https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

لا مراء في أن كارل ماركس من كبار الفلاسفة الذين تركوا ورائهم جدلاحادا ونقاشا صاخبا. فما يزال شبح ماركس يراود المنظومة الرأسمالية بالرغممن هيمنتها وسقوط كل التجارب الشيوعية المنافسة، التي استمدت مرجعيتها منأطروحات ماركس. ولعل الذي أعاد صاحب “رأس المال” إلى الواجهة هو بعضالأزمات الاقتصادية التي تضرب النظام الاقتصادي المعاصر بين الفينةوالأخرى، ولعل آخرها أزمة 2008. وهذا ما يدفعنا للبحث عن سر هذا الحضورالدائم له، والتساؤل حول إضافة ماركس لنيل هذا الحضور؟صحيح أن كل النماذج الاشتراكية اليوم صارت جزءا من الماضي، وأصبح النموذجالغربي الليبرالي محط أنظار الجميع، ومبلغ أمانيهم الوصول إلى مستواهالتنموي والسياسي والاقتصادي. لكن هذا كله لا يخرج ماركس إلى الهامش بجوارتلك التجارب الاشتراكية الفاشلة، وسقوط هذه الأخيرة قد يحيل إلى قصور فيالتنبؤات وبعض التصورات التي قد تكون بلغت مستوى عال من المثالية، غير أنهالا تسقط نجاعة “المنهج” الذي أدى إلى استنتاج تلك السرديات والأطروحات. إن الخلط الذي حدث عند رهط كبير منا، هو اعتقادنا أن سقوط تجارب تاريخية هوإعلان عن قصور في ذات “النظرية” لتي أفرزت تلك السرديات. وهذا ما يؤكدهعبد الله العروي بأن الإشتراكية ليست دائما الماركسية، ورغم ذلك ما تزالتختلط في أذهان الناس الإشتراكية التي هي مجموعة أهداف سياسية واجتماعيةوأخلاقية. والماركسية التي هي طريقة لتحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصاديةوالتاريخية. إذن، فأهمية ماركس لا تكمن في مفاهيم صورية صكها من خلال تأملاته في صيرورةالواقع وتعقيداته، ولا في تنبؤات صاغها لتحقيق مبتغاه. بل إن قوة ماركستتجلى في المنهج التي اعتمد عليه لاستنتاج أطروحته. لهذا كانت التجاربالاشتراكية الناجحة هي التي حاولت تكييف المنهج مع واقعها، وهنا نذكر تجربةلينين وسياسة الـ NEP وماو في الصين، عكس تجارب أخرى من بينها ستالين. وعليه نكون قد أدركنا أن جديد ماركس كان هو منهجه في التحليل، لكن هذاالجواب يدفعنا إلى التساؤل من جديد عن ماهية هذا المنهج؟منهج ماركس أسس لتحول نوعي، لأن بفضله أصبحت طريقة التفكير تنطلق من وضعملموس (بشر، علاقات، إنتاج..) وبالتالي تخلت عن تعالي الفلسفة وعن تأملاتهاعودا على كلام المفكر العروي وتأكيدا له، فالماركسية هي طريقة في التحليلونظرية لفهم “مفتوح” للواقع وتطرح حلولا لمشكلاته من خلال الوعي بمختلفتناقضاته ومكوناته. ومن بين آليات هذا المنهج نجد (الجدل المادي) الذي يلعبدور المرشد في عملية البحث في الواقع للوعي بصيرورته الواقعية. وليس الجدلمن إبداع ماركس، بل هو من اكتشافات هيغل، لكن الفضل في تطويره يرجع للاوللا الثاني؛ حيث أن جدل هيغل كان يبحث في صيرورة الأفكار لا الواقع، لذلكبقي حبيس تلك المقولات. بينما ماركس فرض الاهتمام بالمادة “الواقع” لا الفكر، لأن هذا الأخيرانعكاس للأول. بمعنى آخر؛ الماركسية في منهجها المادي أخذت في جدل هيغلنواته العقلية، ونبذت قشرته التأملية الصوفية التي ترجع العامل الفاعل فيالحياة الاجتماعية إلى (الروح المطلقة). لهذا فقوة الماركسية ومنظرها تكمنفي انه أوقف هيغل على قدميه وذهب به إلى منتهاه، فإذا كان هيغل بمثابة نفيللفلسفات التي سبقته ونهاية منطقية لها، فإن ماركس كان نفي النفي بتعديلهللجدل الهيغلي، وبذلك حقق اكتمال الجدل وكان التحول النوعي الذي أدى إلىتأسيس منطق جديد. لكن، ما ميزة هذا المنطق الجديد عن المنطق القديم الذيكان سائدا؟لا شك أن منهج ماركس أسس لتحول نوعي، لأن بفضله أصبحت طريقة التفكير تنطلقمن وضع ملموس (بشر، علاقات، إنتاج..) وبالتالي تخلت عن تعالي الفلسفة وعنتأملاتها، لتغوص في الوجود الحقيقي وفي حركة الواقع وتغيراته وتناقضاته ،وهذا فحوى مقولة ماركس العميقة: “ليس وعي الناس من يحدد وجودهم، بل وجودهمهو الذي يحدد وعيهم”. هذا المنطق الجدلي المادي كان مخالفا لما دأبت عليهالإنسانية سابقا، حيث هيمن المنطق الارسطي الصوري الذي يعتمد على السكونوالقياس على فكرة مسبقة، ومشكلته انه لا يمثل واقع الحياة، وقد أصبح رجلالفكر بتأثير من هذا المنطق يحتقر رجل العمل فهو قد ارتفع في السحاب واخذيبني لنفسه هنالك العلالي والقصور، فهو لا يفهم مشاكل الحياة ولا يريد أنيفكر فيها… فهو فكر غائي يبحث في الأمور المنتهية. كما أنه يعطي الأولويةللوعي لا الواقع. بل يسعى إلى إسقاط أفكار صورية جامدة على أي واقع يوضعأمامه بغض النظر عن تناقضاته. إجمالا، يمكن اختصار الكلام والقول بأن جديد ماركس يكمن في تأسيسه لمنطقجدلي مادي كطريقة أرقى في التفكير بالسعي لوعي الواقع ووعي صيرورته لتقديمإجابات علمية. وإجابة منا على السؤال الذي عنونا به مقالتنا، فإن ما يجباخذه من ماركس ليس أهدافه السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تمثلهاالاشتراكية، بل في المنهج المادي الجدلي الذي اعتمده في التحليل القائم علىأولية الواقع على الوعي؛ لأن الصيرورة الواقعية هي الواقع الحقيقي، اماالصيرورة الذهنية فهي في الواقع المفترض المتصور. ولا شك في أن المطلوب هووعي الصيرورة الواقعية لتكون الصيرورة الذهنية مؤثر فقط، تسهم في تحديد تلكالصيرورة. وبهذا فأن المادية رؤية مفتوحة.

الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة + 18 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube