لم يحدث أن نزل متظاهرون إلى الشوارع للاحتجاج على عدم توقيع حكومتهماتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، ما يعني أن احتجاجات الأوكرانيينالموالين لأوروبا ضد سلطات بلادهم منذ أكثر من ثلاثة أسابيع لا سابق لها،فكيف الحال إذا ألهم هذا السبب ثورة؟واضح أن ديناميات الثورة الجديدة المنشودة لاستعادة أمجاد الثورةالبرتقالية غير المكتملة لـ «الأوكرانيين الأوروبيين» عام 2004، تتخطى حجةقلب حكومة فيكتور يانوكوفيتش طاولة مفاوضات استغرقت ثلاثة أعوام مع الاتحادالأوروبي لإبرام اتفاق الشراكة. وأكبر دليل على ذلك توسيع الناشطينالمعارضين سريعاً لائحة مطالبهم إلى إستبدال هيكلية السلطة كلها من رئيسووزراء وبرلمانيين، وإعلانهم تمسّكهم بهذا الهدف حتى لو تلقوا وعوداً قاطعةبأن الإتفاق الأوروبي سيُوقع في موعد لاحق. بعد الصدام بين الشرطة والمتظاهرين في ساحة الاستقلال بكييف في ساعات الفجرالأولى من الاربعاء الماضي، وصفت مراسلة صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية و «كييف بوست» كاتيا غورشينسكايا أهداف الحركة بالقول: «إنها حربلتحقيق حضارة جديدة في أوكرانيا ترتكز على قيم مثل التضامن والكرامةواحترام الفرد، وتأمين حقوق متساوية للجميع. لا يتعلّق ذلك بأوروباوالتكامل معها، بل بمن نحن، وأين نريد أن نذهب». وزادت: «أمتنا تريد أن تولد مجدداً، لكن العملية شاقة بعد سنوات من سوءالحكم والفقر الناتج من النهب، لذا لا نعرف كيف ستتجه الأمور». ويؤيد معتصمون كثر في «ميدان أوروبا»، الاسم الذي أطلقوه على ساحةالاستقلال بكييف، الشعارات الكبرى للتحرّك وصولاً إلى التغيير، لكن أكثر مايريدونه هو جعل أوكرانيا «بلداً طبيعياً يتلاقى مع القيم الأوروبية، مايعني خلوه من الفساد أو على الأقل تقلّص انتشاره»، علماً أن منظمة الشفافيةالدولية تصنّف أوكرانيا باعتبارها أحدى الدول الأكثر فساداً، و «كذلكتعزيز مسؤولية السياسيين تجاه ناخبيهم، وفرض احترام حقوق الإنسان، ومنعتعديات الشرطة على المتظاهرين». لكن «البلد الطبيعي» يتناقض مع الواقع «غير الطبيعي» الذي تعيشه جمهورياتسوفياتية سابقة تخضع لتأثير روسيا اليوم، لذا يرى المتظاهرون الأوكرانيونخياراً بين نظامي موسكو وبروكسيل (نسبة إلى مقر الاتحاد الأوروبي)، معتأكيدهم أن نظام موسكو «لم يجلب أي تقدّم في هذا الجزء من العالم، بينمايضمن نظام بروكسيل العمل المؤسساتي اللائق، وخدمات النقل الجيد، والأهممعايير اقتصادية واجتماعية تجعلك تقول أريد هذا الشيء فقط لدى شراء سلعة». وبالنسبة إلى هؤلاء، يجسّد شخص واحد هو الرئيس يانوكوفيتش كل شيء غيرديموقراطي وفاسد وغير أوروبي، فيما يملك قاعدة تأييد واسعة في شرق البلادالصناعي، سمحت له بتأمين عودة سياسية قوية في الانتخابات الرئاسية عام 2010، بعد 6 سنوات من هزيمته أمام فيكتور يوتشينكو في انتخابات سبقت الثورةالبرتقالية. وإلى جانب ازدياد الاستياء الشعبي من حكومته في الأعوام الأخيرة، تحدّثتتقارير عن تورّط أفراد في عائلته، خصوصاً نجله الأكبر أوليغكسندر، فيعمليات فساد إداري ضخمة. وحوّل ذلك أوليغكسندر من طبيب أسنان ورجل أعمالصغير الى أحد أكبر أثرياء أوكرانيا. من هنا وضع المتظاهرون لافتة «يانوكوفيتش أنت التالي» في موقع نصب الزعيمالسوفياتي السابق فلاديمير لينين وسط كييف، الذي أسقطوه خلال احتجاجاتالأسبوع الماضي. ووسط الغضب من حال البلاد وحكامها، تخفي التظاهرات مؤشرات لتأييد أوروبااستناداً إلى قيم الإنتماء إلى «العرق الأبيض والديانة المسيحية». وهذا مايعبّر عنه انضمام حزب «سفودوبا» (الحرية) القومي المتطرّف إلى تحالفالمعارضة المؤلف من حزب «أودار» بزعامة الملاكم فيتالي كليتشكو (بطلالعالم) وا»باتكيفشينا» (الوطن) بزعامة أرسيني ياتسنيوك ورئيسة الوزراءالسابقة المسجونة يوليا تيموتشينكو. واختار «سفودوبا» تأييد الاتحاد الأوروبي من هذا المنطلق إضافة إلى كرهالروس، وليـــس دعماً للمبادئ الديموقراطية للاتحاد الذي ينتقد رفض الحزبالأوكراني قبول الآخر والتعددية الثقافية، وكذلك معاداة قادته للسامية،بعدما وصف أحد نوابه في البرلمان المجزرة اليهودية «هولوكوست» بأنها «مرحلةمضيئة لأوروبا». وينظر المتظاهرون الموالون لأوروبا بالدرجة الأولى إلى أنصار «سفودوبا»،الأكثر حضوراً ونشاطاً في «ميدان أوروبا» بعدما كثرت أعلامهم وحطموا بنفسهمنصب لينين، باعتبارهم الأكثر كرهاً للرئيـــس يانوكوفيتــش بالدرجةالأولى، لكن وجود هذا الحزب في الحركة المعارضة، يزيد الخطر من أن يؤدياللبس والتشويش حول التوازنات إلى نهاية مخيّبة في حال نجاح الحركة، مايكرر مشهد الثورة البرتقالية التي انقسم أبطالها بعد وصولهم إلى السلطة.
الحياة