-المؤلف: د. لمى مضر الإمارة
–
موضوع هذا الكتاب جدير بالاهتمام والدراسة، كونه يسلط الضوء على التوجهات الروسية بعد انتهاء الحرب الباردة, وعلى هواجسها الأمنية التي جعلتها تتبنى هذه التوجهات, خاصة وأن مجال الاهتمام ينصب على الكيفية التي تطورت بها الدولة الروسية من دولة كانت تعد القطب الثاني المنافس على الساحة الدولية إلى دولة مضطربة وغير مستقرة في بداية ظهورها في العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم.
ومن ثم يتركز الاهتمام على كيفية تمكن القيادات الروسية بعد عام 2000 وحتى اليوم من إعادة بناء هياكل الدولة بشكل أعاد هيبة ومكانة روسيا على الصعيد الدولي، خصوصاً بعد حرب القوقاز الأخيرة ضد جورجيا.
وتنطلق المؤلفة من اعتبار الإستراتيجية واحدة من الفعاليات الحيوية المصاحبة لتشكل الدول ونموها واستمراريتها، ومعتبرة أن الإستراتيجية الروسية تمر بمرحلة تحوّل انتقالية، كونها ما تزال في مرحلة الصيرورة، وتعاني تحديات جدية، داخلياً وخارجياً.
قلب أورسيا
تعتبر المؤلفة روسيا الاتحادية واحدة من القوى الدولية الأساسية على المسرح الدولي, ليس فقط لأنها تعتبر الوارثة الرئيسية للاتحاد السوفيتي السابق, بل لأنها تتوفر على مجموعة من عوامل القدرة التي تؤهلها للقيام بهذا الدور حاليا وفي المستقبل.
فمن زاوية عناصر قوة الدولة, تتوفر روسيا على موارد هائلة لم تستغل بعد, وستشكل إذا ما استغلت دافعا رئيسيا لجعلها واحدة من أغنى دول العالم.
أما من الناحية الجيوسياسية, فروسيا الاتحادية في حقيقة أمرها هي قلب أوراسيا وجناحاها, وتصدق عليها النظرية الأوراسية، التي تعتبر واحدة من النظريات الجيوسياسية ذات المصداقية العالية, إذ هي تشكل القلب وتقترب جدا من قوس النفط وقوس الأزمات في آن واحد.
وبإضافة الإرث السياسي والإستراتيجي المتحقق لروسيا الاتحادية نتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي السابق, فإن ذلك سيجعل من روسيا الاتحادية إحدى الأطراف الرئيسية على المسرح الدولي.
مرحلة التفكك
أفرزت مرحلة تفكك الاتحاد السوفيتي فترة بالغة الخطورة والضبابية, وربما الفوضى, على الساحة السياسية الروسية، لأن ما حدث كان هائلا وكبيرا بكل المقاييس, فمن دولة كانت تعد القوة العظمى الموازية للولايات المتحدة وقائدة لحلف عسكري يضم بين ظهرانيه كل دول أوروبا الشرقية الدائرة في فلك الاتحاد السوفيتي السابق, ومن بلد كان يمتلك في حقيقة الأمر أكبر قوة عسكرية تقليدية قادرة على التهديد والفعل في وسط أوروبا بما يقلب معادلة التوازن الإستراتيجي القائمة فيها بعد الحرب العالمية الثانية, ومن ترسانة نووية كانت القوى العظمى الأخرى تحسب لها الحساب, وتسعى إلى تحجيمها بمختلف الذرائع, وجد الشعب الروسي وقيادته بعد تفكك الاتحاد السوفيتي نفسيهما أمام حقائق صارخة ومرة في آن واحد.
لا قوات تقليدية ثقيلة في وسط أوروبا, ولا دول في شرق أوروبا تسير في فلك الاتحاد الروسي الجديد, إذ انشقت 14 جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق, وانفصلت لتشكل جمهوريات مستقلة لكل منها أهدافها ومصالحها القومية التي قد تتقاطع في ما بينها حتى تصل إلى مرحلة الحروب, ولم يعد يجمع بينها إلا منظمة فضفاضة ذات نهايات سائبة, تفتقر إلى وحدة النظرة والإرادة والفعل, وهي كومنولث الدول المستقلة.
وبالمقابل, وجد الشعب الروسي وقيادته أن الولايات المتحدة الأميركية وكأنها حسمت أمر السيطرة والهيمنة على العالم خدمة لمصالحها الحيوية والقومية, فانطلقت على المسرح الدولي كقطب واحد لا يقف في وجهه أي قطب مقابل، وتصرّفت وكأنها لا تواجه أي تحدّ واعد على الأقل.
مرحلة التحول
تشير المؤلفة إلى أن مرحلة التحول التي مرت بها روسيا الاتحادية, في عقد التسعينات, ولدت تحولات متوالية في الموقف السياسي في البلد, بدءا من العام الأول الذي نشأت فيه روسيا الاتحادية بعد التفكك عام 1992, وصولا إلى بداية القرن الحادي والعشرين.
وعليه توجب على صانعي القرار الجدد في روسيا الاتحادية أن يفكروا بعقلانية وحصافة في معرض سعيهم إلى إعادة ترتيب أولوياتهم, وتقليل الضرر الذي أحاق بهم إلى أدنى مستوى ممكن, وإعادة صوغ الأهداف القومية لروسيا الاتحادية عن طريق تحليل معمق لعناصر القدرة والفعل والكبح المؤثرة في الحياة الروسية.
وتمكنت الدولة، متمثلة بالحكومة وبشخص الرئيس السابق فلاديمير بوتين ومن ثم خليفته ديمتري ميدفيديف, من إنهاء عملية التحول والوصول إلى مرحلة الاستقرار على الصعيدين الاقتصادي والسياسي ببعديه الداخلي والخارجي, وهذه عملية ديناميكية مستمرة تتحدد ملامحها في المعادلات الفاعلة في كل من النشاطات التي سبقت الإشارة إليها.
ويشير واقع الحال في روسيا الاتحادية اليوم إلى أن هذه الدولة استطاعت أن ترسم لها خطا إستراتيجيا بعد مرحلة التحول إثر تفكك الاتحاد السوفيتي, واستطاعت إقرار نظام اقتصادي يعمل وفق آليات السوق, مدعما بنظام يعمل وفق التعددية السياسية والإثنية والدينية التي يتصف بها.
سمات الإستراتيجية الروسية
تحدد المؤلفة سمات الإستراتيجية الروسية بعد انتهاء الحرب الباردة من خلال تحديد أهم معالم توجهات روسيا الاتحادية الإستراتيجية، والتي تتمثل فيما يلي:
1-الواقعية: تتجسد هذه السمة في سعي القيادة السياسية الروسية إلى بناء سياسة براغماتية, عن طريق الابتعاد عن الحجج الأيديولوجية، التي كانت تميز التحرك الدبلوماسي والسياسي السوفيتي في الماضي القريب، وإحلال محلها مبررات سياسية واقتصادية أكثر وضوحا وتعبيرا عن تطلعات روسيا المستقبلية.
2-براغماتية القيادة: وتتمثل في لجوء القيادة الروسية إلى قيم جديدة بدأت تعمل بها, حيث عمد رؤساء روسيا إلى إظهار وتأكيد قطع علاقات بلادهم بالماضي الشيوعي, والتخلي عن كافة ركائز الحرب الباردة, بما فيها الأيديولوجيات الماركسية اللينينية.
3-الديناميكية: وتظهر ديناميكية أو فاعلية الإستراتيجية الروسية من خلال ما يضمن بصورة جدية عدم العودة إلى الوراء منذ تواري عصر الأيديولوجيات المتصارعة على الساحة الدولية أو غياب الأيديولوجيات الشيوعية، حيث ظهر فلاديمير بوتين في نظر الغرب كحام للخط الإستراتيجي الجديد الذي انتهجته روسيا في عصر العولمة وحرية الأسواق, مع الإصرار على وحدة تراب الاتحاد الروسي وعدم التفريط بها, وإتباع مختلف الوسائل, بما فيها القوة العسكرية, لتأكيد هذه الوحدة, كما في الموقف من تمرد الشيشان.
أهم هدف تسعى إليه روسيا الاتحادية هو إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها, وهو أمر يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري في المناطق الحدودية
4-المنافسة: وهي هدف جديد على السياسة الروسية, ولأجله أجاز الدستور الروسي الجديد هدف المنافسة على الأسواق العالمية محل المواجهة الأيديولوجية. لكن تحقيق هذا الهدف لا يخلو من الصعوبات, التي سرعان ما انعكست على الإستراتيجية الروسية, من خلال إعادة ترتيب الأولويات، الذي انعكس في خطط الإصلاحات البنيوية الجديدة, وحركة الانفتاح المالي والاقتصادي على الخارج.
وهذا يظهر الفارق بين الإستراتيجية الروسية الحالية وما كان متبعا في الحقبة السوفيتية، إذ خلافا للاتحاد السوفيتي, تفضل روسيا الاتحادية، ولأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، إرسال المزيد من الأسلحة إلى الدول التي تستطيع دفع ثمنها. وتؤكد المؤلفة أن بلوغ هذه الغاية يتطلب المزيد من الاستثمارات من جهة, والإصلاح البنيوي للقاعدة الصناعية الروسية لرفع مستواها التنافسي من جهة أخرى.
5– حرية الحركة: وتتجسد في أن تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور نظام دولي جديد لم يصاحبهما فرض شروط على روسيا أو على مصالحها أو على حرية حركتها أو عناصر قوتها، فوضعها الجديد لم يجعلها، على الأقل، مجبرة على الانصياع لموقف الدول الكبرى, سواء داخل مجلس الأمن ضمن منظمة الأمم المتحدة, أو خارجه ضمن توجهات التطام الدولي الجديد، الأمر الذي مكنها من القدرة على التحرك والتحدي والمعارضة لأي نمط جديد في العلاقات الدولية, وبما يتفق مع مصالحها.
6-المرونة: وتظهر من ملاحظة الاختلاف في المفاهيم بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية بخصوص مسألة الأمن العالمي وموقع المصالح الروسية منها. ففي حين ترى الولايات المتحدة مناطق العالم الحساسة على أنها جزء من النفوذ الغربي, وعلى الغرب تأمين الحماية اللازمة للمحافظة على الوضع السياسي القائم فيها, تؤيد روسيا الجهود الجماعية, والاقتراح الداعي إلى إشراك جميع أعضاء مجلس الأمن والأطراف المعنية لحل أي أزمة تنشب في العالم.
وتعتبر المؤلفة أن أهم هدف تسعى إليه روسيا الاتحادية هو إعادة هيبتها والحفاظ على أمنها وسيادتها من أي خطر يحيط بها, وهو أمر يدفعها إلى تعزيز وضعها العسكري في المناطق الحدودية.
لذلك تعتبر روسيا أن قضية انضمام جورجيا وأوكرانيا, وحتى أذربيجان, إلى حلف شمال الأطلسي, تشكل خطرا كبيرا على أمنها القومي واستقرارها وإمكانية حركتها وتوجهاتها, سواء على المحيط القريب منها, دول الاتحاد السوفيتي السابق, أو على المحيط الأبعد, مثل الصين أو إيران أو غيرهما من الدول.
ويضاف إليها مسألة نشر الدرع الصاروخية الأميركية في بعض دول الاتحاد السوفيتي (سابقا), وتجاهل كل الدعوات الروسية لحل هذه المسألة بطريقة تزيل الشكوك الروسية من أنها هي المستهدفة من هذا المشروع.
الصعيد العربي
على الصعيد العربي، ترى المؤلفة أن بعض القادة الروس يعتبر أن مصالح روسيا الوطنية تتطلب منها السعي نحو تقديم نفسها بديلا للغرب في المنطقة العربية، إلا أن هذا المدخل ينبغي أن لا يجري في سياق المواجهة التي سادت إبان فترة الحرب الباردة.
وتعتبره شرطاً ضرورياً لدخول روسيا منطقة الشرق الأوسط، التي ما زال وجود الغرب فيها يتمتع بالتأثير الكبير، فضلاً عن ضرورة أن يكون التحرك الروسي والعلاقات القائمة مع دول هذه المنطقة مرسومين وفقاً للأهداف والمصالح الروسية، وانطلاقاً من المميزات التي تتمتع بها هذه الدول.
وتحدد المؤلفة خمس نقاط تستند إليها الإستراتيجية الروسية حيال المنطقة العربية، وتتمثل في:
1) السعي الروسي إلى تحقيق الأمن للحدود الجنوبية في وجه التهديدات التي تقع نتيجة فشل روسيا والدول المستقلة في إيجاد مؤسسات ذات كفاءة ورقابة على استخدام القوة, وذلك من خلال العمل على وضع حد للنزاعات والصراعات المنتشرة على مقربة من حدودها, ولا سيما النزاعات ذات المشاعر الإسلامية, حيث يشعر القادة الروس بأن جيرانهم المسلمين ما زالوا غير قادرين على خلق دولة قابلة للحياة, وأنه ينبغي لروسيا أن تأخذ الدور على عاتقها من أجل ترتيب الأوضاع السياسية في المناطق المحاذية لها بشكل لا يهدد أمنها.
2) إن دخول روسيا المنطقة من جديد هو سياسة وقائية لمنع الاندفاع الإسلامي, أو مواجهة ما يوصف بالتهديد الإسلامي الشامل الذي تتحدث بشأنه نظرية الدومينو, حيث تسعى إلى وجود نظام إقليمي مستقر قرب حدودها. وترى روسيا أن إعادة تأكيد مصلحتها الوطنية في إيجاد النظام المستقر أصبحت أكثر إلحاحا من أجل الوقوف في وجه التحديات الخارجية.
3) السعي الروسي إلى إيجاد حزام أو كتلة من الدول تقف في وجه القطبية الأحادية, وتساهم في ممارسة الضغط على الولايات المتحدة كي تتاح لروسيا فرصة الدخول في عملية السلام, وإثبات أن لديها قدرة ومكانة على الساحة الدولية, وهو ما يفسر السعي إلى إقامة العلاقات مع الدول المناهضة للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة, مثل إيران وسورية, وقبلهما العراق, من أجل الفوز بالتوازن الذي تستطيع من خلاله مواجهة الهيمنة الأميركية.
4) إعادة تأكيد الوجود النسبي الروسي في منطقة الشرق الأوسط, إذ ترى روسيا أنه إذا ما أرادت أن تحفظ هيمنتها على آسيا الوسطى, فيجب أن تعمل على تطوير العلاقات مع إيران. وعليه أضحت قضية نقل التكنولوجيا النووية وإمداد إيران بالسلاح مصلحة حيوية مزدوجة, فمن جهة تزيد من اعتماد إيران على روسيا, ولا سيما في هذا المجال, مما يحول دون قيام إيران بأي توجهات في المنطقة, وخصوصا في آسيا الوسطى, تضر بمصلحة روسيا, ومن جهة أخرى يفتح هذا التعاون الباب لتوظيف الأيدي العاملة الروسية, فضلا عن الحصول على العملات الصعبة.
5) حاجة روسيا إلى إيجاد شركاء اقتصاديين وأسواق تجارية وسوق للسلاح, إذ تسعى روسيا إلى الحصول على مكاسب اقتصادية, ولا سيما على فرص للاستثمار والحصول على العملات الصعبة جراء بيعها أسلحة.
وقد اتسمت هذه الإستراتيجية بالحيوية والمبادرات الإيجابية في الفترة التي تولي فيها فلاديمير بوتين الحكم، وذلك من خلال محاولات روسيا في عهده استمالة البلدان العربية في قضايا ذات اهتمام مشترك، وإبداء الرغبة في التوسط لحل الأزمات في المنطقة.
لكن المؤلفة تتساءل عن مدى التزام الرئيس الجديد ديمتري ميدفيديف بالنهج الذي اتبعه سلفه حيال المنطقة العربية، خصوصاً بعد أن أصبحت الولايات المتحدة على مشارف حدود روسيا الاتحادية إثر احتلالها أفغانستان والعراق.
عرض: عمر الكوش