https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

هناك علاقة قوية بين الأزمات الإقليمية وظهور نظام عالمي جديد. في الماضيكانت الحروب العالمية تلعب الدور الأهم في هذا المجال، لكن مع صعوبة تكرارهذه الخبرة باتت الأزمات الإقليمية هي الأداة الأهم للإعلان عن التوازناتالعالمية الجديدة. على سبيل المثال، كانت أزمة السويس 1956 كاشفة عن انتقالالنظام العالمي ليس فقط من حالة تعدد الأقطاب إلى الثنائية القطبية بقيادةالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لكن الانتقال أيضاً من مرحلة الحقبةالأوروبية إلى مرحلة بزوغ قوى أخرى من العالم الجديد، هي الولاياتالمتحدة. كذلك، كانت حرب الخليج الثانية (1991) كاشفة عن الانتقال من نظامعالمي ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة. وقد ظل هيكل النظام العالمي أحادي القطبية مستقراً لفترة طويلة، لكن العقدالأخير شهد تحولات ضخمة في هيكل توزيع القدرات الاقتصادية والعسكرية فياتجاه صعود قوتين مهمتين، على حساب الهيمنة الأميركية، هما روسيا والصين،فضلاً عن التغير الحادث في هيكل المؤسسية الدولية، في اتجاه ظهور مؤسساتومجموعات دولية جديدة باتت تلعب دوراً أكبر في إدارة التفاعلات الدولية (مجموعة العشرين، بريكس)، تلعب فيها الصين وروسيا واقتصادات ناشئة دوراًمهماً. كان لهذه التحولات تأثيرها في اتجاهات تطور وإدارة عدد من الأزماتالإقليمية، التي يمكن الاعتماد عليها في استنتاج ملامح بنية النظام العالميالجديد. كان أبرزها الحرب الروسيّة- الجورجيّة في آب (أغسطس) 2008. فعلىرغم أنّ هذه الحرب لم تدشّن اكتمال عمليّة التحوّل عن النظام أحاديالقطبيّة، إلا أنها قامت بدورٍ مهمٍّ في هذا الاتّجاه من زاويتين؛ الأولى،أنّها دشّنت حالة من القطبية الثنائية على مستوى إقليم أوروبا الشرقيّةوالخروج عن حالة التوافق والقواعد الدوليّة التي حكمت هذا الإقليم منذانهيار الاتحاد السوفياتي، بخاصّة مبدأَي السيادة والتكامل الإقليمي، ماضمن الاعتراف بالدول المستقلّة عن الاتحاد السوفياتي واندماجها في المجتمعالدولي. لقد مثّلت هذه الحرب خروجاً صريحاً من جانب روسيا عن هذا التوافقالدوليّ، أو بالأحرى التوافق الروسي–الأميركيّ. من ناحيةٍ ثانية، أعلنتروسيا، على خلفيّة هذه الحرب، عدداً من التوجّهات التي حكمت سياساتهاالخارجيّة، حدّدها الرئيس ميدفيديف آنذاك في خمسة مبادئَ، عُرفت بـ «عقيدةميدفيديف». نصَّ المبدأ الثاني منها على أنّ «العالم يجب أن يكون متعدّدالأقطاب. عالم القطب الواحد لم يعد مقبولاً. لن نسمح بالهيمنة. ولا يمكن أننقبل بنظامٍ عالميّ تصنع فيه دولة واحدة جميع القرارات، حتّى ولو كانتدولة مؤثّرة مثل الولايات المتّحدة. مثل هذا العالم غير مستقرّ ومهدّدبالصراع». وجاءت أزمة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014 لتؤكد الاتجاهذاته في هذا الإقليم. ثم جاءت الأزمة السورية لتمثل الحلقة الأهم في تدشين عملية الانتقال تلك منخلال تأكيد الدور الروسي في هذه الأزمة، من ناحية، ووجود درجة من التنسيقالروسي- الصيني، من ناحية ثانية، بخاصة خلال المراحل الأولى من الأزمة فيشكل عدم تمرير أية قرارات أممية من شأنها تفويض الولايات المتحدة أوالمجتمع الدولي باستخدام القوة العسكرية ضد النظام السوري، في شكل صريح أوضمني -على عكس ما حدث في الحالة الليبية عندما امتنعتا الصين وروسيا عنالتصويت على قرار مجلس الأمن رقم 1973- ثم استغلال الصين الأزمة لتأكيدحضورها العسكري (الرمزي) في المنطقة، جاء ذلك من خلال إرسالها قطعاً حربيّةإلى البحر المتوسّط خلال شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) 2012، وهي المرّةالثانية التي ترسل فيها الصين قطعاً عسكريّة بحرّية إلى البحر المتوسّطخلال عام 2012. كانت الأولى أثناء الثورة الليبيّة عندما أرسلت سفناًوطائراتٍ حربيّةً لإجلاء رعاياها من ليبيا، في مؤشّرٍ مهم على تحوّلٍ فيالسياسة الصينيّة إزاء مسألة إرسال قطع عسكرية خارج مجالها الإقليمي. ومع تراجع الدور الصيني نسبياً في هذه الأزمة، لكنها كشفت في شكل واضح عنهيمنة روسية على الأزمة، بجانب بعض الحلفاء الإقليميين (تركيا وإيران)،سواء في ما يتعلق بالتوازنات العسكرية على الأرض، أو مسارات التسوية التينجحت روسيا في إعادة هيكلتها. ومع أن انتكاس الاتفاق النووي الإيراني وبدءأزمة جديدة بين إيران والولايات المتحدة، تسعى فيها الأخيرة– بالتعاون معإسرائيل وقوى إقليمية أخرى- إلى «تجفيف» النفوذ الإيراني في الإقليم، الأمرالذي قد يؤدي إلى التأثير في توازنات القوى العالمية القائمة في هذاالصراع، لكن هذا الاستنتاج ليس دقيقاً، فالصراع الأميركي- الإيراني يخضعلحسابات أميركية تختلف نسبياً عن تلك التي يخضع لها «الصراع» الأميركي- الروسي، كما أن إخراج إيران من الصراع في سورية يتوافق إلى حد كبير معالمصالح الروسية. خلاصة القول، إذن أن أزمة الحرب الروسية- الجورجية، ثم أزمة القرم 2014، ثمالأزمة السورية الجارية، هي أزمات كاشفة إلى حد كبير عن صعود الدورالروسي، وتحول النظام العالمي بعيداً من نمط النظام أحادي القطبية. على الجانب الآخر، وفي الشرق الأقصى، طُرحت أزمة كوريا الشمالية، على أنهانموذج على صعود الصين كقوة عالمية. فقد ظلت الصين- وفقاً للخطاب الأميركيحتى وقت قريب- هي البوابة الرئيسية لتسوية الأزمة الكورية. كما ظلت الصينصاحبة الدور الأبرز في هندسة الإطار الخاص بإدارة الأزمة الكورية، والمتمثلفي المحادثات السداسية (2003- 2009)، وحائط الصد أمام إمكانية استخدامالقوة العسكرية ضد نظام بيونغ يانغ، وربما –وفق تحليلات غربية عدة- الداعموالغطاء الدولي الرئيس للنظام لتطوير قدراته النووية والصاروخية والالتفافعلى العقوبات الاقتصادية. بمعنى آخر – ووفق تحليلات عدة- فقد نشأ افتراضبأن الصين تستخدم الأزمة الكورية كورقة أساسية لإجبار الولايات المتحدة علىالاعتراف بدور صيني في النظام العالمي، والتحكم في التوازنات الاستراتيجيةفي منطقة آسيا- المحيط الهادئ، وعدم تسوية هذه الأزمة بمعزل عن المعضلاتالأمنية الأخرى (النزاع في بحر الصين الجنوبي، النزاعات الحدودية البحريةبين الصين واليابان، المناورات العسكرية الأميركية في المنطقة، صعودالقومية اليابانية واحتمالات إعادة النظر في الدستور الياباني والدورالخارجي للعسكرية اليابانية، وقضية تايوان). لكن قراءة دقيقة للتطورات والانفراجة الراهنة على مستوى علاقات بيونغ يانغ- سيول، أو بيونغ يانغ- واشنطن، وبغض النظر عن حجم الدور الصيني في هذهالعملية، لكن حقائق مهمة تشي بها هذه التطورات، أبرزها هو تراجع دور الصينلمصلحة تصاعد دور كوريا الجنوبية (حليف الولايات المتحدة). كان ذلك واضحاًفي حلحلة الأزمة من خلال بدء عملية «تطبيع» كورية- كورية، والدور الذي لعبهالرئيس مون جاي-إن في إنقاذ قمة ترامب- أون. كما كان ذلك واضحاً أيضاً فيما نص عليه بيان القمة الكورية- الكورية (نيسان- أبريل 2018) من اعتمادآلية المحادثات الثلاثية (الولايات المتحدة والكوريتين) كإطار رئيسي لإدارةعملية إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي، الأمر الذي يؤسس ليسفقط لإمكانية استبعاد الصين من هذه العملية، ولكن أيضاً عدم ربط هذا الملفبغيره من الملفات الأمنية السابقة ذات الأهمية للصين. الأمر ذاته بالنسبةلروسيا، ففي الوقت الذي ضمنت آلية المحادثات السداسية سابقاً دوراً روسياًفي إدارة المعضلة الأمنية في إقليم شمال شرقي آسيا المجاور لها مباشرة، فإنالعملية الجديدة المرتقبة لا تضمن لها هذا الدور. بمعنى آخر، فإن الأزمةالكورية تشير -حتى الآن- إلى استمرار هيمنة الولايات المتحدة على بنيةالنظام في آسيا المحيط الهادئ. وهو تحول سيتأكد في حالة نجاح الانفراجةالراهنة في نزع السلاح النووي والقدرات الصاروخية الكورية. وهكذا، وكما تشير إليه تطورات هذه الأزمات الإقليمية، فإننا نصبح أماماستنتاجات عدة. الأول، أن هذه الأزمات لا تمثل شرطاً كافياً للكشف بعد عنطبيعة النظام العالمي الجديد، وأن جملة من التفاعلات والتحولات ما زالتضرورية للوصول إلى الهيكل النهائي للنظام، بخاصة في ظل التباين بين ما تكشفعنه أزمات جورجيا، والقرم، وسورية، من ناحية، والأزمة الكورية من ناحيةأخرى. الاستنتاج الثاني، أننا إزاء «نظامين عالميين»، نظام يقوم علىالثنائية القطبية في بعض الأقاليم، بينما لا يزال القطب الواحد هو النمطالغالب في أقاليم أخرى. الحديث عن «نظامين عالميين»، قد يبدو مفهوماً غيرمنضبط لكنه ربما يفسر لنا الكثير من أوجه التناقض وعدم وضوح السياساتالعالمية في الكثير من الأقاليم.

الحياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 2 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube