تبعات الحرب باعتبارها الخيار الذي لابد منه.
1. خصائص الدعاية الروسية وتاريخيتها
يرى الناظر في الدعاية الروسية ميلها للتعريف المحايد الذي قدَّمه فيليب تايلور (Philip Taylor)، عام 2003، في تأريخه للدعاية باعتبارها “المحاولة المتعمدة لإقناع الناس بالتفكير والتصرف بالطريقة المرغوبة”(1)، وذلك لتبرير تبني الدولة لممارسة التواصل الدعائي كفعل مشروع (خاصة تجاه الآخر). ومن ناحية أخرى، عدم التورُّع عن القيام بأفعال دعائية وفقًا للتعريف السلبي السائد، والذي عبَّر عنه هارولد لاسويل (Harold Lasswell)، عام 1927، معتبرًا أن الدعاية تعود حصرًا إلى السيطرة على الآراء والاتجاهات والتلاعب بها باستخدام الأخبار والإشاعات والصور وأشكال التواصل الاجتماعي الأخرى(2). وربما يمكن فهم فلسفة الدعاية الروسية بالرجوع إلى مقولة قائد الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفيتي، فلاديمير لينين: “لا يمكن هزيمة أقوى عدو إلا ببذل أقصى جهد، وباستغلال الشقاق بين الأعداء وأي تضارب في المصالح بين البرجوازية، بكيفية شاملة وحذرة وماهرة، على صعيد مختلف البلدان ومختلف المجموعات، لكسب حليف وإن كان مؤقتًا وغير مستقر وغير موثوق فيه”(3).
ويقود الحديث عن الدعاية الروسية إلى خبرات واسعة في توظيف التواصل الإنساني لخدمة الدولة من خلال توسيع مفهوم التواصل الدعائي ليشمل العديد من المفاهيم، مثل: “التخريب” (Subversion)، و”الحرب الهجين” (Hybrid Warfare)، و”التدابير النشطة” (Active Measures)، و”التدابير العدائية” (Hostile Measures)، و”المنطقة الرمادية” (The Gray Zone)، و”الحرب السياسية” (Political Warfare)، و”القوة الحادة” (sharp power)، و”التحكم في المعلومات” (Information Control)، وهو مرتبط بمفهومي الصراع المعلوماتي (Informational Struggle) والسيطرة الانعكاسية (Reflexive Control)(4).
وتتفق العديد من الدراسات على أن الدعاية الروسية المعاصرة امتداد للدعاية التي نشأت مع نشأة الاتحاد السوفيتي(5)، وقد تعود إلى الإمبراطورية الروسية عندما كان البوليس القيصري السري يستعين بالعملاء الأجانب لجمع المعلومات الاستخبارية وزرع الفتنة بين الجماعات المهاجرة، وتقديم الإعانات السرية لمجموعة مختارة من الصحف للتأثير في سياساتها التحريرية تجاه الإمبراطورية(6). وترجع الجذور الأولى للدعاية الروسية المنظمة بواسطة الدولة إلى عشرينات القرن الماضي عندما ظهر ما يسمى “التدابير النشطة” قسمًا ضمن جهاز المخابرات السوفيتي (كي جي بي) خاص بالتضليل الإعلامي (Disinformation)(7)، وقد وصفها أوليج كالوجين (Oleg Kalugin)، وهو جنرال في الجهاز من سبعينات القرن العشرين انشق فيما بعد، بـ”قلب أجهزة المخابرات وروحها”(8). وأُدمجت التدابير النشطة بشكل جيد في السياسة السوفيتية حتى اشتملت تقريبًا كل عنصر من عناصر الحزب السوفيتي وهيكل الدولة، وليس فقط عناصر “كي جي بي”(9). وظهر مفهوم التدابير النشطة في الوثائق البلشفية، عام 1919، ليشير إلى التأثير في الأحداث والسلوك والأفعال التي تجري في البلدان الأجنبية(10).
وتضمنت التدابير النشطة مجموعة من التكتيكات، من بينها: السيطرة على الصحافة في الدول الأجنبية، والتزوير الصريح أو الجزئي للوثائق، واستخدام الشائعات والتلميحات والحقائق المعدلة والأكاذيب، واستغلال منظمات الجبهات الدولية والمحلية، والتشغيل السري لمحطات الراديو، واستغلال الشخصيات الأكاديمية والسياسية والاقتصادية والإعلامية على نطاق الأمة(11). واشتملت أشهر أساليب عمل التدابير النشطة على توظيف منظمات الجبهة وعملاء التأثير والتسرُّب داخل وسائل الإعلام والتزييف والأخبار الكاذبة(12). ووصلت التدابير النشطة في ذروتها إلى تشغيل أكثر من 15 ألف فرد، واستهلكت ميزانية تراوحت ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار سنويًّا(13).
لقد اقتربت الدعاية الروسية الرسمية -عبر تاريخها- من الفضاءات الإعلامية وتماهت معها حتى شملت مختلف وسائل الإعلام التقليدية (من صحف ومجلات وملصقات وسينما وإذاعات وقنوات تليفزيونية) ووسائل جديدة بغزو شبكات التواصل الاجتماعي بواسطة الجيوش الإلكترونية (ممثلة في حسابات التواصل الاجتماعي الوهمية التي تديرها برمجيات(Bots))، والحسابات المتعددة التي يديرها فرد من أفراد الجيش الإلكتروني (Troll Army).
فقد عرفت السنوات الأولى للثورة البلشفية استخدامًا دعائيًّا للملصقات للتعبير عن انتصارات الثورة وقيمها؛ إذ تم إصدار الملصقات السياسية السوفيتية المبكرة بتكليف من المؤسسات الثقافية والسياسية والعسكرية الرسمية، والتي أيضًا كانت تحدد موضوع كل ملصق(14). وخير مثال للدعاية الروسية التليفزيونية، قناة “آر تي” (RT) -روسيا اليوم سابقًا- والتي تأسست عام 2005 ذراعًا تليفزيونيَّة لوكالة الأنباء الرسمية نوفوستي. وتبلغ ميزانيتها السنوية حوالي 300 مليون دولار، تتوجه بالأساس للجمهور الأجنبي وتبث محتواها باللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية والروسية والعربية(15). وقد أوضح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن الهدف من إنشائها هو كسر الاحتكار الأنجلو-ساكسوني لأنظمة الإعلام العالمية(16). ووصفها الصحافي بيتر بوميرانتسيف (Peter Pomerantsev) بأنها المنافس الروسي لقناة “بي بي سي” البريطانية والجزيرة القطرية. وزعم الصحافي ليز وال (Liz Wahl)، الذي استقال من قناة “آر تي”، عام 2014، أن هدفها الحقيقي هو توليد الارتباك وزرع عدم الثقة في الحكومات والمؤسسات الغربية من خلال نشر كل ما يشوِّه مصداقية الغرب، وتجاهل كل ما يثبت مصداقيته(17).
لا شك أن الخبرات الدعائية المتراكمة لروسيا قادتها للاستفادة القصوى من إمكانيات الثورة الرقمية التي أوجدت شبكتي الإنترنت والويب، وتُوِّجت بظهور شبكات التواصل الاجتماعي التي غيَّرت المفاهيم التواصلية في العصر الحديث. فقد حرصت روسيا على أن يكون لها جيش إلكتروني مكافئ لجيشها التقليدي حتى تصبح الدعاية أكثر فعالية وفتكًا. فهناك من يرى أن جيش الكرملين الإلكتروني ينشر الدعاية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ويقوم بزرع الفتنة ونشر الخوف والتأثير على المعتقدات والسلوكيات وتشويه سمعة المؤسسات وتقليل الثقة في الحكومة؛ الأمر الذي يقود إلى تدمير الاحتمال بأن تصبح الإنترنت فضاء رحبًا لممارسة الديمقراطية(18). ويقوم الجيش الإلكتروني بتصيُّد المتواصلين عبر شبكات التواصل الاجتماعي المعارضين للنظام الروسي، والتنمُّر عليهم وإثارة غضبهم من خلال المشاركة في غرف الدردشة والمنتديات والتغريدات والتعليقات(19). فعلى سبيل المثال، يُتوقَّع من كل فرد من أفراد الجيش الإلكتروني أن ينشر 50 خبرًا يوميًّا، ويشرف على 5 صفحات فيسبوك، و10 حسابات تويتر، ونشر 10 تغريدات يوميًّا(20).
وتُعزى الشهرة الكبيرة للدعاية الروسية إلى الخلفية الاستخباراتية للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وقد عمل في جهاز المخابرات السوفيتي لمدة 16 عامًا، وأصبح رئيسًا له في أواخر تسعينات القرن العشرين، فوسَّع نفوذه حتى أصبح متغلغلًا في مختلف القطاعات مثل وزارات الاقتصاد والمواصلات والموارد الطبيعية والاتصالات والثقافة، ووثَّق روابطه مع غالبية النخب في روسيا، حتى رأى البعض أن بوتين أسس ما يمكن تسميته بـ”دولة المخابرات الجديدة”(21).
2. الدعاية الروسية في حربي 2008 و2014
ليست الحرب التي تخوضها روسيا ضد أوكرانيا ابتداء من 24 فبراير/شباط 2022، هي الحرب الأولى التي استُخدمت فيها كافة أشكال الدعاية التقليدية والحديثة المستندة إلى الثورة الرقمية، بل سبقتها حربان في 2008 ضد جورجيا، وأخرى ضد أوكرانيا في 2014، ونتج عنهما احتلال أجزاء من الدولتين، أي إن الخبرات المتراكمة في الدعاية أثناء الحروب والسرديات المؤسِّسة للخطاب، تصبُّ في مصلحة الممارسة الدعائية المعاصرة، مستفيدة من الدراسات التواصلية والنفسية والإعلامية التي تحلِّل الميكانيزمات والخصائص التي تميِّز الدعاية الروسية عن غيرها.
ففي حرب 2008 على جورجيا، اشتغلت الدعاية الروسية على الصعيدين الداخلي والخارجي. وظهر تأثير الدعاية الداخلية من خلال استطلاع الرأي الذي أجراه مركز ليفادا (Levada) لاستطلاع الرأي في موسكو؛ حيث اعتبر 34% من الروس أن القيادة الجورجية هي المسؤولة عن الحرب، وألقى 24% من المبحوثين اللوم على حلف الناتو والولايات المتحدة، بينما اعتبر 8% فقط أن روسيا مسؤولة عن نشوب الحرب(22).
وترافقت الحرب بين روسيا وجورجيا مع حملة إعلامية غير مسبوقة أُطلِقت لدعم جهود الحكومة الروسية الدبلوماسية والعسكرية. وتم تنفيذ الحملة بكيفية شاملة، وتضمنت رسائل دعائية دقيقة إلى كل من الجمهور الأجنبي والمحلي. وكانت المهمة الرئيسة لوسائل الإعلام الروسية -داخليًّا- هي التأكيد على ولادة روسيا من جديد كدولة قوية. وكان الغرض الآخر المتزامن للدعاية هو إظهار ضعف العالم الغربي والتأكيد على انقساماته. وثمة هدف آخر هو تشويه سمعة جورجيا بالكامل، وإظهار فشل طموحاتها الموالية للغرب. وقد أثبت تقبل المجتمع الروسي للدعاية مرة أخرى أن الإعلام هو أحد الأسلحة الرئيسية في ترسانة القوة الناعمة في الكرملين، والتي تُستخدَم بمهارة لتحقيق أهداف الحكومة الروسية(23).
وشهدت الحرب الروسية الأوكرانية، عام 2014، خطابًا دعائيًّا شاملًا ومتعدد السرديات التي تضمَّنت ضرورة الدفاع عن السكان والقيم والثقافة والعقيدة والسيادة من النظام الأوكراني (بحجَّة تمثيله للنازية الجديدة)؛ الأمر الذي يجعل المجتمع الروسي مستعدًّا لتحمل بعض العواقب والتسامح مع الآثار السلبية للإجراءات التي يتخذها الكرملين. وهكذا تمت أَسْطَرَة وتمجيد خطاب الحرب الوطنية العظمى لتصبح داعمًا لتبرير ضمِّ شبه جزيرة القرم(24).
وعندما ضمَّت روسيا شبه جزيرة القرم إليها، أطلقت موقعًا إخباريًّا متعدد اللغات باسم “جبهة الأخبار” (News Front)، وصفته بعض وسائل الإعلام الغربية بأنه يمثِّل “الحرب الإعلامية الأشرس على أوكرانيا”؛ فهو نادرًا ما يلتزم بالمعايير المهنية الإعلامية، وكثيرًا ما يختلق موضوعاته ولا يتورع عن استخدام الفوتوشوب للتلاعب بالصور(25). وفي المقابل، أنشأت أوكرانيا موقعًا إلكترونيًّا بعنوان “ستوبفيك” (Stopfake)، في الثاني من مارس/آذار 2014، لفضح الدعاية الروسية من خلال كشف التزييف في المئات من النصوص والصور ومقاطع الفيديو(26).
أما الجيش الإلكتروني الروسي فقد ازداد نشاطه في حرب ضمِّ القرم وما تلاها. ففي دراسة أجراها مركز الاتصالات الاستراتيجية لحلف الناتو (ستراتكومCOE ) على التعليقات المصاحبة لآلاف المواضيع، تبيَّن أن الجيش الإلكتروني الروسي استخدم ثلاث خطوات من أجل تمرير الطُّعم الدعائي: ففي الخطوة الأولى ينشر أحد أفراد الجيش الإلكتروني تعليقًا مثيرًا للجدل لجذب انتباه القرَّاء واستفزاز أحدهم قصد دفعه للرد. وفي الخطوة الثانية ينتظر حتى يعارضه شخص ما، وقد يضطر أحيانًا إلى التعامل مع الموضوع الأصلي من خلال معارضة خرقاء أو اتفاق مبالغ فيه لإثارة الآخر وتوريطه في الرد. عند هذه النقطة، ينتقل إلى المرحلة الثالثة من العملية فينحرف بالنقاش عن محتوى الموضوع وبدلًا من ذلك، يعلِّقون على عبارات مختارة لجعل المناقشة عدائية ويخلق انطباعًا عن مناقشة معبِّرة عن آراء متباينة بشأن النزاع الأوكراني-الروسي(27). وقد حدد مركز ستراتكوم خمسة أنواع لـ”أسلحة” الجيش الإلكتروني الروسي(28):
1. من يلقون اللوم على الجيش الإلكتروني الأميركي المناهض لنظرية المؤامرة، وذلك لزرع سرديات عدم الثقة.
2. جيش البيكيني (Bikini Troll)، وهو مختص في استدراج الضحايا والتفاعل معهم.
3. الجيش العدواني لمضايقة الأفراد والحيلولة دون مشاركتهم في التفاعل عبر الإنترنت.
4. جيش ويكيبيديا (Wikipedia trolls)، ويختص بتعديل صفحات الويكيبيديا والمدونات لصالح الكرملين.
5. جيش الربط (Attachment trolls)، ويستخدم للربط بشكل متكرر بمحتوى منصات الأخبار الروسية.
3. الدعاية الروسية والحرب الشاملة على أوكرانيا
مثلما أن الحرب الروسية على أوكرانيا، التي اندلعت في 24 فبراير/شباط 2022، شاملة ومتعددة المحاور والأسلحة، فإن الدعاية المصاحبة لها، كذلك، شاملة ومتعددة الوسائل والوسائط والسرديات. وكما رأينا سابقًا، الطابع المؤسسي للدعاية الروسية -ممثلًا في التدابير النشطة وما نتج عنها من مؤسسات إعلامية تقليدية وجديدة- فإن الحرب الحالية تشهد ذروة ما وصلت إليه الدعاية الروسية المسنودة فكريًّا من أمثال المفكر والفيلسوف الروسي المعاصر، ألكسندر دوغين (Alexander Dugin)، والتناغم الكبير بين المتواصلين الدعائيين الروس في الخطاب والسرديات المعبِّرة عنها، وعلى رأسهم الرئيس الروسي، بوتين. فألكسندر دوغين هو القائل صراحة في كتابه “أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي”: “بعد ذلك، تظهر المسألة الأوكرانية. فسيادة أوكرانيا تمثِّل بالنسبة للسياسة الروسية ظاهرة تبلغ سلبيتها درجة أنها يمكن من الناحية المبدئية أن تثير نزاعًا مسلحًا”(29).
ولكي نتأمل حيثيات الدعاية الروسية ودينامياتها وتقنياتها ومن ثم احتمالات تأثيراتها، نحتاج للبدء بالكلمات المفتاحية التي تشكل ركائز للسرد عند كل المتواصلين الدعائيين الممثِّلين لوجهة النظر الروسية أثناء الحرب على أوكرانيا.
أولًا: الكلمات المفتاحية
تتأسس الدعاية الروسية على كلمات مفتاحية تشتمل على تعريفات إجرائية تجعلها توائم وجهة النظر الروسية وتخدم المواقف والإجراءات على الأرض. وتُستخدَم هذه الكلمات في الوصف والتحليل والبرهنة بكيفية جازمة غير قابلة للتأويل أو النسبية أو التعميم على مختلف السياقات، حتى ترسخ في ذهن المتلقي. وتُستخدَم لتحقيق التناغم بين معدِّي الرسائل التواصلية الدعائية الروسية وناشريها؛ الأمر الذي يؤدي -من خلال التكرار- إلى رسوخها ودخولها ضمن التداول اللغوي اليومي، خاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ومن أبرز الكلمات المفتاحية التي استُخدمت في الدعاية المصاحبة لحرب روسيا على أوكرانيا، نذكر الآتي:
1. العملية العسكرية الخاصة: لا تصف السردية الروسية ما جرى في أوكرانيا ابتداء من 24 فبراير/شباط 2022 بالغزو أو الحرب أو التدخل العسكري، بل تعتبره مجرد عملية عسكرية خاصة ذات أهداف مخصوصة، وكأن على المتلقي ألا يربط بينها وبين التبعات المأساوية المصاحبة للحروب حتى إن بدت آثار الدمار والقتل والتشريد واضحة للعيان. تكمن إجرائية تسمية “العملية العسكرية الخاصة” في أن المراقب من خارج إطار الدعاية الروسية سيجد فيها سمات الحرب الشاملة وآثارها الواسعة في كافة المستويات، مما يجعلها بعيدة عن المفهوم المتعارف عليه للعملية العسكرية الخاصة (المحدودة في المكان والزمان والأهداف). وتستخدم الآلة الدعائية الروسية مصطلح العملية العسكرية الخاصة في سردياتها الإخبارية أو مزاعمها المُلقاة أثناء المقابلات والتصريحات بكيفية لا تسمح بمساءلة ما إذا كانت التسمية تنطبق على الأفعال (القصف، الزحف من جهات مختلفة، الحصار، تدمير البنية التحتية)؛ الأمر الذي قد يقود إلى التساؤل: إذا كان ما حدث ويحدث مجرد عملية عسكرية خاصة، فكيف ستكون الحرب ولم يبق من السلاح الذي لم يجرَّب فيها إلا أسلحة الدمار الشامل؟
2. النازية الجديدة: تختصر الدعاية الروسية النظام الحاكم في أوكرانيا في كونه واجهة للنازية الجديدة. ويخدم دَمْغ السلطة الحاكمة في أوكرانيا بالنازية أكثر من غرض: فكونه نظامًا نازيًّا، يجعل منه الخطر الأكبر على روسيا -مثلما حدث تاريخيًّا مع نازية هتلر- وعلى العالم أجمع، ويجعل من “العملية العسكرية الخاصة” هجومًا لابد منه من أجل الدفاع عن وجود روسيا. كما أنه يفيد السردية التي تدِّعي أن النظام الأوكراني يسعى لإبادة ذوي الأصول الروسية في شمال أوكرانيا ممن يطالبون بالانفصال.
3. الأمن والوجود: تأتي صفة “النازية الجديدة” مقرونة بحجة ضرورة التخلص منها بواسطة العملية العسكرية الخاصة، وصولًا لتحقيق الأمن القومي الروسي والدفاع عن الوجود. وطالما أن الحرب حرب وجودية، فعلى الرأي العام الداخلي أن يؤيدها ويدعمها، وعلى الرأي العام الخارجي أن يتقبلها أو على الأقل تخلق له تساؤلات جدلية. وعلى الرغم من صعوبة إقناع الآخر بأن أمن روسيا ووجودها في خطر يستوجب أن تبادر بتهديد أمن جارتها، أوكرانيا، ووجودها -وروسيا دولة نووية قادرة على تدمير العالم أكثر من مرة- فهي تضيف كلمتي الأمن والوجود إلى سردياتها الدعائية حتى تكتمل الرواية وتزداد فاعليتها.
4. القوميون المتطرفون: تختزل الدعاية الروسية تصوير من يقاوم التدخل الروسي في أوكرانيا -منذ 2014- بأنهم قوميون متطرفون في تجريم واضح للنزعة القومية عندما يتعلق الأمر بالجانب الأوكراني، بينما لا ضير في وجود هذه النزعة عند الجانب الروسي، من خلال ربط القوميين الأوكرانيين بالتطرف. وهذا التناقض وازدواجية المعايير لا يمكن فهمه إلا في إطار الدعاية التي تخفت فيها الموضوعية واحترام قدرة المتلقي على تقييم الرسالة التواصلية.
5. المجموعات الراديكالية: تتحدث السرديات الدعائية الروسية عن المجموعات الراديكالية الأوكرانية للتعبير عن المجموعات التي تقاوم الغزو، أو تتصدى للانفصاليين في شرق أوكرانيا، أو حتى الجيش الأوكراني النظامي. ويحيل النعت بالراديكالية في هذا السياق إلى سلبية تستحق الإدانة تنضاف إلى الكلمات المفتاحية الأخرى التي تتناغم في إنتاج خطاب يدين أوكرانيا، ويبرر غزوها من قِبَل روسيا، أو على الأقل يفسِّر الدوافع والمسوغات التي يستند إليها الكرملين في اتخاذه لقرار ما أسماه “العملية العسكرية الخاصة”.
من خلال هذه الكلمات المفتاحية المذكورة أعلاه وغيرها، تتخذ السردية الدعائية الروسية التسلسل التالي: هناك نازيون جدد وقوميون متطرفون، ومجموعات راديكالية أوكرانية، تهدد أمن روسيا ووجودها؛ الأمر الذي فرض على روسيا ضرورة إطلاق “العملية العسكرية الخاصة” للدفاع عن أمنها القومي.
ثانيًا: بوتين وتأطير القالب الدعائي
تولَّى الرئيس بوتين بنفسه عملية تأطير القالب الدعائي الذي يشكِّل مرجعًا وأنموذجًا لكل من يتبنى الخطاب الروسي أثناء الصراع مع أوكرانيا. هكذا جاء خطاب 21 فبراير/شباط 2022(30) الذي مهَّد فيه للحرب، متضمنًا لمقدمة تاريخية هدفت لإبراز انتماء أوكرانيا لروسيا والأخطاء التي ارتُكبت من قِبَل بعض القادة السوفيت؛ الأمر الذي أسهم في الأزمة التي اندلعت عام 2014.
لا يقتصر هذا التمهيد على كونه حجة لشنِّ الحرب على أوكرانيا، بل كذلك مبررًا لما قد ينتج عن الحرب، التي سُخِّرت لها إمكانيات بشرية وتقنية ومالية كبيرة، من احتلال لكامل البلاد أو أجزاء منها أو تقنين وضع شبه جزيرة القرم التي جرى ضمها لروسيا بعد حرب 2014. هكذا يجري تأسيس السياق الدعائي الروسي ليبدو منطقيًّا ومقنعًا للجمهور الداخلي ومقبولًا للجمهور الخارجي المتعاطف مع روسيا أو المعادي لأعدائها.
يقول بوتين في خطاب 21 فبراير/شباط: “فيما يخص إقليم دونباس، نحن نرى أن الإدارة في كييف لا تريد تنفيذ قرارات مينسك، بل تريد أن تشتعل الأوضاع وتندلع حرب جديدة مثلما حدث عام 2014″، أي إن أوكرانيا هي السبب في اندلاع الحرب لأنها لا تلتزم بما تعهدت به، والأسوأ من ذلك: “هناك إهانة للمواطنين وللشيوخ وللأطفال الروس الموجودين هناك” (أي المتحدثين باللغة الروسية في أوكرانيا)؛ الأمر الذي يضيف لعدم الالتزام عدم احترام حقوق الإنسان. وتتعالى السردية نحو الإدانة عند قوله: “هذا الرعب وهذه الإبادة. يباد الشعب الروسي هناك، فقط لأنهم لم يدعموا الانقلاب الغربي في أوكرانيا. وهذا الاتجاه نحو العنصرية والتمييز العنصري، ويحاولون منعهم من التحدث باللغة التي يريدونها، ويحاولون مسح ثقافاتهم”. وتصل الدعاية قمتها بالقول: “كم يمكن أن نصبر وأن نتحمل ذلك؟” فتأتي الإجابة فورًا: “قد حان الوقت للاعتراف بجمهوريتي لوغانسك الشعبية وجمهورية دونيتسك”. وختم بوتين خطابه بقوله: “من احتلَّ السلطة في كييف نطالبه بإيقاف مباشر للعمليات العسكرية، وإلا في أسوأ الاحتمالات، إذا تمت إراقة الدماء ستكون على ذمة السلطة في أوكرانيا”. هكذا يصبح الطريق ممهدًا لشنِّ الحرب تحت اسم “العملية العسكرية الخاصة”.
وبعد أن اندلعت الحرب، ألقى الرئيس الروسي بوتين كلمة حول العمليات العسكرية في أوكرانيا تضمنت سردية تُدين السلطات الأوكرانية وتُبرِز تجاوزاتها، مع التجاهل التام للوضع الدفاعي لأوكرانيا، يقول بوتين(31):
“لن أتخلى عن قناعتي بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد بغضِّ النظر أن هناك جزءًا من الشعب الأوكراني قد تعرض للدعاية المضلِّلة من لدن أتباع بانديرا الذين كانوا يحاربون إلى جانب القوات الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، وما يجري من تطورات في ميادين القتال الآن يدل على حقنا. هناك مرتزقة يقاتلون في صفوف القوات المسلحة الأوكرانية ويستخدمون المدنيين المسالمين دروعًا بشرية، وينصبون الأسلحة والمعدات الثقيلة في الأحياء السكنية وفي المدن والبلدات ويتصرفون بهذه الأساليب التي تستخدمها عصابات الإرهابيين، وبدلًا من إبعاد هذه المعدات والأسلحة من رياض الأطفال والمدارس فإنهم ينصبون أسلحة إضافية، وأخذوا مواطنين أجانب رهائن ومن ضمنهم طلبة أجانب…”.
هكذا، نجد أن ذكر القناعة بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد تحيل إلى المزاعم التاريخية بأن أوكرانيا جزء من روسيا، كما أن من أسماهم بوتين: أتباع بانديرا الذين حاربوا إلى جانب القوات الهتلرية، يحيلون إلى الكلمة المفتاحية “النازيون الجدد”؛ وتصرفات ما أسماها “عصابات الإرهابيين” تحيل إلى الطعن في الجيش الأوكراني ومن ثم نعته بالمرتزقة.
واصل الرئيس بوتين في خطاب إعلان الحرب على أوكرانيا، بتاريخ 24 فبراير/شباط 2022، ناسجًا على المنوال نفسه من خلال السرد المفضي إلى التجريم، والذي يحتم القيام بإجراء وكأن الأمر رد فعل روسي على فعل أوكراني. يقول في خطابه (32): “كما قلت في خطابي السابق، لا يمكن للمرء أن ينظر إلى ما يحدث هناك من دون تفاعل. كان من المستحيل ببساطة أن نتحمل كل هذا. كان من الضروري إيقاف هذا الكابوس على الفور: الإبادة الجماعية ضد ملايين الأشخاص الذين يعيشون هناك، والذين يعتمدون فقط على روسيا، يأملون بنا فقط. كانت هذه التطلعات والمشاعر وآلام الناس هي الدافع الرئيس بالنسبة لنا لاتخاذ قرار الاعتراف بجمهوريات دونباس الشعبية”. هنا تعزف السردية على وتر المشاعر والوجدان الجمعي حتى تتضافر الأسباب الموضوعية مع الأسباب الذاتية.
ويعود بوتين -في خطابه- للتذكير بالكلمات المفتاحية التي تجرِّم الأوكرانيين باعتبارهم قوميين متطرفين وعصابات ونازيين جدد: “ما أعتقد أنه من المهم التأكيد عليه أكثر. من أجل تحقيق أهدافها الخاصة، تدعم دول الناتو القوميين المتطرفين والنازيين الجدد في أوكرانيا في كل شيء، والذين بدورهم لن يغفروا لسكان القرم وسكان سيفاستوبول حرية اختيارهم لإعادة التوحيد مع روسيا. إنهم، بالطبع، سيصعِّدون مع شبه جزيرة القرم، تمامًا كما في دونباس من خلال عصابات القوميين الأوكرانيين، الذين ساعدوا هتلر، وقتلوا أشخاصًا عزَّلًا خلال الحرب الوطنية العظمى. الآن يعلنون صراحة أنهم يطالبون بجزء من الأراضي الروسية. تُظهر مجمل الأحداث وتحليل المعلومات الواردة أن صدام روسيا مع هذه القوات أمر لا مفر منه. إنها مسألة وقت فقط: إنهم يستعدون وينتظرون الوقت المناسب. الآن يزعمون أيضًا أنهم سوف يطورون أسلحة نووية. لن نسمح بذلك”.
ويختم بوتين بفذلكة تاريخية تحيل روسيا مدافعةً عن نفسها في الحروب التي خاضتها وستخوضها قاصدًا الوصول بالمتلقي إلى أن حرب روسيا، في كافة تمظهراتها، هي حرب على الإرهاب: “اسمحوا لي أن أذكِّركم أنه في 2000- 2005 قمنا بمواجهة عسكرية للإرهابيين في القوقاز، ودافعنا عن سلامة دولتنا، وأنقذنا روسيا. وفي عام 2014، دعمنا سكان القرم وسيفاستوبول. ومنذ عام 2015، اعتادت القوات المسلحة على وضع حاجز موثوق به أمام اختراق الإرهابيين من سوريا إلى روسيا. لم يكن لدينا طريقة أخرى لحماية أنفسنا. نفس الشيء يحدث الآن. أنا وأنت ببساطة لم تُترك لنا أي فرصة أخرى لحماية روسيا وشعبنا، باستثناء تلك التي سنضطر لاستخدامها اليوم. تتطلب الظروف منَّا اتخاذ إجراءات حاسمة وفورية، خصوصًا بعدما توجهت دونباس الشعبية إلى روسيا لطلب المساعدة”.
وبعد أكثر من ألفي كلمة تصل السردية إلى لحظة إعلان الحرب، ضمن استراتيجية تواصلية تعتمد على الإقناع بواسطة الإطالة والتدرُّج في الحِجاج. يقول الرئيس بوتين، تأسيسًا على القانون الدولي: “في هذا الصدد، وفقًا للمادة 51 من الجزء 7 من ميثاق الأمم المتحدة، وبموافقة مجلس الاتحاد الروسي ووفقًا لمعاهدات الصداقة والمساعدة المتبادلة التي صادقت عليها الجمعية الفيدرالية، في 22 فبراير/شباط من هذا العام، مع دونيتسك الجمهورية الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية، قررتُ إطلاق عملية عسكرية خاصة. هدفها هو حماية السكان الذين تعرضوا للتنمُّر والإبادة الجماعية من قِبَل نظام كييف لمدة ثماني سنوات. ولهذا سنسعى جاهدين لنزع السلاح في أوكرانيا، وكذلك تقديم أولئك الذين ارتكبوا جرائم دموية عديدة ضد المدنيين، بمن فيهم مواطنو الاتحاد الروسي، إلى العدالة”.
هذا القالب الدعائي الذي يتشكَّل من خطابات بوتين وتصريحاته يصبح مرجعًا لدى المسؤولين ووسائل الإعلام الرسمية تُستقى منه الكلمات المفتاحية وتُنسج على منواله السرديات وصولًا إلى خطاب دعائي متناغم. وخير مثال على هذا التناغم، ما ورد على لسان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أثناء مقابلة أجرتها معه قناة الجزيرة بتاريخ 3 مارس/آذار 2022(33)؛ حيث استند إلى السرد التاريخي ليبيِّن أحقية روسيا في أوكرانيا، وعدم التزام الأوكرانيين بالاتفاقيات المبرمة، والاستفزاز من خلال اضطهاد الروس الأوكرانيين.
ثالثًا: بوتين وخطاب التواصل الاجتماعي
إن اللافت للنظر في خطابات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أثناء حربه على أوكرانيا، والتي أطلق عليها اسم “العملية العسكرية الخاصة”، هو استخدامه لأحد أبرز الخصائص التواصلية لرواد شبكات التواصل الاجتماعي -خاصة المؤثرين عبر اليوتيوب “يوتيوبرز”- ونعني بها الغوص في التفاصيل الدقيقة التي تشبه كاميرا الفيديو عند البث المباشر. فقد درج في بعض خطاباته إلى نقل تفاصيل دقيقة من ميادين الحرب، عادة ما لا تتسع لها خطابات الرؤساء التي تُعرف بتكثيف الخطاب.
ففي إحدى الكلمات التي ألقاها، يوم 16 مارس/آذار 2022، بعد مرور أكثر من أسبوعين على اندلاع الحرب وتطبيق العقوبات الشاملة وغير المسبوقة التي فُرضت على روسيا، أورد بوتين تفاصيل عن آثار هذه العقوبات، قائلًا(34): “نحن نرى أن المواطنين الروس أيضًا يتعرضون لتمييز وإساءات في الخارج؛ حيث يمنعون تقديم المساعدات الطبية لهم، ويحرمونهم من التعليم، وحتى الممثلين والفنانين يطردونهم من أعمالهم، وبدأوا يتعاملون بكل قلَّة أدب وعدم احترام مع كل المواطنين الذين يتحدثون اللغة الروسية. وهذا كله يذكِّرنا بالأحداث التي كانت تجري في ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي، وفي الدول التي انضمت إلى نظام هتلر في الحرب العالمية. وكذلك هناك هجمات ضد روسيا حتى في المجال السيبراني؛ حيث جرى استخدام شبكات التواصل الاجتماعي العالمي وكذلك وسائل الإعلام التي تستخدم ضدنا. إن حرية الصحافة كانت مجرد خيال؛ حيث كانت تقوم هذه الوسائل بنشر كافة المعلومات المزيفة. فإحدى شبكات التواصل الاجتماعي الأميركية قد نشرت، وبشكل صارخ، دعوة إلى قتل المواطنين الروس، فنحن نعيش في عالم كاذب…”. هذا النوع من السرد التفصيلي أثناء إلقاء الخطابات، يذكِّر بخصائص التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي تسمح بالإطناب والاسترسال (بسبب مجانية الحيِّز الزمكاني، وتفضيل جذب أكبر قدر من المستخدمين المتفاعلين)، والإيحاء بالمباشرة والتلقائية في إعداد الرسائل التواصلية وإلقائها. كما أن عبارات مثل: “إن حرية الصحافة كانت مجرد خيال”؛ و”المعلومات المزيفة”؛ و”دعوة إلى قتل المواطنين الروس”؛ و”نعيش في عالم كاذب”، تكون أكثر قابلية للانتشار عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بسبب معرفة المستخدمين أن هذه العبارات أصبحت مألوفة.
نموذج آخر للإغراق في التفاصيل غير المألوفة في الخطابات والكلمات والتصريحات التي يُدلي بها رؤساء الدول، ما ورد على لسان بوتين في كلمة ألقاها يوم 3 مارس/آذار 2022، وذكر خلالها معلومات مفصلة عن سير المعارك في جبهة دونيتسك، قائلًا (35): “خلال الأعمال القتالية، أظهر المحاربون بطولة جماعية. وأريد أن أشيد بأعمال الألوية العاملة في مسار دونيتسك، وتحت قيادة قائد اللواء تمكَّن العسكريون الروس من اختراق الدفاعات المحصنة. ودمر قائد فصيل الدبابات خمس دبابات معادية في سير المعارك في الخامس والعشرين من فبراير/شباط بالقرب من بلدة تشوريكم. وكان قائد الفوج قد صادم وحدة فرعية من القوميين المتطرفين الأوكرانيين، والنقيب ألوفخين دمَّر كل العربات المصفحة بالإضافة إلى الدبابات ونفذ عملية قتالية مهمة بدون سقوط أي ضحايا بين صفوف كتيبته…”.
رابعًا: بوتين والتواصل غير اللفظي
إن الاهتمام بلغة الجسد والتواصل غير اللفظي لدى الزعماء والمشاهير مألوف لدى العديد من الجهات التي تسعى للتعرُّف على السمات الشخصية والقدرات التواصلية والتأثيرية لقادة الرأي وعلى رأسهم رؤساء الدول. فقد اهتمت وزارة الدفاع الأميركية بدراسة التواصل غير اللفظي للعديد من زعماء العالم، وعلى رأسهم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. فقد أشرف آندرو مارشال (Andrew Marshall)، مدير “مكتب الدراسات الاستخلاصية” (Office of Net Assessment) التابع للبنتاغون على دراستين حول لغة الجسد والتواصل غير اللفظي عند بوتين عامي 2008 و2012(36)، وجرت الاستعانة بهما في تحليل شخصية بوتين أثناء الحرب على أوكرانيا، عام 2014.
وازداد الاهتمام بلغة الجسد لدى الرئيس بوتين بعد الحرب الروسية-الأوكرانية في 2014. ففي استطلاع رأي أجرته مجلة “ذا نيو ريببلك” (The New Republic)، استند إلى آراء علماء نفس وسياسة مهتمين بالتواصل غير اللفظي، حول تحليل لغة الجسد لبوتين أثناء مؤتمر صحافي عقده في مارس/آذار 2014، جرى التوصل إلى الملاحظات التالية(37):
– لقد أظهر بوتين عددًا غير عادي من حركات الرأس السريعة ولعق الشفاه، مما يشير إلى التوتر. ومع تقدم المقابلة، قام بتغيير وضع جسده من الجلوس بشكل مستقيم إلى الوضع المائل إلى حدٍّ ما في محاولة للاسترخاء أكثر، علامة واضحة على المشاعر غير السارة.
– كان معدل رمش عيني بوتين مرتفعًا بعض الشيء (42 رمشة في الدقيقة)، مع الأخذ في الاعتبار الإعداد المنظم للمؤتمر، والذي يضمن سيطرته الكاملة (علمًا بأنه في أي وقت يرمش فيه الإنسان بسرعة، فهذا يدل على أنه يعاني من التوتر وعدم الراحة).
وفي تحليل لمؤتمر صحافي جمع بين فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، يوم 16 يوليو/تموز 2018، ضمن قمة هلسنكي، أظهرت لغة جسد بوتين أنه أكثر هيمنة من ترامب، مثل: اعتلائه الرشيق للمنصة، وإيماءاته الديناميكية باستخدام اليدين، وتحدثه أولًا، ولفترة أطول؛ الأمر الذي زاد حظوظه في التأثير على المتلقين(38).
وهناك لقاء القمة الذي جمع فلاديمير بوتين وجو بايدن، في جنيف، يوم 16 يونيو/حزيران 2021، والذي خلصت خبيرة لغة الجسد، ماري سيفيللو (Mary Civiello)، من تحليله إلى أن بوتين عبَّر عن نفاد صبره -وعدم استعداده للعطاء- من خلال النقر بيديه على جانبي الكرسي، ولسان حاله يقول: “متى سينتهي هذا اللقاء؟”، وهذا يتسق مع لقاءاته السابقة مع بيل كلينتون وجورج دبليو بوش ودونالد ترامب، فضلًا عن إظهار الديناميكية الجسدية من خلال الوصول المبكِّر والجلوس على الكرسي في وضعية مسترخية وساقين متباعدتين(39).
ويفيد التطرق للتواصل غير اللفظي لدى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عند إلقاء خطاباته، وعقد اجتماعاته أثناء الحرب الروسية-الأوكرانية، في فهم الاستراتيجية الدعائية الروسية التي اتسمت -كما رأينا- بخصوصية تجعلها تستحق التفكُّر؛ إذ يلاحظ المتتبع اتساقًا وتناغمًا بين السردية المتبعة والحقل المعجمي الذي تتشكَّل منه والرسائل غير اللفظية المصاحبة، فضلًا عن السياق المرئي.
فعلى صعيد ترتيب البيئة المُحتضِنة للخطاب، يحرص بوتين على إلقاء كلماته من داخل مكتبه (أو مكاتبه) وعلى يمينه عَلَم روسيا (ذو الألوان: الأبيض والأزرق والأحمر) وعلى يساره العَلَم الرئاسي الذي يتوسَّطه النسر ذو الرأسين، ما عدا الحالات التي يكون فيها خارج الكرملين (مثل لقائه مع ممثلي شركة الطيران الروسية أيروفلوت في مقر الشركة، أو لقائه الجماهيري في ملعب بمناسبة الاحتفال بذكرى ضم شبه جزيرة القرم). إن وجود العَلَم في الخلفية -وهو من الكِبَر حيث يبدو كأنه يتدلى من السقف- وما يحمله من رموز ودلالات وطنية وتاريخية يهدف إلى إظهار الهيبة الروسية والقوة والتفوق؛ الأمر الذي يستدعي إلى ذهن المتلقي: روسيا الدولة الأكبر مساحة، وروسيا النووية المتفوقة في الصواريخ البالستية، وروسيا رائدة الفضاء، وروسيا الأولى في العديد من مكونات الاقتصاد السياسي.
ويحافظ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في لقاءات كلماته أثناء الحرب الروسية-الأوكرانية على تعبيرات وجهية مُسيطَر عليها بحيث تُظهر حالة الحرب مثلما أسماها هو: “عملية عسكرية خاصة” (لا تدعو للانفعال). فهو لا يبدي تعبيرات الفرح والسرور -كالابتسام والضحك- أو نقيضهما -كالحزن والغضب- بل يوصل رسائل مفادها: أنه يمارس عمله اليومي كما اعتاد، وهو في مكتبه جالس وكل شيء على ما يرام.
وتتعزز هذه التعبيرات الوجهية غير الانفعالية بنبرة صوت هادئة خالية من التنغيم الناقل للمشاعر والعواطف، وإيقاع حديث معتدل، وعدم ارتباك أو حالات صمت لافتة للنظر، وغياب الأصوات الفاضحة للمشاعر والعواطف والحالة الصحية، كالتأوُّه والزفير. وينضاف إلى ذلك، إيماءات اليدين التي تبدو ضمن نطاق توضيح الكلام أو تكملته، باعتبارها إحدى سماته التواصلية وليست نتاج حالة تواصلية مخصوصة استدعت القيام بإيماءات غير متوقعة.
ويحيلنا التحكم في التعبيرات الوجهية ونبرة الصوت الهادئة والإيماءات المعتادة إلى خصوصية الدعاية الروسية القائمة على أسس علمية وتطبيقات مؤسسية تجعل السلوك التواصلي الدعائي سلوكًا مدروسًا ومتعمَّدًا، بحيث يتناغم فيه السلوك غير اللفظي مع اللغة اللفظية.
ويحرص الرئيس بوتين على الظهور بمظهر أنيق على مستوى الزي (تساعده في ذلك بنيته الجسدية المتوسطة) مع الحفاظ على الألوان الرسمية والتناسق بالطريقة الكلاسيكية، وربطة عنق معقودة بكيفية مثالية (المثلث المقلوب متساوي الأضلاع). ويقترن المظهر مع هيئة الجلوس والانحناء والميل وتحريك النصف الأعلى من الجسم بكيفية توحي بالحيوية الرياضية التي لا تصل إلى درجة التوتر والأفعال الانعكاسية، فضلًا عن المِشية التي تمنحه امتيازًا مقارنة بنظرائه المتأثرين بسطوة العمر أو المرض أو البنية الجسمية غير الرياضية (كما أن الدعاية الروسية تروِّج لبوتين الرياضي). وعلى مستوى المظهر الشخصي يمكن وصف الرئيس بوتين بأنه: الأنيق الرياضي(40).
وظَّفت الدعاية الروسية المظهر بكيفية فعَّالة في اللقاء الذي جمع بين الرئيس بوتين وممثلي شركة الطيران الروسية “أيروفلوت” في مقر الشركة بتاريخ 5 مارس/آذار 2022(41)، وتم ترتيب البيئة بحيث تطغى الجماليات على الرسميات المتمثلة في أجواء المكتب والجلوس بين علمي الدولة والرئاسة. فقد اقتصر اللقاء على مجموعة من النساء المفعمات بالجماليات المعتمدة في خطوط الطيران (من حيث الشكل والزي والتزيين) اللائي جلسن حول طاولة ممتلئة بالأزهار وتحفُّها أشجار الزينة لتحل محل العَلَم في خلفية صورة الرئيس. هذا اللقاء المقرون بحركات الكاميرا وأحجام اللقطات التي تقرِّب الوجوه وتساعد على إطالة النظر، يرسل رسائل تشبه ما يسمى في علم التواصل غير اللفظي بـ”استخدام الرموز الجنسية لأغراض غير جنسية”، أي إبراز الجمال في سياق بعيد عن الجمال مثل سياق الحديث عن الحرب ومآلاتها، وذلك لترسيخ صورة روسيا الجميلة التي تستحق كل جميل في ذهن المتلقي.
ويمكن إجمال الحديث عن التواصل غير اللفظي لدى الرئيس بوتين خلال الحرب الروسية على أوكرانيا، في القول: إنه حرص على رسم صورة مضادة لصورة الرئيس الأوكراني، زيلينسكي؛ حيث يبدو هذا الأخير في الزي العسكري وبوتين في زيه المدني، ويطل زيلينسكي من مخابئ متفرقة، بينما يطل بوتين من مكتبه، ويرفع زيلينسكي نبرة صوته متحديًا، فيبقى بوتين هادئًا كهدوء الأراضي الروسية وشساعتها مقارنة بالأراضي الأوكرانية. إنها حرب تواصلية بامتياز يبرز فيها سلاح الدعاية جنبًا إلى جنب السلاح التقليدي مسنودًا بأسلحة الدمار الشامل.
خامسًا: سرديات الخطاب الدعائي الروسي
يستند الخطاب الدعائي الروسي -كما تجلى في الحرب على أوكرانيا- إلى مجموعة من السرديات المتكاملة والمتفاعلة عبر آليات توظيفها، والسياقات التي تستخدم فيها. ويمكن رصد ستة أنواع من السرديات المُضمَّنة في الخطاب الدعائي الروسي، والتي تتمظهر عبر خمسة أشكال مختلفة؛ حيث تتخذ كل سردية شكلين اثنين على الأقل،
1- السردية التاريخية: ونقصد بها تضمين الخطاب معلومات تاريخية واتباع المناهج التأريخية في تسلسل الأحداث وإيراد الأخبار ضمن إطار زمني مخصوص، على اعتبار أن هذه الأحداث أفعال حقيقية جرت في الماضي. تتخذ السردية التاريخية شكل الهجوم تناغمًا مع الوضع الهجومي الروسي، سواء باستخدام مصطلحات الكرملين: “العملية العسكرية الخاصة” أو باستخدام الجهات المناهضة: “الغزو الروسي لأوكرانيا”. وتتخذ شكل الدفاع عندما يسعى الخطاب لتبيان الظلم الذي وقع على الأراضي الروسية خلال الحقبة السوفيتية؛ أو التذكير بعدم الوفاء بالوعود التي قُطِعت لروسيا بعدم تهديد أمنها القومي من لدن حلف شمال الأطلسي عندما تفكك الاتحاد السوفيتي. ويرد الجانب التاريخي في شكل معلومات ومغالطات مثيرة للجدل، خاصة عندما يتعلق الأمر بتاريخ الدولة الأوكرانية. ويستخدم السرد التاريخي كأداة تبريرية فعَّالة بسبب ملامستها للوجدان الجمعي، أو منطقها المقنع.
2- السردية التمجيدية: حيث تُستدعى هيبة الدولة الروسية -ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا- من حيث كونها دولة عظمى تستحق التمجيد هي ورئيسها الحالي. وتحضر هذه السردية في حالات الهجوم (للقول: إن الدول العظمى تعلو ولا يُعلى عليها)؛ وفي حالات الدفاع عن المصالح الروسية وأمنها القومي؛ وهي حاضرة لكي تطمئن الجمهور الروسي ومن يوالي روسيا بأن النصر حليفهم؛ كما تتخذ شكلًا تبريريًّا لكل من يتساءل عن دواعي هذه الحرب والحروب الروسية المشابهة.
3- السردية التحفيزية: وتعني سرد الأحداث الآنية والقرارات المتخذة لتحفيز من هم على جبهات القتال أو القاعدين والمراقبين لبذل قصارى الجهد والتشجيع والتضامن وصولًا إلى تحقيق النصر. وتتخذ أشكال الهجوم والدفاع والتبرير كآليات دعائية فعَّالة، خاصة عندما يُخاطب الجندي الروسي المهاجم وكأنه يدافع عن وطنه –استباقيًّا- ويجري التبرير لكل فعل على أرض المعركة وكل قرار يجري اتخاذه.
4- السردية التحقيرية: وتهدف إلى تحقير الآخر ونعته بأوصاف سلبية مستمدة من كلمات مفتاحية رائجة، والاستدلال بممارساته الفعلية أو المزعومة وصولًا إلى تحقيق أهداف الخطاب الدعائي الروسي وغاياته. فسواء تعلق الأمر بمهاجمة أفعال الآخرين أو الدفاع عن الأفعال الروسية، قد يحضر الحديث عن النازيين الجدد والمتطرفين والأعداء والمستعمرين الغربيين والمتخاذلين (حتى وإن كانوا من الحكام السوفيت-الروس الذين فرَّطوا في سيادة روسيا وأمنها القومي، كما تزعم السردية التاريخية). وغالبًا ما يأتي التحقير الهجومي أو الدفاعي لتبرير الأفعال الروسية.
5- السردية التضليلية: وهي سردية تقوم على مبدأ التضليل من خلال الاستعانة بالمعلومات الخاطئة في السرد، أو انتزاع البيانات والمعلومات والأفكار من سياقاتها، أو محاولة الوصول إلى نتائج من خلال مقدمات خاطئة. ويستخدم السرد التضليلي ضمن الخطاب الدعائي الروسي في حالات الهجوم أو الدفاع أو التبرير، سواء في الخطابات الرسمية أو المحتوى الإعلامي من خلال تبنِّي الكلمات المفتاحية التي ورد ذكرها سابقًا.
6- السردية التهديدية: وتفيد استخدام التهديد اللفظي وغير اللفظي، صراحة أو ضمنًا، عندما يقتضي السياق إرسال رسائل للداخل والخارج مفادها أن روسيا قادرة على الردع -بسلاحها التقليدي والنووي والاقتصادي- وماضية في تنفيذ أهدافها وصولًا إلى غاياتها من إطلاق “العملية العسكرية الخاصة”. يحضر التهديد عند مهاجمة الآخر المعتدي (المصدِر للعقوبات الاقتصادية الموجعة) أو الدفاع عن الأفعال الروسية التي تجري إدانتها من لدن الآخر. وتأتي الرسائل التهديدية لطمأنة الجمهور الداخلي بأن الأمور تسير على ما يرام.
4. مناهضة السرديات المضادة
تعمل الدعاية الروسية على مستويي الهجوم والدفاع بكيفية متزامنة ومتكاملة، وفقًا لمنطق الحرب التقليدية. فكما أنها تهتم بإلقاء الرسائل التواصلية الدعائية التي تخدم الخطاب الروسي وتستخدم سردياته، تحول دون تلقِّي الرسائل المضادة من لدن المتلقين الروس، أو تشوِّش على وصولها للمتلقين الآخرين.
إن روسيا التي ورثت الاتحاد السوفيتي الذي عُرف بنظرية الصحافة الشيوعية؛ حيث تمتلك الدولة وسائل الإعلام وتستخدمها في السيطرة الاجتماعية، حافظت -إلى حدٍّ كبير- على إرث هذه النظرية الأمر الذي جعلها تبدو ضعيفة في مجال حرية الصحافة والتعبير. فقد صنَّفتها منظمة مراسلون بلا حدود “دولة غير حرة” في المرتبة 150 ضمن قائمة تضم 180 دولة في عام 2021، كما ظلت تتراوح بين المرتبة 148 و152 ضمن قائمة الـ180 دولة خلال السنوات التسع الماضية (2013 إلى 2021)(42). وعندما تندلع الحرب مع أوكرانيا في ظل هذه الحرية الصحافية المتدنية، فلا يستبعد أن تحول الآلة الدعائية الروسية دون وصول أية سردية أوكرانية أو غربية مضادة للسردية الروسية.
ففي الرابع من مارس/آذار 2022، بعد اندلاع الحرب، وقَّع الرئيس بوتين على مشروع قانون لوسائل الإعلام تضمَّن تجريمًا للتغطية الموضوعية للحرب في أوكرانيا، ويحظر نعت “العملية العسكرية الخاصة” بكلمة “حرب”. ومن يخالف القانون يواجه عقوبة سجن تصل إلى 15 عامًا؛ الأمر الذي أجبر العديد من وسائل الإعلام المستقلة على الإغلاق، وغادر أكثر من 150 صحافيًّا محليًّا البلاد(43). فعلى سبيل المثال، أوقفت شبكات “إيه بي سي” (ABC) و”سي إن إن” (CNN) و”سي بي إس” (CBS) الأميركية بثَّها في روسيا تفاديًا لتبعات القانون الروسي الجديد(44). وغادر العديد من الصحافيين المستقلين روسيا إلى الدول التي ظلت أجواؤها مفتوحة للطيران الروسي ولا تحتاج إلى تأشيرة، مثل تركيا وأرمينيا وصربيا وجورجيا(45).
وطال التضييق شبكات التواصل الاجتماعي عندما أصبح التواصل عبر شبكتي فيسبوك وتويتر بطيئًا أو متعذرًا(46) مما حال دون وصول المستخدمين للرسائل المضادة للسرديات الروسية حول الحرب، وجرى إيقاف الشبكتين بصفة تامة في الرابع من مارس/آذار 2022؛ الأمر الذي أدى إلى حرمان ملايين المستخدمين من التواصل مع أصدقائهم وذويهم والتعبير عن آرائهم(47). ولم يأت هذا التضييق والمنع من فراغ، فقد اتخذت الشركات التي تُقدِّم خدمة شبكات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها ميتا المالكة لفيسبوك وتويتر، مجموعة واسعة من الخطوات لمواجهة المعلومات المضلِّلة التي تصدر عن الدعاية الروسية، وتصنيف أو حظر وسائل الإعلام التي ترعاها الدولة أو التابعة لها(48).
هكذا تبدو الدعاية الروسية متكاملة الأركان من حيث قدرتها على الهجوم والدفاع، ومن حيث تهييئ البيئة للمتواصلين الدعائيين الروس بتمكينهم من الانفراد بالمتلقين المستهدفين، ومن حيث منع وصول الرسائل التواصلية المثيرة للجدل والمشكِّكة في السرديات الروسية.
خلاصات
نخلص من هذه الدراسة إلى أن الدعاية الروسية المعاصرة ذات خصوصية تجعلها تبدو أكثر مؤسسية واحترافية مقارنة بالدعاية السياسية التي لا تخلو منها الدول، مع الاختلاف في الميل نحو التواصل الإعلامي أو الابتعاد عنه. هكذا يمكن حصر أبرز الخصائص التي تميِّز الدعاية الروسية في الآتي:
1. الدعاية الروسية متجذِّرة في التاريخ الروسي الحديث، خاصة في الفترة السوفيتية وما بعدها، ومؤسسة تأسيسًا علميًّا واستراتيجيًّا يمنحها خبرات متراكمة وقدرة على التحوُّر والتكيُّف من حيث التكنولوجيا والأساليب والمحتوى ومعرفة البيئة.
2. تقوم سرديات الدعاية الروسية على مبدأ التراتبية المتناغمة (منطلقة من قمة هرم الدولة)، ضمن نظام سياسي يهمِّش الرأي الآخر، ويحتمي بثنائية الأنا/الآخر التي تجعل التضاد مع الغرب السياسي أمرًا مُفسِّرًا ومُبرِّرًا لأي سلوك وجعله يبدو دفاعًا عن الوجود.
3. إن السرديات المستخدمة في الخطاب الدعائي الروسي متعددة الأنواع والأشكال؛ الأمر الذي يمنح الدعاية الروسية مرونة ومجالًا واسعًا في التأثير على المتلقين.
4. وصلت الدعاية الروسية -أثناء الحرب الأخيرة على أوكرانيا- إلى مستوى يهدد مفهوم الحقيقة والاعتراف بها، وذلك بفضل الرقمنة التي سهَّلت عملية التزييف المعرفي لدرجة ينتفي معها الاعتراف بالواقع والادعاء بتزييفه مهما توافرت القرائن والحجج. يتعزز هذا التوجه بسبب المعضلة الناشئة من شبكات التواصل الاجتماعي التي أتاحت لبلايين الناس إمكانية التواصل فيما بينهم وإنتاج المحتوى ونشره دون امتلاك القيم المهنية التي ميَّزت التواصل الإعلامي التقليدي؛ إذ وصلت الدعاية الروسية إلى مرحلة نكران أي سلوك عسكري مناف لقوانين الحروب وأعرافها تورَّط فيه الجنود الروس أو الموالون لهم (كتعريض مفاعل نووي للخطر أو ضرب مستشفى أو ارتكاب مجزرة تصنَّف ضمن جرائم الحرب…).
5. يتجاوز التواصل الدعائي الروسي مرحلة الدعاية الفجَّة (كالتي ازدهرت في العهد النازي) إلى مرحلة الدعاية الوظيفية التي تصبح جزءًا من مكونات الدولة ووسيلة رئيسة ضرورية لممارسة الحكم. هكذا تخضع للتطوير والتقييم مثلها مثل بقية مكونات الدولة.
6. أصبح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نجمًا في مجال التواصل الدعائي، استنادًا إلى خبرته المهنية في مجال المخابرات، وتجربته الطويلة في مجال الحكم، وسماته الشخصية التي تجعل منه أحد القادة البارزين والمثيرين للجدل في التاريخ المعاصر.