المؤلفة :ربيكا كنو لطالما كانت الكتب هدفًا سهلًا للتدمير، سواء لأسباب طبيعية ككوارث ألمت بمكتبات، أو بيد الإنسان الذي حرق الكتب وقصف المكتبات عمدًا. ويطرح كتاب «إبادة الكتب» لمؤلفته «ربيكا كنوث»، الصادر في عام 2000، أسئلة تتعلق بالتدمير المتعمد للمكتبات والكتب من قبيل: لِم تتمتع الكتب بالأهمية؟ ولماذا تعمد بعض الأنظمة السياسية إلى تدميرها؟ ولِم يعد تدميرها خطرًا يهدد الثقافة العالمية والتعددية الثقافية؟ تتحدث المؤلفة عن نظرة الحزن والخوف في عيون الشهود على حرق المكتبات، تلك النظرة التي تحمل إحساسًا بأن تدمير الكتب لا يعني فقط انهيار السِّلم الاجتماعي، ولكن ضياع مستقبل إنساني وسطي وتعددي. ويُظهِر هذا الإحساس إدراكًا بأن خسارة الكتب تعني انتهاك مُثُل الجمال والحقيقة والحضارة بحد ذاتها. ويؤكد التاريخ وجود علاقة واضحة بين تدهور المكتبات واضمحلال الحضارات. فحرق الكتب والمكتبات وتدمير الوثائق والمخطوطات والسجلات يعني «انقطاعًا في سرد القصة سواء الفردية أو الجمعية، انقطاعًا في الزمن والعلاقات الإنسانية؛ وبالتالي إعاقة التشكُّل المستمر للكلِّ الذي يحمل معنى». وغالبًا ما يُوصَف المعتدون بأنهم «برابرة وأعداء الحياة والحضارة». «عندما يُقدِمون على حرق الكتب، فسيؤول الأمر بهم أيضًا إلى حرق البشر أنفسهم»– الشاعر «هاينريش هاينه» (1797 – 1856) الكتاب، بوصفه وسيطًا، يحفظ المعرفة المنتجَة بطريقة منظمة تسهل استرجاعها. والمكتبة، بدورها، تنظِّم المعرفة المتراكمة بطريقة مؤسسية. وتؤدي المكتبات عددًا من الوظائف، منها: حفظ المعلومات التي تشكل أساس عمل الحكومة والاقتصاد واستمرار الهوية القومية والاثنية، ودعم الأنظمة والعقائد والنماذج الإدراكية والأيديولوجيات الاجتماعية والسياسية والدينية، ونشر المعلومات وتدعيم التعليم والنمو الفكري والتقدم الاجتماعي، ودعم الثقافة الرفيعة. أيديولوجيات القرن العشرين مع صعود القومية في العصر الحديث انقسم العالم وبعض البلدان إلى معسكرين: أنصارِ أيديولوجيات معينة وأعدائها. سعى كل معسكر إلى نفي الآخر وإقصائه من خلال محو هويته. ومع أن الهوية غير ملموسة إلا أنها يمكن أن تتجسد في الثقافة المادية ومظاهرها. لذلك كان من وسائل الحرب في العصر الحديث شن هجمات على أهداف غير عسكرية، ومنها المكتبات والمتاحف ودور العبادة وغيرها. وُصِف القرن العشرون بأنه القرن الأكثر دموية، إذ لم تكتفِ بعض الأنظمة السياسية باستهداف البشر وحسب، وإنما امتدَّ عدوانها إلى الأوعية الثقافية. وقد استُحدثت مصطلحات جديدة لوصف هذه الجرائم: إبادة جماعية وإبادة اثنية. والحالات الخمس التي يدرسها الكتاب: ألمانيا، صربيا، العراق، الصين، التبت، تقدم دليلًا على وجود علاقة بين تدمير الكتب في القرن العشرين وجرائم الإبادة الجماعية والاثنية. إبادة الكتب والإبادة الجماعية والاثنية يشير مصطلح «إبادة الكتب الى إبادة جماعية وإبادة اثنية، أيْ الإبادة. ومصطلح «إبادة الكتب» يميز استهداف الكتب والمكتبات، تحديدًا، عن الأشكال الأخرى لمحو ثقافة جماعة ما. وفي حين تعني الإبادة الجماعية حرمان جماعة بشرية كاملة من حقها في الوجود، فإن الإبادة الاثنية تعني تدمير ثقافة ما، دون إبادة أهلها أنفسهم. وغالبًا ما تحدث الإبادة الجماعية والاثنية بالتتابع، إذ تبدأ الإبادة الجماعية بإبادة اثنية أولًا، أو أنهما تحدثان بالتزامن. ومع أن موضوع الإبادة الاثنية لم يحظَ بالاهتمام نفسه الذي حظيت به الإبادة الجماعية، إلا أن النظريات المطبقة على الأخيرة يمكن أن تطبق أيضًا على تدمير ثقافة جماعة ما. ترى الكاتبة أن إبادة الكتب ليست مجرد جريمة عفوية يرتكبها «برابرة وظلاميون»، بل وسيلة من وسائل حل المشكلات تتسم بأنها عمدية ومنهجية، توظِّف العنف لحرمان جماعة ما من حقوقها، لخدمة أيديولوجية متطرفة. تؤدي المكتبات عددًا من الوظائف، منها الحفاظ على الهوية القومية والاثنية. (مصدر الصورة: YONHAP). ثمة ثلاثة أنماط للظروف المحيطة بتدمير المكتبات، هي: 1) تدميرها في إطار اجتياح المدن والقصور والمعابد أو أثناء المعارك ذاتها أو كثمن لخسارة الحرب، 2) نهب الكتب والوثائق بوصفها ممتلكات قيِّمة يستفيد منها الغازي والمنتصر ويُحرَم منها المهزومون، 3) الرقابة والمصادرة والتطهير الثقافي في ظل أنظمة أيديولوجية سياسية متطرفة أو دينية. وترى كنوث أن التدمير واسع النطاق للكتب في القرن العشرين نشأ من خليط من بيئة اجتماعية مضطربة أو زعامة سلطوية واستبدادية وأيديولوجيات وسياسات راديكالية. وتدمير الكتب ليس هجومًا على الذات الفردية وحسب، وإنما أيضًا على الثقافة كأساس لهوية جماعة ما. لذلك فالعنف الموجه ضد ثقافة محددة، هو عنف ظاهري غالبًا ما يغطي عنفًا سياسيًّا. غياب الاستقرار والتغير الاجتماعي والكساد، كلها عوامل تفضي إلى صعود نجم زعماء يَعِدون الجماهير بقدرتهم على تخفيف المشكلات الحالية، وتحويل وجه المجتمع وخلق عالم جديد أفضل، والوعد بتحقيق يوتوبيا أرضية. ويحفل البرنامج الشامل للزعيم بوسائل شتى لمغازلة الميول الاجتماعية والثقافية المحلية للجماهير، فيقدم لهم مبادئ مبسطة تخاطبهم. ومع تدعيم النظام لقوته وسلطانه، تصبح الأيديولوجيا أساسًا منطقيًّا للاستبداد، وتُستبعد الأفكار المختلفة والمعارضون بوصفهم منشقين، ويُفرَض الامتثال للتوجه الجديد فرضًا، وبالعنف إن لزم الأمر. ولأن الكتب والمكتبات تصون الذاكرة وهي بمثابة شهادات وأدلة على تعدد الرؤى وهي الميسِّرة للحرية الفكرية، فإنها تصبح بسهولة وسيلة للتحكم وتحديد المسارات القويمة بحسب رؤية المتوثِّبين للسلطة. وعندما ترتبط نصوص معينة بعدوٍّ ما أو حتى مجموعة وطنية تقف في وجه التحول الأيديولوجي الذي يبشِّر به الزعيم وحزبه، فإنها تُستهدف بالرقابة والإبادة، بالإضافة إلى استهداف الجماعة المارقة ذاتها تعجيلًا بتقدم المجتمع نحو يوتوبيا مزعومة. الأيديولوجيات والنزعة الإنسية يرسم هذا الكتاب الفروق الجوهرية بين مناصري الأيديولوجيات المتطرفة وذوي النزعة الإنسية. ففي حين يعمد الفريق الأول إلى نبذ المعرفة الموروثة حتى يتمكن من النظر إلى المستقبل اليوتوبي المنتظر، يسعى ذوو النزعة الإنسية إلى البحث عن الإلهام والتجديد باستيعاب الموروث. ويعتقد ذوو النزعة الإنسية أن المواد المكتوبة أساسٌ لاستمرار الثقافة والتقدم، بينما يسعى الفريق الأول إلى تسييس الثقافة القائمة أو الانقلاب عليها. ويرى مناصرو الأيديولوجيات المكتباتِ بوصفها تشكِّل معضلة: فهي أداة لتلقين الأيديولوجيا، لكنها في الوقت ذاته تتمتع بصبغة إنسانية وتحتمل وجود رؤى متناقضة، وأفكار متعارضة تعزز الفكر الحر. وهم يخشون الكتب فلا يسمحون بوصول المعرفة للناس ولا بوصول الناس إليها. ولأن الأيديولوجيات تزدهر في ظل الانغلاق الفكري، تقع الكتب والمكتبات ضحية الشك بوصفها كيانات تدعم المنظومات التقليدية الموروثة والانفتاح الفكري وبث بذور الانشقاق لدى الأفراد. في الدول الديمقراطية تحتفي المكتبات العامة بمجموعة قيم، منها توفير المعلومات، أمَّا في المجتمعات الاستبدادية، فليست المكتبات سوى أدوات لغرس الأيديولوجيا التي تقررها الدولة. القانون الدولي وحماية المكتبات في عام 1992، وفي إطار مساعي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) لصون التراث الثقافي العالمي، أطلقت برنامج «سجل ذاكرة العالم» بهدف تعزيز اهتمام العالم بأهمية جميع الثقافات وضرورة صونها. وهذا البرنامج معنيٌّ بالحفاظ على أية مخطوطات ووثائق نادرة وقيِّمة في المكتبات والأرشيفات، وحمايتها من التلف والضياع الذي قد ينجم عن الحروب والفوضى والنهب والتجارة غير المشروعة. كما أُقرت «اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح» التي ذهبت إلى أن الأخطار التي تتعرض لها تلك الممتلكات تشهد ازديادًا مطَّردًا بسبب تقدم تقنيات الحرب، وأن الأضرار التي تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أي شعب تمسُّ التراث الثقافي للإنسانية جمعاء. لذا حددت الاتفاقية تعريفًا لتلك الممتلكات بأنها «الممتلكات المنقولة أو الثابتة ذات الأهمية الكبرى لتراث الشعوب الثقافي»، وتشمل المباني المعمارية والفنية والتاريخية، الدينية أو الدنيوية، والأماكن الأثرية، والتحف الفنية، والمخطوطات والكتب والمحفوظات، والمتاحف، ودور الكتب الكبرى، ومخازن المحفوظات، والمخابئ المعدة لوقاية الممتلكات الثقافية. وتعهدت الدول الأطراف في الاتفاقية باحترام الممتلكات الثقافية الكائنة سواء في أراضيها أو أراضي الأطراف المتعاقدة الأخرى، وبامتناعها عن استعمال هذه الممتلكات لأغراض قد تعرضها للتدمير أو التلف في حالة النزاع المسلح، وبامتناعها عن أي عمل عدائي إزاءها، وتحريم أي سرقة أو نهب أو تبديد للممتلكات الثقافية ووقايتها من هذه الأعمال والامتناع عن اتخاذ أية تدابير انتقامية تمس الممتلكات الثقافية. \