https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

يؤمن بعض مثقفي باكستان الحالية بأن انفصال بلادهم عن الهند سنة 1947 كانمؤامرة استعمارية ضد مسلميها؛ حتى لا يكون لهم نصيب في إدارة دولة يمكن أنتكون قوة عالمية كبرى يوما ما. وبالمثل يرى بعض البنغاليين أن انفصال بنغلاديش عن باكستان سنة 1971 كانمؤامرة صنعتها الهند وشاركت فيها أطراف من جانبي الدولة الموحدة قبلانشطارها، وأن هذه المؤامرة أضعفت الدولتين الجديدتين في مقابل الهند التيكانت بتوحدهما واقعة بين فكي أسد. والجماعة الإسلامية التي أسسها المفكر الشهير أبو الأعلى المودودي قبلانقسام الهند بقليل (سنة 1941) هي من مكونات المجتمع الأهلي في باكستانوبنغلاديش التي وقفت في حرب عام 1971 في وجه الانفصاليين، وسعت إلىالحيلولة دون انشطار الدولة، وهو موقف محمود جدا لو بقيت الدولة موحدة! وقد تعرض كبار قادة الجماعة الإسلامية في السنوات الأخيرة -على خلفية أحداثحرب “الاستقلال”- لسلسلة أحكام قاسية أدت إلى إعدام كبار قادتها الذينكانوا شبابا وقت الحرب؛ منهم: مطيع الرحمن نظامي أمير الجماعة، وعبد القادرملا زعيم حزبها السياسي، ومحمد قمر الزمان مساعد الأمين العام للجماعةالذي كان في العام التاسع عشر من عمره عند اندلاع حرب الانفصال، وغيرهم،إضافة إلى آخرين ينتظرهم الحكم ذاته. ولا يبدو هذا الحدث منفصلا عن نشأة الدولة المستقلة في بنغلاديش وما شهدتهمن تطورات سياسية خلال مسيرتها القصيرة، كما لا ينفصل عن الطبيعة شبهالإقطاعية لأنظمة الحكم في المنطقة وعلاقة الجيوش بها، وما يقع من تنافسحاد بين أطراف معينة تشارك في العملية السياسية وتتبادل فيما بينها حكمالدولة. البعد التاريخينتج انشطار باكستان عام 1971 إلى دولتين عن حرب مؤلمة صنعت واقعا مغايرالما سبقها في بلدان شبه القارة الهندية، وكان من الطبيعي في هذه الحرب أنيدافع كل طرف عن خياره -الوحدة والانقسام- فسعت باكستان الحالية وأنصارهامن البنغال إلى الحفاظ على وحدة شطري الدولة اللذين لا تربطهما حدود، فيحين سعى الزعيم البنغالي شيخ مجيب الرحمن – الفائز هو وحزبه (رابطة عوامي)في انتخابات العام 1970- بمساعدة هندية ضخمة إلى انفصال البنغاليين في دولةوحدهم. وقد ذهب بعض المفكرين الباكستانيين إلى أن انفصال المسلمين عن الهند فيدولة خاصة بهم -بعيدا عن كونه صوابا أو خطأ- جاء في صورة رديئة وهشة؛ لأنشطري الدولة (باكستان الغربية، وباكستان الشرقية أو بنغلاديش) لا تربطهماحدود، وفي الوقت نفسه يتشكل سكانهما من أعراق مختلفة تحتمل العلاقة بينهاأن تسوء وتتحسن، وعلى أوتار هذا التوتر يمكن أن تلعب كثير من القوىالداخلية والدول المتربصة مستغلة طبيعة الجغرافيا السياسية والسكانيةللدولة. وأحسب أن أسبابا عرقية في المقام الأول هي التي دفعت القائد السياسيالبنغالي مجيب الرحمن -المؤيد أصلا لمحمد علي جناح في تأسيس باكستان- إلىالسعي باكرا وبإلحاح إلى حكم ذاتي في باكستان الشرقية أشبه ما يكونبالانفصال، وفي المقابل لم تستوعب باكستان الغربية بزعامة ذو الفقار عليبوتو والجنرال يحيى خان حينئذ هذه الحركة، حتى فرضت الحرب المؤلمة نفسها،وانشطرت الدولة سياسيا بعد أن كانت منشطرة جغرافيا واجتماعيا. ومع أن حزب رابطة عوامي بزعامة مجيب الرحمن حقق هدفه الانفصالي، إلا أنالكيان السياسي الذي ولد عقب ذلك -وأُطلق عليه اسم “بنغلاديش”- جاء مشوهاسياسيا، وعاش في جو اقتصادي وبيئي خانق، حيث لم تعرف البلاد الديمقراطيةَإلا استثناء، فبدأ الاستبداد والديكتاتورية من أول يوم على يد مؤسس الدولةمجيب الرحمن نفسه الذي جمع السلطة في يده جمعا مطلقا، وأعلن الطوارئ، وطاردمعارضيه، حتى أطاح به الجيش في انقلاب عسكري عام 1975 شهد مصرع الرئيسوأفراد أسرته عن بكرة أبيهم، إلا ابنتين له -إحداهما ابنته الكبرى شيخةحَسينة واجد رئيسة الوزراء الحالية- إذ كانتا خارج البلاد حينئذ. ندوب مبكرةترك سيناريو حياة مجيب الرحمن، وتجربته في الحكم، والنهاية التي انتهىإليها أربعة ندوب خطيرة في جسم الدولة البنغالية ونخبتها السياسية كما يلي: أولها: أن بنغلاديش قامت بعد صراع دموي مع شركاء مشروع الدولة الإسلاميةالمستقلة عن الهند، وبتعاون عميق وواسع مع نيودلهي العدو التقليدي للطرفين. وهو أمر ناتج في الحقيقة عن السعي العلماني الحثيث في كلا الجانبين منذالاستقلال عن الهند إلى تنحية الإسلام ومنعه من جمع هذه الشراذم بحيثتكوِّن كيانا قويا. وثاني الندوب التي تركتها تجربة والد رئيسة الوزراء البنغالية الحالية فيحكم بنغلاديش: أن الدولة احتوت بعد الانفصال على بنغاليين سعوا إلىالانفصال، وآخرين عملوا ضده، وهو تناقض لا يمكن علاجه إلا بالنظر إلى مصلحةالدولة وحماية لحمتها الاجتماعية. وثالثها: أن مؤسس الدولة افتتح تاريخها بفصل من الديكتاتورية المقيتة التييمكن أن تكون أكبر مسوغ لانطباع الدولة بهذا الطابع الاستبدادي في أغلبسنوات عمرها، وكثرة ما عانته من انقلابات عسكرية أطاح أولها بالمؤسس. ورابع هذه الندوب: وفاة مجيب الرحمن نفسه وأسرته بطريقة اغتيال مأساويةمهدت لها الأجواء التي صنعها بنفسه، وهو ما سهل عمليات الاغتيال والقتلخارج القانون وبمسوغات قانونية هشة، بدون تفريق بين حاكم ومعارض. وقد تحددت وفقا لهذه المعطيات كثير من معالم حكم شيخة حسينة منذ دخلت معتركالسياسة خلفا لوالدها في قيادة حزب رابطة عوامي، مع ما للظروف الموضوعيةمن تأثيرها الذي سنشير إليه قريبا. ثأر أم ديكتاتورية؟التاريخ ليس مجرد مجموعة من الأحداث تصنعها نظم قانونية واجتماعية تحددمسارات جبرية للإنسان، بل إن الجانب النفسي الإرادي لصناع الحدث التاريخيحاضرة في صفحات التاريخ وبين سطوره بوضوح، فالعقد والأزمات النفسية وجنونالعظمة والفصام الشخصي، وكذلك جوانب الامتياز والتفوق الشخصي والمهاراتالعقلية والقيادية؛ كلها عوامل تؤثر بقوة في صناعة الأحداث وتوجيهها. لم تكن حسينة واجد حين اغتيلت أسرتها وهي خارج الوطن فتاة صغيرة (مولودةعام 1947)، بل كانت شابة قاربت الثلاثين، إلا أن مأساة الاغتيال البشع لاشك سرقت منها كثيرا من السعادة والفخر بأسرتها الحاكمة وبأبيها المؤسسللدولة، وتركت الحادثة على صفحات شخصيتها القريبة والبعيدة آثارها السلبية. فإذا أضفنا إلى هذا أن نزعات الاستبداد والديكتاتورية التي طبعت شخصيةوالدها بقي كثير من آثارها في شخصيتها ظاهرا، فيمكننا أن نفهم جانبا منحرصها على الانتقام من خصوم والدها، فالجرح النفسي حين تكون معه قدرة علىالانتقام وميل إلى التسلط لا يترك فرصة تمر بدون شفاء الغليل. إذن يأتي انتقام حسينة واجد رئيسة الوزراء البنغالية “المنتخبة” من خصومهاالسياسيين -في صورة محاكمات لم تتوفر فيها ضمانات العدالة كما علقت جمعياتحقوق إنسان دولية- من باب الانتقام الشخصي من خصوم والدها، لكن الأخطر هوأنها تنفيس عن النزعة الديكتاتورية لدى المرأة انتقاما من منافسيها، فهيتسعى إلى ما سعى إليه والدها من إضعاف المعارضة وضربها في كوادرهاوزعاماتها النشطة بقسوة، ولهذا تجاوز انتقامها حدود المعارضة الإسلامية إلىبعض الشخصيات البارزة في حزب غريمتها خالدة ضياء. ومع هذا، فإن التحليل السابق غير كاف لتفسير وفهم التوقيت الذي اختارتهزعيمة “رابطة عوامي” للبطش بخصومها وسوقهم واحدا وراء الآخر إلى أعوادالمشانق. كذلك لا يكفي أن نفسر تركيزها في المقام الأول على زعامات التيار الإسلاميالسلمي -المتمثل في الجماعة الإسلامية البنغالية- بقوة هؤلاء الخصوم سياسياوتأثيرهم الواسع في الشارع البنغالي، فهذا قد يفسر جانبا من سبب السعي إلىالخلاص منهم، ولكنه لا يبين لنا لماذا لم تفعل ذلك في وقت سابق من حكمهاللبلاد الذي قارب مع أول حالة إعدام نفذتها في صفوف المعارضة عشر سنين؟لقد تولت حسينة واجد رئاسة وزراء بنغلاديش عقب ثلاث نوبات انتخابية قاطعتالمعارضة آخرها؛ النوبة الأولى: من 1996 – 2001، والثانية والثالثة: من 2008 إلى الآن، لكنها لم تشرع في إعداماتها السياسية إلا عام 2013. ولا يناقض هذا اهتمام القضاء البنغالي في ظل حكومتها قبل هذا التاريخ بقضيةاغتيال والدها الرئيس مجيب الرحمن وأسرته، حتى حكمت المحكمة على الجناةحكما نهائيا بالإعدام في أوائل عام 2010؛ فهذه القضية هي عمل جنائي لا غبارعليه، ولم يكن ثمة اعتراض على إجراءات المحاكمة، ولم يبد فيها أي نوع منالتسييس، وإن كان لوجود حسينة في سدة الحكم تأثيره في الاهتمام بالقضيةوإصدار حكم نهائي فيها بعد مرور أكثر من ثلث قرن على حادث الاغتيال. فإذا جئنا إلى الإسلاميين أصحاب البرامج الإصلاحية السلمية، والذين يشاركونفي المنافسات الانتخابية متى فُتح بابها، ويشاركون شعوبهم في ثوراتهاالسلمية ضد الاستبداد؛ فهؤلاء تتجه رياح السياسة الدولية في السنواتالأخيرة ضدهم بقوة، وهي مستعدة إلى التواطؤ مع أشد الأعمال عنفا حينترتكبها الأنظمة الديكتاتورية وهي تكافح هؤلاء الإسلاميين ذوي الأنيابالمخملية! لقد اجتاحت العالم العربي مع بدايات هذا العقد من الزمن سلسلة من الثوراتتردد صداها في العالم كله، وما زال تأثيرها قائما إلى الآن؛ يصنع سياساتدول، ويحدد اتجاهات أنظمة، ويشكل تحالفات تجمع النقيض ونقيضه؛ منعا لهذهالثورات من أن تعود بعد أن أُجهض جانب كبير من قوتها. وفي جولات إعادةالدولة من جديد إلى يد الأنظمة المستبدة الموالية للخارج في دول الثورات،أباح العالم لنفسه بدوله الكبرى وأكثر منظماته الدولية أن يقوم بوظيفةالشيطان الأخرس، فلا يتكلم إن تكلم إلا على استحياء ومن خلال منظمات أكبرتأثيرها إعلامي هامس. ومن هنا يمكن أن نفهم التنديد الدولي الخافت والخجول بإعدام شيخة حسينةلخصومها السياسيين في المرحلة الحالية واحدا تلو الآخر على أنه لا يختلف عنموقف الغرب والعالم الصامت من مذابح الأنظمة للمعارضين في سوريا ومصروليبيا وغيرها من الدول التي سعت شعوبها إلى إنهاء حقبة الديكتاتورية فيبلادها. ولم يكن أمام رئيسة الوزراء البنغالية من فرصة تستغلها لضرب خصومها مثلأحداث حرب الاستقلال، وإن مر عليها أكثر من أربعة عقود من الزمن، مستغلة فيذلك تعاون الهند التي تدخلت في النزاع من أوله بحجة حماية الأقليةالهندوسية في بنغلاديش. وهو ما ينكشف تناقضه مع موقف مجيب الرحمن نفسه الذيعصف بمنافسيه، لكنه لم يربط ذلك بأي حدث جرى خلال الحرب، وقبل شهور كتبأنصار عباسي في صحيفة “ذي نيوز” الباكستانية مقالا علق فيه على أحكامالإعدام بعنوان: “حسينة تنتهك التزام والدها أن ننسى ونغفر أخطاء الماضي”. إن بعث الجراح القديمة ومآسي حرب الاستقلال في بنغلاديش ليس إلا ذريعةللخلاص من الخصوم السياسيين الخطرين في أجواء دولية تسمح بهذا، وتحتاج فيهاابنة مجيب الرحمن إلى حلفاء أبيها القدامى في نيودلهي؛ حتى تستمر فيمصادرتها للديمقراطية التي أتت بها في انتخابات حرة -لم تتكرر بعدها- أُجريت عام 2008 في ظل فشل غريمتها خالدة ضياء في إدارة البلاد وتحقيقالاستقرار حينئذ. وقد أعدت رئيسة الوزراء البنغالية عدتها لمواجهة أي مقاومة جادة لحكمهابالتحالف الداخلي مع جنرالات الجيش والخارجي مع الهند، تماما مثلما فعلتالأنظمة العربية في مواجهة سلسلة الانتفاضات الثورية الواسعة التي خرجتضدها. والحقيقة أن الرهان على خيارات القوة في تكميم أفواه الشعوب قد أثبتالتاريخ عدم جدواه؛ لأن اليد الموضوعة على الزناد توشك أن ترتخي يوما، كماأن وضع التربص بين الشعوب وحكامها لا تطيب معه عيشة لحاكم ولا محكوم. أين باكستان؟ووسط هذا الجو الخانق للحقوق والحريات في بنغلاديش يبدو موقف باكستانالرسمي -التي يهمها الأمر من قريب وبعيد- غامضا، فلم نر منها إلا بعضالحراك الشعبي والاحتجاجات الطلابية والجماهيرية من الجماعة الإسلاميةالباكستانية. ولعل الأمر يرجع إلى ميل باكستان إلى عدم التدخل في الشأن البنغالي برمتهمنذ الانفصال وعقد الاتفاقية الثلاثية بين باكستان وبنغلاديش والهند بإغلاقالملفات الخاصة بالحرب سنة 1974، وقد بدا الميل إلى التهدئة في زيارةفريدة قام بها الجنرال برويز مشرف لدكا عام 2002 وخاطب فيها المسئولينوالشعب البنغالي بقوله: “الإخوة والأخوات في باكستان يشاركونكم الألمللأحداث التي جرت عام 1971، ويعربون عن أسفهم لتجاوزات ارتكبت خلال الفترةالمشؤومة. دعونا ندفن الماضي بروح الشهامة، ولا نجعل ضوء المستقبل خافتا”. ومن جهة أخرى أثار بعض المحللين إشكالية فتح بنغلاديش ملفات الحرب أمامالمحاكم الدولية، وهو أمر ليس راجحا، وأقرب منه أن باكستان -التي تطبق صورةما للديمقراطية- تتبع سياسة خاصة في التعامل مع ملفات الإسلاميينالمنافسين قائمة على استيعابهم وابتلاعهم سلميا، ولعلها بالمثل تركتلبنغلاديش اختيار طريقتها في مواجهة هذا الخصم اللدود. وثمة أصوات باكستانية تنادي الدولة بالتحرك واستباق الأحداث قبل الإيغال فيمسلسل الإعدامات في بنغلاديش، فعقب الحكم بإعدام أمير الجماعة الإسلاميةمطيع الرحمن نظامي رحمه الله نادى الكاتب أنصار عباسي في مقال له تحت عنوان “هل فعلت باكستان ما يكفي إزاء اضطهاد حسينة للموالين لها عام 1971؟” المسئولين في بلاده بتفعيل اتفاقية عام 1974 التي وقعها مجيب الرحمن معباكستان بمشاركة هندية، قائلا: “رئيس وزراء بنغلاديش أعلن فيما يتعلقبالفظائع والدمار الذي ارتكب في بنغلاديش عام 1971 أنه يريد من الناس أنتنسى الماضي، وتبدأ بداية جديدة، مشيرا إلى أن شعب بنغلاديش يعرف كيفيسامح”

الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة + ثمانية =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube