https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلف وليد نويهض عن دار «ثقافة للنشر والتوزيع»، في الإمارات العربية المتحدة، صدر في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 كتاب «نشوء النخبة الأوروبية (1400 – 1920)»، للباحث اللبناني وليد نويهض الذي يطرح في مقدمة كتابه سؤالاً محورياً: كيف حققت أوروبا نهضتها؟ والإجابة بالطبع تحتاج عودة تاريخية إلى لحظة البدء. تلك اللحظة بدأت في القرن الخامس عشر، وأخذت بالنمو والصعود الطردي بعد تغيير خطوط التجارة القديمة (طريق الحرير)، وعبور السفينة المحيطات، وصولاً إلى الدوران حول رأس الرجاء الصالح، واكتشاف أميركا في نهاية ذلك القرن. بعد ذلك، أخذت أوروبا بالنهوض، من خلال معانقة العمران بالمعرفة، ولم يكن انهيار القديم (الأوروبي) من فراغ، إنما جاء استجابة للتحولات العمرانية والاكتشافات والاختراعات العلمية والفلكية والهندسية. وخلال هذه الفترة، برز دور النخبة الأوروبية، فأخذت تكتشف موقعها ووظيفتها، وبدأت تتدخل لصوغ منظومة معرفية تتخطى الفلسفات والمناهج الكلاسيكية المتوارثة والمترجمة عن العرب واليونان. لم تكن هذه النخبة موحدة، لكنها كانت مدركة لمسار التطور ونهاياته المتخالفة. وكانت بريطانيا هي الأولى في إدراك المتغيرات (ثورة كرومويل)، (الحرب الأهلية الإنجليزية 1642 – 1648). وتعتبر ثورة كرومويل، من أوائل الثورات الجمهورية وأبرزها في تاريخ أوروبا الحديث، وذلك بسبب تقدم بريطانيا العمراني على غيرها من المجتمعات الأوروبية. أمَّا في فرنسا، فقد أسهمت الحروب البونابرتية في إعادة ترسيم خريطة القارة سياسياً، حيث تحالفت بعض الدول الأوروبية ضد فرنسا، وأجبرتها على توقيع معاهدة فيينا 1815. بعد ذلك، ساد الهدوء أوروبا في فضاءات آيديولوجية أخذت ترتد على مفاهيم العدالة والحرية والمساواة التي أنتجتها النخبة في فترة انتعاش «ذهنية التغيير الشامل». – الانقلاب في موازين القوى يشير الكاتب إلى أنَّ النخبة هي شريحة تتشكّل من روافد متخالفة في تكوينها الثقافي، وأصولها الاجتماعيّة، فالنخبة ليست طبقة ولا كتلة حزبية، وإنما هيئة عليا غير منسجمة في الوعي والتفكير، تقوم بدور الموجه أو المؤثر على الرأي العام. ولا يمكن عزل قوّة النخبة وتأثيرها عن فضاء العمران، إذ إنها نتاج تراكمات وحلقات موصولة زمنياً. وحين تتوصل في فترة زمنيّة محدّدة إلى درجة من الاستقلال النسبي عن الواقع، تبدأ في التأثير فيه. كل فلاسفة أوروبا الكبار مروا بهذه التحولات، وانتقلوا وارتقوا الدرجات خطوة خطوة، فكل فيلسوف هو نتاج عصره، وخلاصة ذهنية متقدمة عن عصر غيره، أو مَنْ سبقه. ولهذا تنوعت الفلسفة الأوروبية، واختلفت وتطورت وتفرعت، وهي في المجموع العام تدين لتلك الحضارات السابقة، من يونانية ورومانية وجرمانية ومسيحية وأندلسية (عربية – إسلامية). وقد استفاد الغالب الأوروبي آنذاك من المسلم المغلوب في الأندلس، حيث أخذ الغالب ينفك عن تقاليد المغلوب، ليعيد تأسيس منظومته المستقلة، بعد عقود متواصلة من التطور التراكمي الخاص. ويؤكد المؤلف أنَّ الفكر الأوروبي الحديث لم يسقط من فوق إلى تحت، وإنما صعد من تحت إلى فوق. فالفكر الأوروبي ليس للترفيه والتسلية في المنتديات، وإنما كان أصل نهوضه تلبية متطلبات اجتماعية فرضها التطور العمراني. هنا، لعبت النخبة، كما يؤكد المؤلف، دورها في دفع المفاهيم الإنسانية إلى الأمام، حيث نجحت في الصعود في سلم الحضارة الإنسانية خطوة خطوة، وضمن صيغ متوازنة تضبط إيقاع التقدم للرد على متطلّبات مجتمع الرفاهية. ومن هنا، امتدت شجرة المعرفة الأوروبية الوليدة، وألقت بظلالها على مختلف شعوب العالم التي كانت لا تزال تعيش علاقات ما قبل الدولة (العشيرة، والطائفة، والمنطقة، وغيرها). – صدمة الطاعون ونفوذ الكنيسة ثم يتطرق إلى صدمة الطاعون التي اجتاحت البحر المتوسط، والعالمين الأوروبي والإسلامي، لمدة 45 سنة، وأحدثت هزة ساهمت في تشكيل رؤيتين متخالفتين: العالم الإسلامي انعزل وانكفأ وارتد إلى إنتاج الخرافة، بينما العالم الأوروبي واجه التحدي بالذهاب نحو تصنيع العقاقير لمحاربة الوباء. وأدى اختلاف الاستجابة للتحدي إلى توليد نهضة علمية مختبرية في أوروبا، مقابل تراجع العالم الإسلامي الطبي في مواجهة الوباء الدارس للعمران. وهكذا، شكلت صدمة الطاعون خطوة لمصلحة الجانب الأوروبي، بينما العالم الإسلامي يخوض مواجهات عسكرية دائمة في الشطر الشرقي من أوروبا. آنذاك، كانت النخبة الأوروبية لا تزال تخضع لسلطة الكنيسة، ولم يكن بإمكانها أن تتحرك خارج منظومتها المعرفية. ففي مدينة كوسا الألمانية، نجح نقولا دي كوسا (1401 – 1464م) في تسجيل كتابات فلسفية لم تخرج عن حدود التصوف بسبب إصراره على العمل في إطار الكهنوت (ترقى من أسقف إلى كاردينال). وبسبب الطابع الديني لأعماله الفلسفية، وضعه ذلك في موقع مضاد للفلسفة الرشدية التي كانت لا تزال تسيطر على شريحة واسعة من النخبة الأوروبية، وتحديداً في جامعة بادو الإيطالية التي درّس فيها (ص 23). ولكن تصادفت أعمال دي كوسا مع سقوط القسطنطينية (1453م)، لتعطي قوة دفع مهمة، إذ إنَّها ستشكل دفعة معنوية للنخبة الأوروبية، وستوفر لها منطقة نفوذ في إطار الكنيسة التي اهتزت صورتها نسبياً أمام العامة، بسبب فشلها في الدفاع عن الثغور المسيحية في الشرق. من هنا، حصل تطور في المعرفة الأوروبية، حيث أخذ الوعي ينمو ويضغط باتجاه الانتقال من الوعظ والإرشاد إلى النقد والبحث. – فلاسفة ومفكرون منذ النصف الثاني من القرن الخامس عشر، ستشهد القارة نقطة تحول استثنائية في وعي «النخبة» الأوروبية، إذ ستولد في هذه الحقبة الانتقالية مجموعة عقول سيكون لها شأنها في مطلع القرن السادس عشر. ففي هذه المرحلة، سيولد ليوناردو دافنشي في 1452، ونقولا ماكيافلي في 1469، ونقولا كوبرنيكس في 1473، ولويس فيغيس في 1492. وستعمل هذه الشريحة من العلماء على إحداث نقلة نوعية في مختلف مناحي الحياة الأوروبية. لقد جاءت أفكار ماكيافلي قاسية، ولكنها من الناحية الزمنية تبدو عادية، في قارة كانت في طور التقدم والانتقال من مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطن. وكانت إرشادات ماكيافلي مدمرة إنسانياً، ولكنها جاءت في زمنه واقعية، لكونها ترد على حاجات عصر أخذ يشرف على التفكك، حيث تأسست أفكاره على اكتشافات القرن الخامس عشر الذي شهد بدايات استثنائية ستنقل أوروبا لاحقاً من عالم سلطة الكنيسة إلى عالم سلطة المعرفة، وماكيافلي كان من أشهر رموزه. وقد شكل النصف الثاني من القرن السادس عشر بداية ظهور متحولات في بنية النخبة الأوروبية، مستفيدة من تلك الانشقاقات التي أصابت الكنيسة، وأضعفت نسبياً هيبة الإكليروس، حين تراجع دور الكنيسة السياسي، لمصلحة تعزيز موقع الدولة الذي أسهم في إنتاج «نخبة» طموحة في خياراتها الكبرى. وخلال تلك العقود الخمسة، ستترافق الحروب الدينية (الأهلية) مع ولادة كبار العلماء والأدمغة. ففي مدينة بيزا الإيطالية، سيولد غاليليو غاليلي في 1564. وفي بريطانيا، فرنسيس بيكون في 1561، وتوماس هوبز في 1588، وسيولد في مقاطعة تورين (فرنسا) رينيه ديكارت في 1591. وسينتهي القرن السابع عشر الذي بدأ في ضوء إيقاعات الحروب الدينية وتداعياتها، ومحاكم التفتيش ومضاعفاتها، وتراجع موجة الحروب الدينية، وانكسار نسبي لوظيفة الكنيسة، وتحطيم معقول لهيبة الإكليروس، مقابل نمو قوة الدولة المركزية. فالدولة في مهماتها المضافة ستكون في القرون المقبلة مدار التجاذب والتفاوض والتناحر والتنافس. لقد أصبحت الدولة كنيسة أوروبا الجديدة (ص 33). وعاشت في سنوات ذلك القرن وكتبت وظهرت أسماء أسهمت في تأسيس معرفة حديثة تتناسب والتطور العمراني الذي شهدته القارة، منهم بيكون، وغاليليو، وهوبز، وديكارت، وباسكال، وسبينوزا، ونيوتن، ولوك، وليبنتز. ولولا هؤلاء لما كانت أوروبا التي نعرفها الآن على ما هي عليه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

19 − واحد =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube