دار الاهالي –دمشق 2006
من الكتاب :
بعض خصائص الفكـر السياسي الصيني:
وفرت الفلسفة الكونفوشية القاعدة النظرية لبناء الإمبراطورية الصينية وضمان الاستقرار الاجتماعي فيها خلال آلاف السنين. ووجد أباطرة الصين ضالتهم في الكونفوشية من اجل استمرار حكمهم وتوريثه، وضمان طاعة الرعية. بينما فهم الشعب الكونفوشية على أنها عدل الحاكم واحترام الدرجات والمراتب الاجتماعية ومتانة الأسرة. ولذلك عاشت هذه الفلسفة طيلة هذه السنين لأنها لبت مصالح الأباطرة، ودغدغت مشاعر الشعب ومتطلباته الروحية في الوقت نفسه.
وفي صين اليوم، فإننا نشهد تنشيطـا للقيـم الكونفوشية، التي لم تختف أصلا من عقـول الناس. فالفلسفة الكونفوشية تدرس الآن في الجامعات الصينية، وتتبارى الأسر الصينية في إظهار التزامها بالقيم الكونفوشية. ولم يختف مفهوم، أن الصين هي مركز العالم
ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد على يد الفيلسوف كونفوشيوس، الذي ولد عام 551 ق.م، وتوفي عام 479 ق.م. وقد ألف كونفوشيوس، الذي عاش في عهد أسرة جو كتب (الأغاني – الربيع والخريف – أحاديث ومناقشات).. حيث طرح أفكاره واثر – ولا يزال كثيرا على الوعي الصيني . وقد عبر عبت الكونفوشية عن نفسها اليوم في نزعة العزة القومية وتسامي الانتماء إلى الصين. وهذه النزعة لم تزول عند انهيار الإمبراطورية وإقامة الجمهورية عام 1911. والعقيدة الشيوعية الأممية التي تسود منذ تأسيس الصين الشعبية عام 1949، لم تؤثر كثيرا على هذه النزعة القومية، لا بل- اعتقد- إن الشيوعية الصينية قد تميزت عن مثيلاتها في العالم، بأنها كانت عقيدة قومية، استلهمت مصالح الأمة الصينية، رغم الشعارات والآمال المتطرفة التي ظهرت في صين ماوتسي دونغ، خاصة أثناء السنوات العشر للثورة الثقافية، التي حاربت كل ما هو قديم في الصين، بما في ذلك الكونفوشية.
ويستحيل فهم العقلية الصينية، أو السياسة الخارجية الصينية، دون الخوض في هذه الخلفيات التراثية والفلسفية، لاسيما، وان الصين – مثلها مثل دول شرق آسيا كلها- تتمسك بهويتها وبخصوصيتها الوطنية والثقافية والحضارية. ويمكن إجمال هذه الخصوصية بالعوامل التالية:
أولا: تقول الحكمة الصينية، إن البحر يغير طعم ألف نهر، فجميع التيارات الفكرية والسياسية والدينية التي دخلت الصين على امتداد التاريخ، ذابت في البحر الصيني أو تصينت، وأصبحت ذات طابع صيني. فالبوذية التي جاءت إلى الصين من الهند، باتت تختلف عن مثيلتها في الهند، والمسيحية التي تمسكت بطقوسها الأوربية، وقفت عند “سور الصين” ولم تتحول إلى ديانة شعبية في الصين. وطرأ كثير من التغيير على الطقوس الإسلامية بعد دخول الإسلام إلى الصين.
ويروي المؤرخون الصينيون، انه في القرن الحادي عشر قام بعض اليهود بالهجرة إلى مدينة كايفين الصينية وأسسوا كنيسا هناك. ورغم الجهود التي بذلها الحاخاميون، إلا أن اليهودية قد مرت في هذه المدينة دون أن تترك أي اثر. واختفى مع الزمن كل شيء يهودي في هذه المدينة.
والماركسية التي أصبحت فيما بعد العقيدة الرسمية للحزب الشيوعي الصيني، أخذت طابعا صينيا، حيث اعتمدت في البداية على ثورات الفلاحين، وليس العمال، وانطلقت إلى الريف، لا إلى المدن والمعامل، من اجل الترويج لمبادئها، وتفاعلت مع الدعوات القومية الصينية. حتى أن ماوتسي تونغ لم يتخل عن طابعه الكونفوشسي.
ويتندر بعض المؤلفين بالقول، إن أي شيء يدخل إلى الصين، لابد وان تجري في عروقه دماء صينية، وان هذه الدماء – تتفوق مع الزمن- على ما سواها. ويردد القادة الصينيون الحاليون في كل المناسبات والمحافل، أنهم يبنون اشتراكية ذات خصائص صينية، وأنهم يمارسون سياسة ذات طابع صيني.
ثانيا: لقد كانت الصين ومازالت من أكثر دول العالم سكانا. ففي عام 1500 ميلادي، كان عدد سكان الصين مئة مليون، وفي عام 1700 م ارتفع إلى 150 مليونا، وأصبح في بداية القرن العشرين 428 مليونا. ماذا يعني ذلك ؟. هذا يعني، أن هذا الوجود البشري الكبير والمستقل والمستقر زمنيا، قد عزز في إدراك الصينيين مفهوم أنهم هم وسط العالم ومركزه. والباقون هم أطراف وغرباء. وقد تعمقت هذه القناعة من خلال الإنجازات العلمية التي أبدعتها الحضارة العلمية الصينية، مثل اختراع البارود والبوصلة والورق والمطابع.. الخ. في وقت كانت فيه أوربا تغط في سبات عميق من الجهل والتخلف