الانتخابات التي جرت في إندونيسيا في التاسع من الشهر الحالي -وهي الثالثةمنذ سقوط حكم سوهارتو سنة 1998- وفرت فرصة للإندونيسيين للاختيار بين “برابوو سوبيانتو” أحد الوجوه العسكرية للعهد القديم، و”جوكووي” الوجهالسياسي الصاعد. وقد حاولت إندونيسيا خلال الـ15 سنة الماضية بناء نظام ديمقراطي فعالوالتخلص من أعباء تركة سوهارتو، غير أن الكثير من كبار ضباط الجيشالمتقاعدين ما زالوا يتمتعون بثقل ويقومون بأدوار طلائعية في الحياةالسياسية لإندونيسيا. بين القديم والجديدبرابوو سوبيانتو، جنرال متقاعد، وابن وزير التجارة في عهد سوهارتو، وزوجابنة الأخير، عاد إلى الواجهة السياسية بقوة بعد أن تم إعفاؤه من مهامه فيالجيش سنة 1998، بعد أن وجهت له اتهامات بالتورط في عملية اختطاف وتعذيبطلبة ناشطين في مجال الديمقراطية، وبعد سنوات من المنفى في الأردن عادالجنرال السابق إلى إندونيسيا ليتأقلم بسرعة مع الوضع السياسي الجديد. وقد أسهم في بزوغ نجمه على الصعيد السياسي الدعم الكبير الذي تلقاه من أخيهالمليونير هاشم دجوجو هادي كوسومو. وكان قد فشل في الحصول على تزكية حزبغولكار للترشح باسمه لرئاسيات سنة 2009، ليؤسس بعد ذلك حزب حركة إندونيسياالعظمى، واستطاع هذا الحزب الحصول على 12% من مقاعد البرلمان في الانتخاباتالعامة التي جرت في أبريل/نيسان الماضي. ويتبنى هذا المرشح خطابا قوميا،واستطاع بناء صورة لنفسه باعتباره رجلا قويا ذا أسلوب قيادي حازم وفعال. ويضم التحالف الذي يدعم برابوو حزب غولكار الحزب الحاكم إبان فترة سوهارتو،والفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية التي جرت فيأبريل/نيسان الماضي، وثلاثة أحزاب إسلامية هي حزب التنمية المتحد، وحزبالعدالة والرفاه، وحزب التفويض الوطني، بالإضافة إلى الحزب الديمقراطي، وهوحزب الرئيس الحالي. واختار لمنصب نائب الرئيس “حتى راجاسا” رئيس حزبالتفويض الوطني الإسلامي. وعلى خلاف الجنرال المتقاعد، ينحدر المرشح الثاني جوكو ويدودو أو جوكووي -بائع الأثاث- من أصول اجتماعية متواضعة. في سنة 2005، أصبح محافظا لمدينةسولو، وأعاد الكرّة بعد فوزه في انتخابات 2010 بأغلبية ساحقة. وفي عام 2012، أصبح محافظا لمدينة جاكرتا بعد أن اشتهر بالنزاهة ونظافة اليد. وقد اختلفت حملاته الانتخابية عن النمط السائد في إندونيسيا الذي يعتمد علىالدعاية التلفزيونية، فقد اعتمد في بادرة هي الأولى من نوعها في البلد،على الرسائل النصية والفيديوهات عبر الإنترنت والقمصان التي تحمل صوره،واستطاع بذلك الترويج لنفسه كسياسي مختلف عن الآخرين. ويعزو المراقبون جزءا من شعبيته الكبيرة إلى الزيارات المفاجئة التي يقومبها إلى المناطق المختلفة من العاصمة والاستماع إلى الناس والحديث معهمبشكل مباشر عن المشاكل التي تواجههم. ويُرى ترشح جوكووي كفرصة كبيرة لتبتعدإندونيسيا عن النظام القديم ووجوهه، وخصوصا العسكر الذين لعبوا دورا كبيرافي الحياة السياسية لإندونيسيا بعد سقوط نظام سوهارتو. يتسلح محافظ جاكرتا بدعم حزب النضال من أجل الديمقراطية الذي تترأسهميغاواتي سوكارنو بوتري ابنة الرئيس الأسبق سوكارنو، وحزب الصحوة الوطنيةالإسلامي، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب ضمير الشعب. وخلافا للتقليد السائد في إندونيسيا الذي يقضي بأن يمنح المرشح الرئاسيمنصب نائب الرئيس ومناصب في حكومته للأحزاب الداعمة له، رفض جوكووي هذاورحب بكل حزب يدعم ترشحه للرئاسة على أساس برنامجه الانتخابي ورؤيتهالسياسية لإندونيسيا ومستقبلها، واختار يوسف كالا نائبا له. الفساد كعنوان انتخابيبالنظر إلى الفضائح وقضايا الفساد التي تورط فيها بعض كبار المسؤولين فيعهد الرئيس الحالي، وما أثارته من ردود شعبية، حاول المرشحان معا الاحتفاظبمسافة واضحة بينهما وبين الرئيس المنتهية ولايته سوسيلو بامبنغ يوديونو،الذي تراجعت شعبيته لعدم قدرته على التعامل مع الفساد، الذي فرض نفسه كقضيةمركزية في الحملة الانتخابية الحالية. وهناك حنق شعبي كبير على استفحال الفساد داخل المؤسسات العمومية فيإندونيسيا. ففي تقرير لمنظمة الشفافية الدولية لسنة 2013 حول الفساد، احتلتإندونيسيا المرتبة 114 بين 177 دولة شملها التقرير. وقد شملت الاعتقالاتبتهمة الفساد قضاة في المحكمة الدستورية وضباطا كبارا من الشرطة وسياسيينمن ضمنهم حكام أقاليم، ولهذا السبب كانت الرشوة أحد المواضيع الرئيسيةللمناظرة الرئاسية الأولى التي جرت بين المرشحين للانتخابات الرئاسية فيالتاسع من يونيو/حزيران الماضي. واقترح جوكووي إصلاح الأحزاب السياسية للحد من ظاهرة الفساد، في حين قالبرابوو إن زيادة الرواتب خصوصا في سلكي القضاء والشرطة سيكون لها تأثيركبير على مواجهة هذه الآفة. واتفق الطرفان معا على ضرورة تقوية أداء لجنةالقضاء على الفساد وتعزيز صلاحياتها، لكن برنامجي المرشحين معا يخلوان منسياسة شاملة للحد من هذه الظاهرة المستفحلة في إندونيسيا. السياسة الخارجية والدفاعقدم المرشحان معا وعودا، الغاية منها تحويل إندونيسيا إلى قوة إقليمية، لكنالوسائل المتبعة تختلف من مرشح إلى آخر. وقد حدد جوكووي سياسة خارجيةترتكز على ثلاثة مستويات من الدبلوماسية، وهي: العلاقات بين إندونيسياوالدول الأخرى، والعلاقات بين رجال الأعمال المحليين ونظرائهم من الخارج،وعلاقات الشعب الإندونيسي مع الشعوب الأخرى، بما يجعلها مبتعدة عن الحلولالعسكرية. وتتمحور هذه السياسة حول أربع نقاط رئيسية هي: الحفاظ على أمن المواطنالإندونيسي، وحماية الثروات الطبيعية والبحرية، والعمل على استقرار وتعزيزأمن المحيط الإقليمي لإندونيسيا، ودعم قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات عضويةكاملة في الأمم المتحدة. وعلى مستوى الدفاع، تعهد جوكووي بأن يُحسّنالظروف المعيشية للجنود وأن يطور الصناعة الحربية. مؤكدا ضرورة اللجوء إلىالطائرات بدون طيار لمواجهة الأخطار الداخلية والتركيز على الحربالإلكترونية. أما برابوو فقد أشار إلى أن الأخطار الخارجية المحدقة ببلده تتطلب قيادةقوية وحازمة للتصدي لهذه الأخطار، الناجمة عن النزاعات الحدودية مع الصينفي بحر الصين الجنوبي. وقال إن الدول الأخرى ستتعامل مع إندونيسيا على أساسقوتها العسكرية وأن الدبلوماسية ليست سوى كلمات لا تقدم ولا تؤخر. ويرى أن مفتاح النجاح للسياسة الخارجية هو رفاهية الشعب ومستوى تقدمالرعاية الاجتماعية. ولضمان هذه الرفاهية، وَعد بأن يَحُدَّ من خروجالرساميل الإندونيسية إلى الخارج. واشترك المرشحان في التأكيد على ضرورة حماية حقوق العمال الإندونيسيينبالخارج، كما احتل الأمن الغذائي حيزا مهما في برامجهما، حيث شددا معا علىضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الأساسية وتخفيض الاعتماد علىالخارج. وكان الاقتصاد هو الموضوع الرئيسي للمناظرة الثانية التي جرت بين المرشحينفي 15 يونيو/حزيران الماضي. ولا توجد خلافات كبيرة بين السياسة الاقتصاديةللرجلين، حيث عبرا عن ضرورة تحرير إندونيسيا من ارتباط اقتصادها بالرأسمالالأجنبي والمساعدات والتكنولوجيا الخارجية وضرورة تحقيقها استقلالااقتصاديا تاما والحفاظ على ثرواتها التي تستنزفها الشركات العالمية. وفي هذا السياق، وصف برابوو السماح للاستثمارات الأجنبية بالتدفق علىإندونيسيا بالخيانة، في حين أكد جوكووي أن هدفه الأول هو تحقيق الاكتفاءالذاتي والاعتماد على الذات في جميع المجالات. بالإضافة إلى ذلك، وعد كلا المرشحين برفع الحد الأدنى للأجور والعمل علىردم الهوة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء. وعلى مستوى البنية التحتية، وعدجوكووي بتجديد شبكة السكة الحديدية وتمديدها بالإضافة إلى بناء موانئ في كلإندونيسيا لتسهيل حركة المرور في الأرخبيل. أما المرشح الآخر فقد وعدببناء ثلاثة آلاف كيلومتر من الطرق السريعة. ويؤكد أغلب المراقبين أن تنامي النبرة القومية في خطاب المرشحيْن مُوجَّهأساسا للاستهلاك الداخلي، وأن المرشحيْن يُدركان جيدا الدور الكبير الذيلعبته -وما زالت- الاستثمارات الأجنبية في التنمية الاقتصادية التي حققتهاإندونيسيا، لذا سيضطر الرئيس المقبل -أيّا كان- إلى التضحية ببعض الوعودالتي قدمها، أو على الأقل محاولة تقديم تفسير جديد لها. وتجدر الإشارة إلى أن المرشحيْن معا فشلا في تقديم برنامج مفصل للرفع منالجودة الرديئة للموارد البشرية في إندونيسيا، الناتجة أساسا عن ضعفالمنظومة التعليمية والتربوية لهذا البلد. وإذا استمرت المنظومة على هذهالحال، فستكون لها انعكاسات سلبية على الاقتصاد الذي وعد المرشحان بالدفعبعجلته إلى الأمام. من سيفوز بالانتخابات؟تلزم المادة 159 من قانون الانتخابات الإندونيسي لسنة 2008، بأن تجرى جولةثانية من الانتخابات بين المرشحين الحاصلين على أعلى نسب من التصويت، ويفوزالمرشح الحاصل على أكثر من 50% من الأصوات. وبما أن الانتخابات الحاليةتنافس فيها مرشحان فقط، فقد جرت الانتخابات في جولة واحدة فقط وفقا لماقررته المحكمة الدستورية قبل الانتخابات. وبالرغم من أنه لا يمكن التأكد من صحة استطلاعات الرأي خصوصا الصادرة عنالمؤسسات الإندونيسية، لأن كل جهة منحت الفوز للمرشح الذي تدعمه، فإنالاستطلاع الذي أجراه مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية الأميركي أظهرتقدم جوكووي بـ 51.9% مقابل 48.1% لمنافسه، وهي نتائج قريبة من تلك التيأعلنتها مؤسسة ‘سي إس إي إس إندونيسيا’ أحد أعرق المراكز البحثية في البلد. وستُعلن النتائج في 22 من الشهر الحالي، وفي حال فوز جوكووي كما توقعتهأغلب استطلاعات الرأي، فإن جوكووي الظاهرة سيكون أول رئيس ينحدر من خارجالنخبة السياسية المقيمة في جاكرتا التي تناوبت على حكم إندونيسيا لعقود،وسيكون كذلك الرئيس الأول الذي يصل للحكم بالرغم من الدعم المحدود الذيتلَقّاه من الأحزاب السياسية.
الجزيرة نت