https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلف: توما بيكتي – اعتبر بيكتي في كتابه “رأس المال في القرن العشرين” تغلب مداخيل الريع على الانتاج تهديدا لاستقرار النظام الرأسمالي برمته، قد تنتج عنه حروب أو ثورات، ما لم نفرض ضريبة على مداخيل الريع، تعالج مشكلة التفاوات بين الملاّك والعمال. مشكلة الريع يتميز النظام الرأسمالي عن غيره من الأنظمة، حسب ماكس فيبر، في أن المال يُوجَّه لكسب مزيد من المال ولا تنحصر وظيفته في تحصيل الطيبات التي يحتاجها الإنسان للبقاء أو للتنعم، ويمكن أن نضيف محركًا آخر للنظام الرأسمالي يتمثَّل في سعي الأفراد لمراكمة الثروات بهدف توريثها لأقربائهم، لكن هذا الهدف الثاني الذي يحفز الناس على الكسب قد يتحول إلى معطِّل للنظام الرأسمالي بأكمله لأنه يكنز الثروات ويشجعها على ترك المشاريع الإنتاجية التي تعد النشاط الرئيسي لكل نظام اقتصادي فعال. تلعب مراكمة الثروات إذًا دورين متعارضين؛ فهي من جهة تدفع الناس للعمل والكسب، فتنشِّط النظام الاقتصادي الرأسمالي لكنها تشجِّع في نفس الوقت على اكتناز الثروات وإبعادها عن الاستثمار المنتج الذي يصيب النشاط الاقتصادي بالركود. يتصدى لتحليل معضلة التعارض بين الدخل الريعي والدخل الإنتاجي وسبل التعامل معها الباحث الاقتصادي الفرنسي، توما بيكتي، في كتابه “رأس المال في القرن العشرين”، وهو كتاب ضخم، غطَّى نحو ثلاثة قرون في عدد من البلدان، مستقصيًا تطور تراكم الممتلكات والمداخيل، وقد حظي برواج واسع، جعله ينافس كتب القصص، من أمثال هاري بوتر الخيالية، ودار حوله نقاش عريض، بين معجب يعتبره فتحًا في البحث الاقتصادي يزاحم رأس المال لكارل ماركس، ومنتقد يعتبره لا يأتي بجديد لأن الباحثين في الاقتصاد درسوا منذ زمن بعيد التفاوت في المداخيل وآثاره السلبية على الاقتصاد، وساخر من خلْطه بين رأس المال باعتباره سيطرة للمالك على العامل ورأس المال باعتباره ثروة. إغراء قاتل يتشكَّل نسيج الكتاب من عدد من الأفكار المترابطة: 1- يحرص الناس بشدة على أن يورِّثوا بعد مماتهم أملاكًا تضمن رزق أهلهم، فيتسع القطاع الرِّيعي الذي يُدرُّ مداخيل دون وظيفة إنتاجية. 2- ما دام الموت يجعل الناس يقلقون على أقربائهم من بعدهم فإنه يدفعهم إلى تفضيل حيازة ممتلكات تدر مداخيل دون عمل (وهو معنى الريع) بدلًا من العمل والإنتاج والمخاطرة، وبذلك تظل مداخيل الممتلكات أعلى من مداخيل العمل. 3- يشجع ارتفاع مداخيل الممتلكات، الاستثمارَ على ترك العمل المنتِج، فيتدنَّى النمو، فيقل الطلب على العمال، وتتدنى الرواتب، وتنخفض مداخيل الدولة من الضرائب. وتندرج الأزمة المالية في 2008 في هذا السياق، لأنها نتجت من عجز الأفراد عن دفع ديونهم التي اقترضوها من أجل الحصول على سكن. ولم يضطروا للاقتراض إلا لأن رواتبهم التي ظلت راكدة منذ سنوات، لم تمكِّنهم من شراء منازل تؤويهم وتؤوي عوائلهم من بعدهم. 4- عزوف رأس المال عن الاستثمار المنتج وتفضيله الممتلكات، يخفض الطلب على العمل، فتتدنى الأجور، فتضعف قدرة الناس على شراء الطيبات، فتصير المنتجات كاسدة، فتصاب الشركات بخسائر تضطرها إلى خفض نشاطها -بل قد توقفه- وتسريح جزء من عُمَّالها أو كلهم، فيركد النشاط الاقتصاد. تعد أزمة 1929 نموذجًا لذلك، لأن سببها لم يكن تدني الإنتاج بل عجز الناس عن الشراء لأن رواتبهم كانت متدنية، فنصح الاقتصادي البريطاني، مينار كينز، برفع رواتب العمال لتشجيعهم على شراء البضائع، فتربح الشركات، وترغب في توسيع نشاطها، فتحتاج إلى توظيف عمال جدد، فتتحرك عجلة الاقتصاد مجددًا. وقد أخذ الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، بهذه السياسة؛ حيث وجَّه الدولة إلى الاستثمار في مشاريع البنى التحتية، كالطرقات وشبكات المياه والكهرباء، لتوظف عمالة كثيفة، فازداد عدد العمال الأجراء، فارتفع الطلب على البضائع، فحققت الشركات أرباحًا، جعلتها تتوسع في أنشطتها، فازداد الطلب على العمال، فقلَّت البطالة. 5- يؤدي انخفاض النشاط الإنتاجي إلى تدني مداخيل الدولة من الضرائب، فتضطر إلى خفض مصروفاتها في قطاعات حيوية مثل المؤسسة العسكرية، ومهمة للنشاط الاقتصادي والسياسي مثل قطاع التربية. الأمثلة عن الترابط بين تراجع القوة العسكرية للدولة وتدني مداخيلها كثيرة، منها الإمبراطورية البريطانية كما حلَّلها بول كنيدي في كتابه عن “صعود وسقوط القوى العظمى”. أمَّا خفض مخصصات التعليم فإنه يؤثِّر سلبًا على الاقتصاد والسياسة معًا. أما على الاقتصاد، فلأن القيمة المضافة في أي منتوج اقتصادي باتت في الوقت الراهن تتعلق بالمضمون الإبداعي أو الاختراع؛ حيث إن عددًا كبيرًا من شركات الدواء مثلًا تحصل على النسبة الأكبر من الأرباح ببيعها براءات الاختراع وتترك العملية الإنتاجية لغيرها من الشركاء في الدول الصاعدة. أما في السياسة، فإن التربية ضرورية حتى يتمكن الناس من المشاركة الفاعلة في المقارنة بين البرامج السياسية والمرشحين، ومناقشة القضايا الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي تمس حياتهم بشكل مباشر. 6- تضطر الدولة إلى الاستدانة لتعويض تناقص مداخيلها من الضرائب، فترتفع المديونية العامة إلى مستويات قد تجعلها تفقد سيادتها جزئيًّا أو تخسر استقلالها بالكامل وتقع تحت احتلال بلد آخر. وأمثلة ذلك كثيرة، تناولها المؤرِّخ، نيال فيرغسون، في كتابه عن “صعود المال”؛ حيث وضح أن سقوط الإمبراطوريات يرتبط بشكل وثيق بعجز الدولة عن سداد الديون. 7- توريث الثروات يجعل الفرص الاقتصادية متفاوتة بين من يُولَد وقد وَرِث أملاكًا تُدرُّ عليه أرباحًا مرتفعة، تمكِّنه من شراء ممتلكات جديدة يورِّثها لأقربائه مجددًا، وبين من يولد دون أن يمتلك شيئًا يدر عليه دخلًا يستطيع تثميره. ينشأ من هذا الوضع خلال مدة طويلة تفاوت في الثروات، بين قلة تكتنز غالبية الثروة، وأكثرية لا تملك إلا عملها إذا تمكنت من الحصول على وظيفة. هذا التفاوات يجعل غالبية من الناس داخل الدولة تحنق على الوضع القائم، لأنها تراه غير عادل في تقسيم الأعباء؛ حيث إنها تعتقد أن الأقلية التي تملك الجزء الأكبر من الثروة تنتفع من المنشآت العامة، كالطرقات وشبكات الكهرباء والماء، لكنها لا تسهم في إقامتها. هذا الحنق يدفعها إلى التمرد على الوضع القائم إما لإصلاحه أو الثورة عليه. ويجد بيكيتي تشابهًا بين التفاوت في الوقت الراهن والتفاوت عشية الثورة الفرنسية، ملمحًا إلى أن الوضع الحالي غير قابل للاستمرار، ومن المُلِحِّ إيجاد الحلول التي تحول دون اندلاع ثورة جديدة. وصفات مختلفة بيَّنت التجربة التاريخية أن هناك عددًا من الطرق لعلاج هذا المشكل، إما برفض سداد الديون لكن هذا خيار خطير قد يدفع الدائنين إلى شنِّ حرب عليك في أسوأ الأحوال أو في خسارتك لثقتهم مستقبلًا فلا تتمكن مجددًا من الاستدانة وقت الضيق، وتروج عنك سمعة سيئة تضر اقتصادك وأمنك لأنها تحرمك من موارد قد تحتاجها مستقبلًا. وإما أن توافق على السداد لفترات طويلة قد تستغرق قرنًا كما فعلت بريطانيا في القرن التاسع عشر، فتحرم اقتصادك لمدة طويلة من موارد ضرورية لتنشيطه. وإما بالتضخم من خلال خفض القيمة الحقيقية للنقود، فيحصل الدائنون على مبالغهم بقيمة فعلية أقل، لكن هذا العلاج يضر بفئة المدَّخرين التي ليست مسؤولة عن المشكلة. وإما بفرض ضريبة تصاعدية على الممتلكات، تضطر أصحابها إلى رفع مساهمتها في توفير الموارد المالية للدولة. يميل بيكيتي إلى الخيار الأخير لأنه يتصدى للمشكل الحقيقي وهو مشكلة الممتلكات التي تخرب جاذبيتها المفرطة النشاط الاقتصادي برمته. لكنه يعترف أنه علاج جزئي لا يحل المشكل من أساسه، بل يعد خطوة في الطريق الصحيح لا تتعارض مع غيرها من الخطوات التي تسعى إلى تغليب النشاط الإنتاجي على النشاطات غير المنتجة. نقد واسع تعرَّض كتاب بيكيتي لنقد واسع، نذكر أهمه: 1- قال بعض الخبراء الاقتصاديين، مثل كينيث جالبريث(1): إن عنوان كتاب بيكيتي هو رأس المال بينما يتحدث في كتابه عن الثروة، وهناك فرق بين المصطلحين؛ فرأس المال، حسب كارل ماركس، هو علاقة سيطرة لرأس المال على العمال، أما الثروة فهي نتاج هذه السيطرة، بل قد أحصل على ثروة دون سيطرة، مثل حصول دول كثيرة على ثروات باطنية كالمعادن وغيرها، لم يكن للعمل دور فيها. يرد بيكيتي بأن رأس المال ليس شكلًا واحد بل يتعدد حسب السياقات والأوقات، وأنه تناول وجهًا من أوجه رأس المال. 2- رأى اقتصاديون آخرون أن بيكيتي يعتقد أنه يعالج أمراض النظام الرأسمالي بمجرد فرض ضريبة على الممتلكات، بينما المشكلة في حقيقتها أعوص لأنها تتعلق بسيطرة الرأسمالي الذي يملك وسائل الإنتاج على العامل، وأن العلاج الحقيقي لن يتحقق إلا بتصحيح هذه العلاقة، فيصير العمال أندادًا للرأسماليين في إدارة المؤسسات الإنتاجية(2). يقر بيكيتي بأن مقترحه لا يعالج المشكل من أساسه لكنه لا يتعارض مع مقترح إشراك العمال في إدارة مؤسساتهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 + ثمانية عشر =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube