https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

ظهرت الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في آسيا الوسطى كجزء من صيرورة التعددية الاجتماعية والفكرية بعد انحلال السلطة السوفيتية وأيديولوجيتها الرسمية الوحيدة. وأدت الخصخصة وانحلال احتكار العمل السياسي إلى تمايز اجتماعي وعقائدي وفكري افرز تنوعاً سياسياً شكلت الحركات الإسلامية طيفاً من أطيافه. تتسم صورة “الانبعاث الإسلامي” في آسيا الوسطى بتنوع ألوانها. إلا أن هذه الصورة المليئة بأشجار متنوعة لا تمنع رؤية الغابة المتراكمة وراءها، بمعنى أن هذه الحالة المتنوعة والمتناقضة من نمو مختلف مظاهر الظاهرة الإسلامية لا تمنع من رؤية المسار الديناميكي فيها. بما في ذلك خفوتها المعاصر. فهو خفوت يعكس أولا وقبل كل شيء تحول الظاهرة الإسلامية من الظاهر إلى الباطن. وهو تحول طبيعي، وتاريخي لحد ما. الأمر الذي يمكن رؤية نموذجه ومثاله على حالة وآفاق “الإسلام السياسي” بوصفه احد الأشكال المتميزة والفعالة للظاهرة الإسلامية نفسها، أي لظاهرة المركزية الإسلامية وأشكالها تجسيدها في آسيا الوسطى. فالمظهر الأولي لها كان يتجسد في محاولات الخروج من السيطرة الروسية وتوسيع هوة الابتعاد عنها. بمعنى التحرر من سيكولوجية “الأخ الأكبر”، ودعائية “الدخول الطوعي” في الإمبراطورية الروسية، وأيديولوجية الوحدة الأممية السوفيتية. وعوضا عنها أخذت تبرز ملامح “الخطر الروسي”، أي ملامح الوعي الباطني بوصفه الصيغة الأولية غير الناضجة والضرورية في الوقت نفسه للاستقلال والتكامل الذاتي، أي الفاعل بمعايير التجربة الذاتية والتطور التلقائي. وهي العملية التي تستثير بالضرورة المخزون القومي الكامن في الإرث التاريخي والثقافي. وهذا بدوره ليس إلا الوجه “القومي” للإرث الإسلامي، أو تزاوجهما. من هنا ضعف وعدم دقة التصورات والأحكام التي حاولت وما تزال تحاول البحث في “إسلام آسيا الوسطى “نسخة مشوهة أو بدائية أو عادية أو محاكاة لإسلام “تركي” أو “فارسي” أو “عربي” أو غيره. فعند ظهور الدولة الآسيوية الوسطى وبروز “النزعة التركية” الجديدة، أخذت بالانتشار آنذاك جملة من التصورات الدعائية القائلة، بان الظاهرة الإسلامية هي نتاج أو محاكاة لما يسمى بالنموذج التركي (الإسلام التركي) الذي يستجيب ويتطابق مع مهمات التحديث والعصرنة. وانه دين القواعد الثقافية، من هنا التأثير التركي على دول آسيا الوسطى والقوقاز. بينما وجد البعض في هذا التأثير دعاية لا تصمد أمام النقد العلمي، انطلاقا من أن تأثيره، في حال افتراضه فهو جزئي وفي المناطق ذات الأصول التركية الثقافية المشتركة، بمعنى انه لا علاقة له بطاجكستان. الأمر الذي دفع البعض للحديث عن تأثير النموذج الإيراني، كما هو جلي في الحالة الطاجيكية. وبالقدر ذاته جرى ويجري الحديث عن تأثير في “الإسلام العربي” من خلال استفحال دور “الوهابية” في كل مناطق آسيا الوسطى والقوقاز. أما في الواقع، فان هذا التأثير، رغم طابعه الطبيعي، أي بوصفه جزء مما ادعوه بالمركزية الإسلامية المعاصرة، لكنه يسيء فهم هذه الظاهرة من خلال إرجاع نشوءها وفاعليتها إلى عوامل قومية خارجية. أما في الواقع فإنها جزء من عملية قومية ودولتية وثقافية داخلية صرف. وليس مصادفة أن يضمحل ويتلاشى التأثير التركي بحيث يحصل على صيغة المعارضة الشديدة لفكرة استبدال “الأخ الروسي الأكبر” بآخر تركي. بل ويصل الأمر في حالة أوزبكستان أن تعارض التدخل التركي بصورة علنية. بحيث وصل الأمر برئيس الدولة إسلام كريموف إن اعتبر محاولة اغتياله الأولى مؤامرة تركية. والشيء نفسه يمكن قوله عن التأثير الإيراني أو العربي. مما سبق يمكن القول، بأن المسار الطبيعي والتاريخي للظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطى هو جزء من سياق التطور التلقائي للدولة والأمة والثقافة والدين ونماذجه المحتملة بوصفها جزء من حل الإشكاليات التي تواجههم بهذا الصدد. فقد كان تأثير العالم الإسلامي الخارجي جزئيا رغم قوته النسبية الأولية. وهي ظاهرة يمكن رؤية مثيلها أو نموذجها حال المقارنة السريعة بين الماضي والحاضر. فإذا كان تقاليد الحنفية والاشعرية قد تراكمت في آسيا الوسطى بأثر تقاليد حركة الإرجاء والثورة التي قادها آنذاك الحارث بن سريج، فان وحدة نسيها وإبداعها الفكري اللاحق، أي توليف تقاليد المرجئة والحنفية والمعتزلية والاشعرية قد جرى ضمن سياق الصراع الداخلي للمنطقة، رغم كونها كانت جزء من كل إسلامي ثقافي موحد بمعايير العقيدة الكونية للإسلام ومراكز الدولة المتنقلة للخلافة. بعبارة أخرى، إذا كان انتشار الحنفية في شرق خراسان وما وراء النهر مرتبطا بنشاط المرجئة، فان هزيمة الحارث بن سريج قد دفعت بهما إلى الانتشار في مدن بلخ ونسف ونيسابور وبخارى وسمرقند وغيرها. واستطاعت هذه العملية المعقدة أن تنتج شخصيات فكرية عظمى مثل البخاري والبزدوي والسرخسي والصدر الشهيد والماتريدي والزمخشري. إضافة إلى كوكبة الفلاسفة العظام أمثال الفارابي وابن سينا وعشرات غيرهم. وحالما ننقل هذه الظاهرة إلى العالم المعاصر، فإننا نقف من الناحية المجردة أمام نفس المقدمات فيما يتعلق بالتطور التلقائي. رغم اختلافها عما كان عليه الأمر في الماضي. غير أن لكل مرحلة تاريخية خصوصيتها. وخصوصية الظاهرة الإسلامية الحالية في آسيا الوسطى تقوم في أن الحركات الإسلامية السياسية فيها هي مكون جوهري في تكون الدولة وبناء المجتمع. إذ تعكس في نشاطها وخمولها، عقلانيتها ولاعقلانيتها، عمقها وسطحيتها، تاريخ وواقع الحركة الاجتماعية والسياسية في آسيا الوسطى نفسها. فمن المعلوم أن آسيا الوسطى الإسلامية ودولها المعاصرة المتكونة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، افتقدت لأكثر من مائتي عام تاريخها السياسي والدولتي المستقل. أما المرحلة السوفيتية فلم تصنع سوى نظم إدارية بيروقراطية لا تعرف معنى وقيمة الحركات السياسية المستقلة والمعارضة السياسية القوية. إذ لا تشبه دول آسيا الوسطى المعاصرة بعد خروجها من تحت ركام الاتحاد السوفيتي، على سبيل المثال، باكستان بعد خروجها من الهند. إذ لا توجد فيها حركات سياسية واجتماعية كبرى ومؤثرة (مثل الجمعية الوطنية الإسلامية، التجمع الثقافي الإسلامي، الجمعية الإسلامية المركزية الإسلامية في البنغال، التجمع الثقافي الإسلامي في كلكوتا) ولا شخصيات سياسية وفكرية متميزة (مثل سعيد احمد خان وحمد علي جنة وأبو الكلام آزاد، آغا خان، محمد إقبال، أبو الأعلى المودودي وعشرات غيرهم). إضافة لذلك أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى قطع الروابط الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية “المتكاملة” في كيان الدولة المركزية السابقة. وفي نفس الوقت أبقى هذا الانهيار على النخب السياسية السابقة للمرحلة السوفيتية بعد أن جرى إحداث تغيير في أولوياتها الأيديولوجية. وهو تحول لم يجد أمامه خيارا غير “اقتصاد السوق” “القومي”. فالنخب السياسية القديمة هي نخب بيروقراطية لم تتقن أسلوب النشاط السياسي الديمقراطي وتقاليد الحقوق السياسية. لهذا تراكم في رؤيتها عن الدولة القومية واقتصاد السوق الليبرالي خليط غير متجانس من القيم والمفاهيم والممارسات أدت إلى بناء نظم فردية في الحكم. فإذا كان الانبعاث القومي هو الصيغة المباشرة لتوحيد القوى الاجتماعية والسياسية في بداية ترسيخ أسس الدولة المستقلة، فان استمراره يفترض تأسيسه الأصيل، وبالأخص بالنسبة لدول آسيا الوسطى. وهو تأسيس يفترض استناده إلى المكونات الواقعية والضرورية في نفس الوقت مثل المكونات القومية التركية والفارسية) والثقافية(الإسلامية). إلا أن النخب السياسية السائدة لم تستند في الواقع إلا على التقاليد الروسية السياسية(القيصرية والسوفيتية). وبرز ذلك بقوة مبالغ فيها في إتباع سياسة ترسيخ أسس وتقاليد الحكم الفردي ومحاربة المعارضة ومحاولة تصفية مختلف أشكالها ومستوياتها. وليس مصادفة أن تقف هذه النخب السياسية إلى جانب “الأعداء التاريخيين” للإسلام في المنطقة ضد “الأصولية الإسلامية” (باستثناء جزئي من جانب تركمنستان). لذا نجدها تتفق مع السلطة الروسية في محاربة ما يسمى “بالإرهاب الإسلامي”، وتؤيد الهند في “تخوفها من الحلف الأصولي الإسلامي في آسيا الوسطى”، وتتعاضد مع السلطة الصينية في “تخوفها من الأصولية الإسلامية في المنطقة”. بينما لا يتخوف أي منهم من التطرف والإرهاب الفعلي للأرثوذكسية الروسية والهندوسية والبوذية في مواقفهم من الإسلام والمسلمين! تعكس مواقف النخب السياسية السائدة حالياً في دول آسيا الوسطى انسلاخها الواعي وغير الواعي عن المكونات الجوهرية للذات الثقافية الخاصة. وتشير في الوقت نفسه إلى استمرار تقاليد قوة السلطة وسلطة القوة (المميزة للتقاليد السياسية التركية والقيصرية والسوفيتية)، لا معايير الرؤية الإستراتيجية لقوة التقاليد الثقافية وقيمتها بالنسبة لبناء الدولة العصرية، أي أن النخب السياسية الحالية لا تدرك قيمة “القفزة النوعية” في مشاريع البدائل الإسلامية، بوصفه حدساً ثقافياً عميقاً للانتقال من سيكولوجية العوام إلى فرضيات البدائل العقلانية واجتهادها الدائم. لكنها تبقى في الوقت نفسه جزء من تجربة التطور الطبيعي والتلقائي المعقد لمنطقة آسيا الوسطى ودولها الحديثة. إضافة لذلك، أن “البدائل الإسلامية” لم تتجسد بعد في أيديولوجيات سياسية متكاملة. لأنها لم تتحول بعد إلى جزء عضوي في الوعي الاجتماعي والسياسي لدول آسيا الوسطى. أما وجودها السياسي بهيئة أحزاب وحركات وتجمعات وأفراد، فانه يشير إلى الملامح الأولية لهذا التحول. فقد ظهرت الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في آسيا الوسطى كجزء من صيرورة التعددية الاجتماعية والفكرية بعد انحلال السلطة السوفيتية وأيديولوجيتها الرسمية الوحيدة. وأدت الخصخصة وانحلال احتكار العمل السياسي إلى تمايز اجتماعي وعقائدي وفكري افرز تنوعاً سياسياً شكلت الحركات الإسلامية طيفا من أطيافه موازيا للوعي السياسي القومي في دول آسيا الوسطى الإسلامية. فقد أنتجت دول آسيا الوسطى في مجرى هذه العملية تنظيمات سياسية عديدة وأنتجت أيضا نموذج من علاقة الدين بالسياسة. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي على ما يقارب عشرين تنظيماً سياسياً إسلامياً، سبعة منها في أوزبكستان، وستة في كازاخستان، وأربعة في قرغيزيا، واثنان في طاجكستان، وواحد في تركمنستان. لكن ما يميز اغلبها هو كونها كلها أحزاب محلية وصغيرة، وتسعى لتأسيس أحزاب وطنية، ومنهمكة أساسا في ميدان النشاط السياسي. والاستثناء الوحيد بينها لثلاثة أحزاب هي حزب النهضة الإسلامي (طاجكستان)، والحزب الإسلامي لتركستان (أوزبكستان)، وحزب ألاش (كازخستان). إذ تتصف هذه الأحزاب بوجود برنامج سياسي واضح، وتمتلك وسائل أعلام خاصة بها إضافة إلى تنظيم سياسي حزبي، رغم عدم الاعتراف الرسمي بها. إضافة لذلك، أن هذه التجمعات والأحزاب أخذت في التوسع من حيث ديناميكيتها الداخلية والخارجية، بمعنى الاعتراف بها داخلياً وتوسيع صلاتها الخارجية بالعالم الخارجي بشكل والإسلامي بشكل خاص. وكذلك انهماكها في توسيع المدى النظري عير ترجمة المصادر الفكرية القديمة والحديثة. طبعاً أن هذه الأحزاب والحركات لها تاريخها الذاتي في نوعية ما يمكن تسميته “بالإسلام الروسي” و”الإسلام السوفيتي” الذي أنتج “إسلاما شعبيا” إلى جانب أو بالضد من “الإسلام الرسمي”. ومن الممكن تتبع ذلك على ظهور تيارات وشخصيات مؤثرة في الظاهرة الإسلامية لآسيا الوسطى بعد استقلالها وظهورها الجديد بهيئة دول وقوميات. ومن بينها تجدر الإشارة إلى تيار “أهل الحديث” الذي أكثر من مثله رحمة الله العلامة (ت-1981) الذي كان تلميذا للحجي دومله، الاسم المستعار لمحمد هندساتني رستم. (1892-1989) احد أهم وأشهر ممثلي التيار الحنفي. وعليه تخرج اغلب الشخصيات الدينية المؤثرة في آسيا الوسطى. إذ تخرج عليه عبد الولي مرضاييف الذي انتقل لاحقا إلى معسكر “الوهابية” والأخذ بمهاجمة أبو حنيفة والشافعي على لسان ابن حنبل. وتجدر الإشارة أيضا إلى تيار “أهل القرآن” الداعي بالرجوع إلى الأصول. وكذلك تيار الاكرمية، الذي كان يناقش أساسا ويؤسس لأهمية قضايا العبادة الصرف عبر تشديده عل أهمية معرفة الصلاة وكيفية القيام بها والتمسك بشروطها وما شابه ذلك. ومهاجمة ما يسمونه بالخرافات والبدع. كما تجدر الإشارة إلى الفرقة الصوفية (نورجيلار) مريدو بديع الزمان سعيد نورسي (1870-1960)، التي كانت تنشط في طشقند وسمرقند، إلى جانب النقشبندية التي تمركز نشاطها في وادي فرغانه. أما الأحزاب السياسية فمن الممكن الإشارة إلى كل من حزب إسلام لاشكالاري (جند الإسلام) الذي انقسم لاحقا إلى تيارين الأول هو حزب “العدالة”، الذي حاول ضبط حدود الحياة بطريقته الخاصة وفرض شروط رؤيته على الناس. حيث جرى القضاء عليه عام 1992. والتيار الوهابي، الذي كان يوجه اهتمامه الرئيس صوب قضايا الدين والعبادة. وقد كان قائدهم آنذاك طاهر يلداشيف، الذي قام بتشكيل خلايا من خمسة إلى عشرين شخصا. حيث استطاع تنظيم ما يقارب ستين خلية. وبعدها نشأت الكثير من الأحزاب الصغيرة التي سرعان ما اندثرت مثل (حزب الله)، الذي كان استمراراً ونسخة من تيار التوبة، الذي نشط بين أعوام 1992-1995، حيث بلغ عدد أعضائه حوالي 300 شخص. أما حزب التحرير الإسلامي (ذو الأصول العربية) فقد ظهر عام 1990. غير أن اللوحة السياسية لا تنحصر بالأحزاب والتيارات والحركات الإسلامية، بل تشتمل أيضاً على حركات ثقافية (وسياسية) ليست حزبية. وتشترك في الحياة الاجتماعية وتتميز بقدر معقول من الاعتدال في الفكر والسلوك العملي. —————-

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − سبعة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube